Culture Magazine Monday  03/11/2008 G Issue 259
فضاءات
الأثنين 5 ,ذو القعدة 1429   العدد  259
 
إرساءُ أُسُس.. إدواردو جاليانو
تأسيس الجَمال
ترجمة غازي أبو عقل

 

 

إنها ماثلةٌ هنا، منقوشة على جدران المغاور وعلى سطوحها.

تُمثّل هذه الرسومُ ثيراناً وحشيةً ووعولاً ودببة وخيولاً ونساءً ورجالاً. هي لا عُمْر لها. وُلدت قبل ألوف وألوف من السنين، لكنها تُولد من جديد كلُّ مَرَّةٍ تَتأمَّلُها فيها نظرةٌ جديدة. كيف استطاع أولئك الرجال، أسلافُنا الأبعدون، الرسمَ بمثل هذه الدقة والرشاقة؟ كيف استطاع أولئك الشرسون الذين صارعوا الحيوانات المتوحشة بأيديهم العارية إبداع رسوم مُفعمةً بالحُسْن والجمال؟ كيف استطاعوا مَدَّ هذه الخطوط الخفيفة التي تبدو أنها تنبثق من الصخر وتُفلِت منه؟ كيف استطاع أولئك الرجال فعل ما فعلوا؟ ما لم يكن هاتيك النساء...؟

تأسيس فَنّ رسمكَ أنتَ

في سرير على خليج كورنتوس(1)، تضطجع امرأة تتأمل جانبَ وجه عشيقها الغافي. وعلى ضوء النار ينعكس ظِلُّه على الجدار. غير أن العشيق سيرحل مع إشراقة الصباح، سيذهب إلى الحرب، سيذهب إلى الموت. سيذهب ظِلُّه معه، رفيقُ رحلته، وسيموت معه.

ما زال الليل يرخي سُدوله. تتناول المرأة جمرةً من النار وترسم محيط تقاطيع ظل وجه عشيقها. هذه القَسمات لن ترحل أبداً. ومع أن المرأة تعرف أن القسمات عاجزة عن ضمها بين ذراعيها إلا أنها لن ترحل أبداً... (القسمات أعني).

تأسيس الكلب أدبياً

آرچوس، كان اسم عملاق بمائة عين، وهو أيضاً اسم مدينة إغريقية قديمة عمرها أربعة آلاف سنة. لما عاد أوليسوس مُتَنكراً إلى إيتاكا (2)، كان الوحيد الذي عرفه على الرغم من تنكره، يُدعى آرچوس أيضاً. يحكي لنا هوميروس أنه بعد حروب كثيرة وعبور بحار وهو يتظاهر بكونه متسولاً نحيلاً رث الثياب، عاد أوليسوس ودنا من داره. لم يعرفه أحد. باستثناء صديق ما كان بوسعه لا أن ينبح ولا أن يسير ولا أن يتحرك. كان آرچوس راقداً أمام باب حي العبيد، مُهملاً تنهشه دُوَيْبات القُراد منتظراً الموت. لما رأى هذا المتسوّل يقترب، أو ربما أحَسَّ باقترابه، رفعَ رأسَه وهَزَّ ذيله.

تأسيس الهيمنة الذَّكَرية

انبثقَتْ أثينا من وجع رأس زوس. والدها الذي تَفَتَّح لكي تولد. فهي كُوِّنَتْ دون أم. بعد انقضاء زمن طويل، عندما اضطرَ آلِهةُ الأولمپ (الوثنيون ) إلى إصدار حُكمٍ في قضية شائكة، تبين أن صوت أثينا كان حاسماً. كانت إليكترا وشقيقها أوريست قد اجتَثا رأسَ أُمهما بضربة بَلْطَة، ثأراً لوالدهما. قَدَّمتْ الاتهام ضدَّهما إلاهات الثأر الثلاث (3)، وطالَبْن برجم القاتلَيْن حتى الموت، بذريعة أن الذي يقتل أُمَّاً لا يستحق الصفح ولا الغفران.

توَلَّى أپولون عبءَ الدفاع، مُبيناً أن المدَّعَى عليهما هما ابنا امرأة غير جديرة لا بل مخزية، وأن كونها أماً ليس له أهمية. وأضاف: الأم ليست إلا الأُخدود الهامد الذي يرمي فيه الرجل نُطَفَه. صَوَّتَ ستةٌ من أعضاء هيئة محكمة الآلهة الثلاثة عشر إلى جانب إدانتهما. وطالبَ ستةٌ آخرون بالصفْح عنهما. فحسمت أثينا الأمر وصَوَّتت ضد الأم، هي التي لم تعرف لها أماً، مُخَلّدةً بذلك هيمنةَ الذكور على أثينا.

تأسيس الحكايات الخُرافية

في بداية القرن الثامن عشر كَتبَ دانيال دوفُو D. Defoe مؤلف (روبنسون كروزو) بعضَ الدراسات حول الاقتصاد والتجارة. وفي واحدة من دراساته اشتُهرت كثيراً تغنَى دوفُوِ وأشاد بالدور الذي أدَّتْه حمايةُ الدولة في تنمية صناعة النسيج البريطانية وتطورها: (لو لم يُنشيء الملوكُ الحواجزَ الجمركية، ولو لم يجبوا الضرائب التي وَلَّدت ازدهارَ أصحاب المصانع، لبقيت انچلترا مصدراً لتوريد الصوف الخام إلى الصناعة الأجنبية).

استندَ دوفُوِ إلى التنمية الصناعية في انچلترا، لكي يتصَوَّر عالمَ الغد على شكل مستعمَرة فسيحة خاضعة إلى السوق.

في ما بعد، مع تَحَوُّل حلم دوفُوِ شيئاً فشيئاً إلى واقع، بذلت السلطة الامپريالية كل ما في وسعها لكي تمنع البلدانَ الأخرى من سلوك الطريق نفسها، بالخَنْق أو بالمدفع.

قال الاقتصادي الألماني فريدريك ليست F. List: عندما وصلَتْ (انچلترا) إلى الدور الأعلى رفسَتْ السلَّم الذي صعدت عليه.

هكذا اخترعتْ انچلترا حريةَ التجارة. وفي أيامنا هذه تستمر الدول الغنية في رواية هذه الخُرافة للدول الفقيرة، طوال ليالي الأرق...

تأسيس النُّطْق

العام 1870 بعد حرب طالت خمس سنوات، مُحِقت الپارچواي باسم حرية التجارة. من بين أنقاض الپارچواي بقيَ المهمُ على قيد الحياة. وجاءت النهضة من بين الموتى. لقد بقيتْ اللغةُ الأصلية، لغة چواراني، وبقي معها اليقين أن النطق مقدس (أن اللغة مقدسة).

تحكي أكثرُ قصص التراث قِدَماً أن زيزَ الحصاد الأحمر غَنَّى، والجرادةُ الخضراءُ غَنَّت، والحَجَل غنّى، وهكذا غَنَّت شجرةُ الأرْز: من قلب شجرة الأرز ترَدَّدت الأغنية وتَرَجَّعَ النشيد الذي يدل إلى أوائل الپارچوانيين. إنهم لم يوجدوا قبلئذٍ.

تأسيس هولي ود

على صهوات جيادهم، وجوهُهم مُقَنَّعة، يرتدون عباءات بيضاء فضفاضة، وحول أعناقهم صلبان بيضاء وفي أيديهم المشاعل: أمام هولاء الفرسان الساعين إلى الثأر، المدافعين عن عفة السيدات وعن شرف الرجال يرتجف السودُ الشرهون إلى النساء البيضاوات.

أيام كان إعدام السود بلا محاكمة في ذروته، ظهر فيلم دايد وورك چريفيث (ولادة أمة) كنشيد من التعاويذ إلى جماعة كوكلاكس كلان(4) Ku Klux Klan.

هذا الفيلم هو الإنتاج الضخم الهوليودي الأول، وأكبر نجاح مالي في عصر السينما الصامتة. كما كان أيضاً الفيلم الأول الذي يُقَدَّمُ عَرضُه الأول في البيت الأبيض، حيث صَفَّقَ له الرئيس توماس وودرو ويسلون ولقد صَفَّق للفيلم، وهو يصفق لنفسه: هذا الرئيس المُتَغَنّي بالحرية كان مؤلف النصوص المهمة التي كانت تواكب المَشاهِد الملحمية والحماسية الني حُشدَتْ في الفيلم (كانت الحوارات والشروح تظهر في أسفل الشاشة أيام السينما الصامتة).

تشرح كلماتُ الرئيس كيف أن انعتاق العبيد قد شكَّلَ في جنوب الولايات المتحدة انقلاباً حضارياً حقيقياً. الجنوب الأبيض تدوسه أقدام الجنوب الأسود.

منذئذٍ سادت الفوضى لأن السود (هم أناس يجهلون أعراف السلطة واستعمالاتها ولا يدركون إلا غطرَسَتها).

غير أن الرئيس يجعلنا نستشف ولادةَ عظيم من عظماء كوكلاكس كلان أبصر النور أخيراً. وفي نهاية الفيلم يهبط يسوع نفسه من السماء ليمنحَ برَكَتَهُ.

تأسيس الغرب الأقصى

(Far west الأمريكي)

في أفلام الغرب الأمريكية (وسترن) كانت المسدسات تطلق رصاصاً أكثر عدداً من الرشاشات. وفي مناظر البلدات، المصنوعة من الورق المُقَوَّى المعجون، حيث تدور القصص المُصطَنَعَة الفظَّة، يتفَوَّق السأمُ غالباً على الحركة.

رعاة البقر الصامتون والبارعون في ركوب الخيل، الذين يجتازون الأمدية لكي يُغيثوا النساء الجميلات (في السينما) كانوا في واقع الحال عمالاً زراعيين يكاد يقتلهم الجوع، صحبتهم الأنثوية الوحيدة هي الأبقار التي يصطحبونها عبر القفار، يخاطرون بحياتهم لقاء أجور لا تسد الرمق. هؤلاء ما كانوا يشبهون، لا من قريب ولا من بعيد لا غـاري كوپر ولا جون واين ولا ألان لاد. كان رعاة البقر في الواقع من السود أو المكسيكيين أو من البيض، أسنانهم مهترئة لم يمروا في حياتهم بين أيدي المزَيّنات المهتمات بتجميل النجوم.

أما الهنود المجبرون على أداء الأدوار الصامتة والشريرة إلى أقصى حدود الشر، فما كانوا يشبهون مطلقاً أولئك الحمقى ذوي الريش الملطخين بالألوان الفاقعة الذين لا يعرفون إلا الوَلوَلة حول عربات المسافرين التي تنهال عليها السهام.

الغرب الأقصى Far west هو اختراع حفنة من المنتجين جاؤوا من شرق أوربا.

هؤلاء المهاجرون ذوو الإحساس التجاري الحاد، كانت لهم أسماء منها ليمَّل Laemmel وفوكس Fox ووارنر Warner وماير Mayer وزوكور Zukor. من مكاتبهم في هوليود صنعوا أضخم خرافة عامة شاملة في القرن العشرين.

هوامش:

ادواردو چوليانو كاتب من الأوروچواي. والنص مُستخلص من آخر مؤلفاته: (مرايا. قصة شبه كونية) Espejos. Una historia casi universal.. الناشر: SIGLO XXI de Espana. Madrid 2008.

نشرت النص الشهرية الفرنسية (لوموند دبلوماتيك). عدد حزيران يونيو 2008.

1- كورنتوس: اسم مدينة إغريقية وخليج قرب قناة بالاسم نفسه تصل منطقة پبيلپونيز باليونان، كانت خصماً لأثينا وإسبارطة، ازدهرت في القرنين السابع والسادس ق.م. دمرها الرومان في 146 ق.م.

2- إيتاكا: مدينة إغريقية في الجزر الإيونية. ما زالت موجودة. تعرف بأنها إيتاكا هوميروس وطن أوليسيوس.

3- في الأسطورة الإغريقية إلاهات الثأر الثلاث: أليكتو وتيسيفوني وميجير.

4- كوكلاكس كلان: جمعية عنصرية من البيض المتعصبين في مناطق جنوب الولايات المتحدة، كانت تطارد السود وتضطهدهم وتشنقهم بلا محاكمة على أغصان الأشجار.

اللاذقية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة