Culture Magazine Monday  03/11/2008 G Issue 259
مراجعات
الأثنين 5 ,ذو القعدة 1429   العدد  259
 

استراحة داخل صومعة الفكر
أخيراً بدأت ..
بسام دعيس أبو شرخ

سعد البواردي

 

 

134 صفحة من القطع المتوسط

أن نبدأ أخيراً خير من أن لا نبدأ أبداً .. وفارس رحلتنا بسام بدأ أخيراً .. هكذا عَنْون لديوانه .. هل إن بدايته كانت متأخرة في زمانها ومكانها؟ أم أنها متأخرة في ظهورها .. متقدمة في بوحها ..؟ هذا ما سوف يكشفه لنا من خلال مشاعره التي أودعها شعره ...

المدخل إلى الديوان يقول:

أنت عن أمسك دوما مغترب

تسهر الليل بفكر مضطرب

فدع الآهات، واترك حيرة

جعلت عمرك كالبيت الخرب

لا تثر في النفس ذكرى قصة

اكل الدهر عليها وشرب ..

واقض هذا الليل عبداً ذاكراً

واهجر الوسواس واسجد واقترب

لا أدري أية قصة يريد طيها من ذاكرته .. ما أدريه أن الحياة تاريخ .. والتاريخ ذاكرة .. والذاكرة ذكريات يحسن أن لا تُطوى حتى في وجهها المعتم، لا لأنها تستحق النسيان .. ولكن لأنها نقطة ولقطة حركة يجب أن لا تغيب عن الذاكرة كدرس مستفاد لما بعده.

(جمر الصبر)

طاغ هو الشعر بركان يزلزلني

فاستحيل شظايا في قوافيه

اكون في كل حرف منه داعية

للحب .. والحب سارت لي اغانيه

(استحيل) يا عزيزي تعني المحال ... والصحيح أن تتحول إلى شظايا ..

شاعرنا راح يقترب ويقترب أكثر من واقع عالمه الموبوء حيث الجور، والقهر، وفقدان العفة وغيرها .. كلها:

تكالبت حول وجه الطهر حاقدة

كواسر الزمن العاتي تعاديه

تلك هي سنّة الحياة منذ أن بدأت .. صراع بين الخير والشر .. بين الحرية ودعاة العبودية، الكون وعاء لهذا الصراع الأبدي المزمن:

أيشرب الكون كأس الذل مترحة

ولا تؤرق عينيه مآسيه

نعم يشرب .. ويشرب .. ولكن بيد الذين استخلفوا على الأرض فعاثوا فيها فساداً .. وإفساداً ..

من دائرة الكون المضطرب إلى واسع أخذنا معه إلى ركن قصي نستريح فيه معه تحت أفياء النخيل ..

حان اللقاء فها هي الأحساء

شمس تفر أمامها الظلماء

أعدد واطلب حضنها متلهفا

والقلب أوهى نبضه الاعياء

ان يتحدث عن بُعد .. وابعاد .. بلغة الوحشة والاشتياق ..

منذ افترقنا والقصائد مرة

والحب جرح والغناء رثاء

منذ افترقنا والحنين مراكب

والحزن بحر ما له ميناء!

بهذا الحنين المغموس في كأس الأنين يبث شكواه .. لا أدري إن كان .. ما أدركه أن شيئاً ما حال بينه وبين ما يشتهي.

أنتِ الوفية والظروف خؤونة

انتِ السخية حين عزَّ سخاء

ولكنه عاد .. والعود أحمد:

احساء جئتك ذات يوم خائفا

والخوف يعرف طعمه الغرباء

فوجدت فيك الأمن حتى خلتني

في حضن أم قلبها معطاء

نعم .. كل وطننا أحساء يحتضن القادمين إليه .. القاطنين فيه .. لأن تربة حب لا مكان فيها لغربة نازل ..

(على الشاطئ)

هل يفهم الليل ما ينتاب إحساسي

في هدأة الكون أو في غفلة الناس؟

وهل يفسر موج البحر قافية

نقشتها فوق صخر الشاطئ القاسي؟

تساؤلات يطرحها بينه وبين نفسه .. يتلمس الإجابة عليها

أم أنها مثل باقي الناس قد نسيت

قصائدي ورمت في البحر كراسي؟

وبدأت رحلة الأشجان .. ولا أقول النسيان .. فمازال في الأمل بقية.

يا رحلة الشجن المجهول مقصدها

كفى ضياعا فقد فاضت به كاسي

صوتي يضيع ولج البحر يشربه

وكم أصارع في هذي الدجى يأسي

مازلتَ تصارع فأنت على قيد الحياة لا خوف عليك، الخشية أن تموت وانت تتحرك في صمت الأموات .. عش لأحلامك وأمانيك.

يراودني مع الشجن التمني

وتدنو بسمة الآمال مني

فأفتح للهوى شباك قلبي

ويغدو الحب ألحاني وفني

ويَطِّرح التشاؤم بعض وقت

لعل النفس للدنيا تغني

ويصل بنا إلى بغيته:

أريد من الزمان قليل وقت

أعايشه بقلب مطمئن

فها هي بهجة الأيام تدنو

وها أنا نلت وصلاً او كأني

الزمان ظرف .. لا يمنح .. الإنسان هو الزمان الذي يمنح ويمنح بمدى قدرته على مواجهة حسابه ومتاعبه .. ألمس من بيتك الأخير أنك تقترب من حلم ترنو إليه ..

(سقط السيف)

سقط السيف فالحمى مستباح

وهوى المجد فالصغار بواح

دعك منهم يا نافحاً في رماد

ليس يحيي موتى القلوب صياح

أترى من تعودود العيش أعمى

سيبالي لو اطفئ المصباح؟

ويقودنا معه إلى وقفات باكية .. بين ذكريات تاريخية تحولت إلى هشيم تذروه رياح الوهن والضعف والاستكانة .. إلى أكثر من هذا:

آه بغداد قد دهتك الدواهي

وتوالت على الجراح جراح

كل حب لناصبيك شعار

كل حمل من الغريب سفاح

حفر الموت بين يمنيك كهفا

واستبدت في ليلك الأشباح

وانبرى ناصب يسومك خسفا

وانتشى غاصب بعرضٍ يباح

مشاهد جديدة تضاف إلى مشاهد أخرى عمرها أكثر من نصف قرن من الزمن.

اختكِ القدس منذ خمسين حزنا

كم رثوها وكم بكوها. وناحوا؟!

يا عزيزي (في الفخ أكبر من عصفور) .. رياح التدمير .. أي التغيير قادئمة .. ما دامت جراح ورياح الاستسلام قائمة .. ولن نفقد الأمل فمتغيرات الحياة لها حكمها .. وأحكامها التي لا تخطر على بال أحد .. تتجاوز البعض من قصائده .. (موكب الشهداء) و(بالأمس كان) و(عن طريق الحب) و (هل وعيت الدرس) مضامينها لا تبتعد كثيراً عن الجرح العربي، والبعد العربي، والشكوى من مرارة البعاد .. اختار لنا الماضي .. الرحلة إلى الماضي.

يا نوم ويحك هل خاصمت اجفاني

والصدر مرجل آهات وأشجان؟

اروم ساعة نوم استعيد بها

رؤى الهناء التي كانت لوجداني

كيف الوصول إليها بعدما انقطعت

بنا السبيل إلى رمل وكثبان؟

دفتر أشعاره لم يؤانسه .. وإنما أذكى النيران في صدره، الحبر جف .. وريشة قلمه موحشة .. وأوراق شعره وأوزان شعره أخذتها الريح أيما مأخذ .. ذكريات طريفة من ماضي شاعرنا الأردني طرحت عليه هذه التساؤلات؟

فهل سأرجع للأطلال اندبها؟

وهل سأمدح من بالجود يلقاني؟

وهل أغني لرعد أو أهيم بها؟

وهل سأقرأ للنعمان ديواني؟

وهل ..؟ وهل؟ وهل؟! كثيرة تلك التساؤلات المطروحة توصله إلى حقيقة واحدة مردها:

حبيبتي لا أراني نلت غير شجا

وغربة قطعت بالفم شرياني

وحدي على هامش الأيام يحبسني

قيد الضياع وليلي بات سجاني

يموت شعري ولا يرويه راوية

وتنطوي صفحتي والكل ينساني

إلاك انتِ .. فأنتِ الشعر مؤتلقا

وانتِ نبع احلامي. وأحزاني

خيراً اخترت، فالعالم من حولك ومن حول غيرك مشغول بنفسه ما بين جلاد وضحية، وما بين طامع وخانع .. وما بين واهم وواهن ..

سؤال:- مقطوعة تأملية تتحدث عن الحالة الشعورية والشعرية التي يعيشها كل شاعر بين هواجسه ووساوسه:

حينما أسأل عنها ازعم

انها وَهْم بشعري يُرسم

هل تراني في جوابي ادعي؟

أم اقول الحق؟ ربي اعلم

ويصف نفسه وهو يعيش حالة التأمل:

عندما أكتب أحيا حالة

فوق ما يُدرك أو ما يُفهم

لا أرى في الشعر حدا فاصلاً

بين ما أحيا به أو أحلم

هي طيف من خيالي صغته؟

أم هي الواقع لحم ودم

هي بين بين .. ما نحلم به .. وما لا نقدر الوصول إليه والحصول عليه .. إنها المقدرة التي توضع على المحك في مواجهة مجهول لا نملك إخضاعه للرغبة .. ولا للرهبة.

وفي رحلته عن الحب ين وحشة الليل .. ووحدة الدرب تتداعى لديه الصورة ملونة برداء الصمت الموجع.

غاب الاحبة عن عينيك واحتجبوا

فكيف يغمض جفن شده السهر؟

والصمت يخفق ليلا مثقلا ألما

والبيت كهف به الأنوار تحتضر

ماذا ابقى شاعرنا لنفسه، ولنا معه .. ونحن في أمس الحاجة إلى مسحة نور .. وفسحة أمل، تشعرنا بأولئك الأحبة الذين أودعهم حبه ..

هم الأحبة .. من في الكون يعدلهم

فلا يماثلهم بدو ولا حضر

أنا الحبيب الذي يهفو إلى زمن

تأتي بأفراحه الأيام والقدر

فهل يعود إلى جنات بهجته؟

والحب يمنحك ما كان ينتظر؟

حياتنا دون وصل كلها تعب

ولا رحيق إذا لم ينبت الزهر

حاول أن تصل ما انقطع إذا ما كان في مقدورك وصله .. أما التغني على الأطلال فنهاية فشل تأباه أريحية الحب لمن يحب، (ملبدة سمائي) نفس الغيوم، نفس الإيقاع .. ونفس الأوجاع لا تضيف جديداً في الرؤية.

(لو تعلمين) مقطوعة حوارية:

همست: لماذا يكتب الشعراء ما لا يشعرون؟

تبا لهم .. كم يدعون .. ولا نراهم يفعلون

هذا ما قالته أمام الحضور وقفلت راجعة تاركة لهم الدهشة دون أن تبوح لهم بما تكابده من

وجع دفين .. تاركة لهم هذا السؤال من تكون

يا شاعر الحب الذي لم يدرك الحب المبين

ضيعت عمرك في بحور الشعر يحملك السفن

وغدا هواك قصيدة حيرى ولحنا مستكين

الكثير قالته .. والكثير أيضاً قاله لها:

يا حلوتي مهلاً فإني قد قرأتك من سنين

إني أحس بكل ما تبدين أو تكتمين ..

أنا في خضمك شاعر قتلته أمواج الشجون

يا حلوتي .. قبل اتهامك لي .. ألا تتدبرين؟

لو كنت أمعنت التفكر كنتِ حتما تعذرين

خلاصة الخلاصة لهذا الحوار .. الذي انتهى دون قرار .. (نداء الأشواق) و(في الخريف) و(أغلى الأسماء) ندعها لداعي الوقت ونتوقف مع (عيون)

كلما عالجت جرحا من عيون

قبل أن تبرأ ترميني سواها

نظرة تنفي لأسري وانقيادي

ان للعينين فعلا لا يضاهى

بل هو السحر تعالى وتسامى

فوق (هاروت وماروت) وتاها

هل بهذا الكون آيات جمال

فاقت العينين أو دانت سناها؟

لو كتبت الشعر طول الدهر فيها

لم أكن أبلغ شيئا من مداها

ولا نحن أيضاً نقدر على الإضافة ..

ومع (فراشة الحلم) التي تحوم حوله:

بعينيك القصائد ألتقيها

فأسرقها وارجع أدعيها

هما بحري الذي استخرجت منه

لآلئ ما وجدت لها شبيها

أملهمتي وسيدة القوافي

وآفاقي التي حلقت فيها

إذا غابت عيونك أعجزتني

بحور الشعر مهما اقتفيها

والحالة هذه يعود إلى عينيها فضل شعرك وجزالة لفظك .. وحس توظيفك لمفرداتك ..

شاعرنا بسام أبو شرخ أخذنا سوياً معه من بحر إلى بحر .. ومن عشق إلى عشق .. خشينا الغرق بعد تصبب العرق من لهث السير .. سنحاول البحث عن جديد .. عن وجه آخر لشعره إن وجدنا .. هذه واحدة: (أنا والعذاب).

سابحا في مجرة الكلمات

اصنع الشعر زورقاً للنجاة

وأغني وخافق الكون يصغي

فتروي عبر الفضا اغنياتي

يطرب الليل للقصيد ويصفو

باختيال مردداً قافياتي

ايها الليل كن عليَّ شهيدا

وارو شعري ولا تضع كلماتي

ونحن في رفقتك أيضاً شهود .. روينا شيئاً من شعرك الجميل .. ولم نضع كلماتك لأنها لا تقبل الضياع

(كيف التسامح) واحدة من محطات سفرنا الأخيرة

يا من هدمتِ كيان روحي

وحرقتِ اشرعة الطموح

ها قد حملت حقيبتي ..

ويدي على القلب الذبيح

ورجعت للصحراء أصحبها

وتصحبني جروحي

هل تجنحين إلى التراخي

بعدما دمرتِ روحي

أكسرتِ دفة مركبي؟

وسألتِ عن سبب الجنوح؟

الحب مات فلن يضيركِ

أن تسري أو تبوحي

أني التسامح .. انني

لمن امتلك قلب المسيح

هذا قرارك .. وشأنك .. لا دخل لنا في شؤون غيرنا حتى ولم كان مجرد أبيات خوفا من أن تصاب بالانهيار

أخيراً .. مع تساؤلات طفلته ديمة التي تساءلت بمرارة عن طول غيابه

عيون ديمة يا ميناء اشواقي

ووجه ديمة يا فجري واشراقي

كبرتِ يا طفلتي .. والبُعد يحملني

جناحه بين آفاق وآفاق

يا لهفة الشوق قد مزّقت أشرعتي

فهل تريدين قبل الوصل إغراقي؟

يعرفنا بابنته:

هي ابنتي فقدت اسباب ضحكتها

وقلبها الغض لم يحفل ببراق

يتيمة قبل موتي آه يا زمني

كوردة ذبلت في غيبة الساقي

حزينة .. في وجوه الناس باحثة

عني لترتد عيناها بإحقاق

وكلما شاهدت طفلا ووالده

تطأطئ الرأس في حزن واطراق

تقول اماه هل حقا لدي اب

يعود يوما فتنمو خضر اوراقي

كم قلت للعيد والأحزان تسجنني

يا عيد ان ابي آت لإطلاقي

ومرَّ عيد. وعيد دون عودته

والقهر يأكل احلامي واشواقي

ويعرفنا بنفسه كبطل لمأساة البعاد: وهو يجاد بها:

بنيتي والليالي كم تعذبني

والسعد ميعاده ميعاد آفاق

والله ما اخترت كأس البعد مترعة

كأنما حمم تغلي بأعماقي

سعيت في الأرض ارجو العيش في شرف

وقد ابت غيره نفسي واخلاقي

يا شاعرنا العربي الأردني بسام دعيس أبو شرخ .. في ديوانك (أخيراً بدأت) كان لنا معك إبحار في بحر الحياة كنت ربانه قدته باقتدار حتى مرفأ الأمان .. لك الشكر .. وطيب الذكر على روحك الشاعرة الماهرة.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 ـ فاكس 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة