Culture Magazine Monday  07/04/2008 G Issue 242
فضاءات
الأثنين 1 ,ربيع الاول 1429   العدد  242
 

بانوراما
عرفان نظام الدين:
الصحافي.. غارس المعنى ونحات الكلمة

 

 

عبدالله عبدالرحمن الجفري

يعتريني وقت (عتب)، لكنه كالمزن في انسكابه على أرضي العطشى إلى تواصل الأصدقاء المحبين.. أفرح بهذا (الحضور) للحب حتى لو كان عتباً، فهو: غصن مفعم بالاخضرار!!

وهذه المرة: اعتراني وقت العتب من شتاء لندن الذي أحسبه اليوم قارساً، لكن الكلمات التي حملته -كعادته من كتبها لي- حفلت بالدفء، ولا أحسبه لذع الجمرة.. فكاتبها شاعر وصحافي كبير، أعتز كثيراً بمتابعته لما أكتب، وبمداخلاته التي يرغدني بها... وعندما يحمل الفاكس رسالة منه: أحتفي بهذا الحضور للحب.

والعتاب بيني وبين الحبيب عرفان نظام الدين يضاعف الحب.

وكتبت له في غيابه:

- قبلت عتابك... وستجدني أركض إليك بقضي وقضيضي، وذنبك على جنبك، لكني فرحت بهذا الحضور للحب منك، وكأنه (صبابة) تروي هذا الظمأ المتفشي!!

شكراً.. لا تكفي!!

الرسالة المرفقة كنت سأرسلها بالأمس لولا عطل (التواصل الفاكسي).. وأعيد إرسالها من أجل (التمريك)... فالتكنولوجيا لن تهزم عواطفنا رغم ما نتعرض له!!

ويأتي الرد الأجمل من (أبي طلال).. وقد خصصت هذه (البانوراما) اليوم لتكريس اعتزازي بالرسائل التي جاءتني بدف البوح، وبغرس المعاني، وبنحت الكلمة لشجرة الصداقة الجميلة التي ينبغي أن تطرح ثمرها وظلها، فتتعمق هذه الصداقة مع جذور الشجرة.

من سمات شخصية (عرفان): أنه محب لغرس غصون الزيتون، حتى وإن استعلى هدير السفينة وتدافع موج البحر.. يغرق في بحر الحب، وينجح في الطفو، ويطلق نظره مع تحليق طيور النورس!!

فيكتب هذا المتمسك بمشاعر الطيبة:

صباح الورد مع كل الحب.

شكراً لتجاوبك أيها الوفي الأصيل، والحمد لله أن في الدنيا رجلاً مثلك مجبول بالوفاء، ومنثور بالعطر، ومعطر بالمحبة.

لقد ابتلانا الله بكل من هب ودب من جماعة (ناكر المعروف)، وآه يا ويلي، أوف من أشباه الرجال.. والوجوه الزائفة.

وها أنذا بعد 22 سنة من معرفتي بك واقتحامي لعالمك الخاص، لأتبنى نفسي أخاً لك بقوة المحبة والصداقة ألجأ إليك.. فتجيب بأسرع من برق الفاكس!

ولكن.. أعذرني على طلباتي، والموضوع ناقص (حبتين): حبة فوق وهي تقديم للكتاب.. والثانية لما كتبته في (الحياة) عن الزيارة الثانية في المنزل.. و(سمسومة) صغيرة من التصريح الذي أعطاك إياه راجلنا الغالي ونشرته في (البلاد) على ما أظن. أرجو أن أحصل على (الحبات) مع الحب بأسرع وقت، لأن كل شيء جاهز ولم يبق إلا المسائل، لأنني لا بد وأن أسلم الكتاب قبل نهاية الأسبوع.

***

الكتاب.. جديده دائماً:

ويكتب (عرفان) أسرار رجال عبروا على تجربته الصحافية، فقد كان مرغوباً وقريباً من كثير من حكامنا العرب، حتى كسر الحواجز إلى أمريكا وأوروبا، لكن انتصاراته الصحافية وسبقه إلى نشر الجديد مما يصرح به له القادة العرب منحه ذخيرة كبيرة من التفوق الصحافي ليصبح أبرز صحافي يحقق السبق.

وطوال عمله في مهنة المتاعب.. نجح في تكوين صداقات مع شخصيات عربية مهمة (صحافياً وتلفازياً)، وحصوله على وثائق سرية ببراعته الصحافية.. حتى جاء إلى رئاسة صحفنا الذين هبطوا على الصحافة المعاصرة بالمظلات!

وكان أكثر ما يحزنه، بل ويغضبه: أن تصادر الرقابة في بلد عربي كتاباً، أو تطمس سطوراً في مجلة.. ويذكرنا هذا الموقف بعبارة الشاعر الكبير محمد الفيتوري: (هذه الأجيال الجديدة التي تزاحمنا على الأرض العربية ما الذي يشكل وجدانها؟!

يشكل وجدانها التهريج، والأصوات الشاذة، والتفاهات التي تلقى عليها من كل مكان)!!

***

ويصور (عرفان) أبعد علاقة الصداقة، وهي ما نتمناها في الوسط الثقافي بين أديب وآخر، بدلا من تقسيم أنفسهم، بل وفكرهم إلى (الشللية)!!

ونذكر أن الأدباء العرب كانوا منذ مطلع الخمسينيات قد انقسموا، فمنهم من انتمى إلى الشيوعية، ومنهم إلى الليبرالية، ومنهم إلى النهج الديني، ومنهم إلى القومية العربية.. وكل هذه الانشقاقات اتسعت وأحدثت في الوسط الأدبي ذلك (الارتهان) للسلطات السياسية بتوجهاتها، والاندفاع نحو المذاهب التي ثبت فسادها، وكما قال شحاتة عزيز:

(حينما توارى المشروع القومي في السبعينيات في ظل التحولات السياسية والاقتصادية والمذهبية التي حدثت.. توارى المبدعون الحقيقيون، وهرب بعضهم إلى الخارج، واكتفى البعض بالصمت).

وحرص (عرفان) أن يجسد هذه الصداقة من خلال إحساسه بمعاناتي.. فكتب:

كلما أصابت الأديب المبدع عبدالله الجفري شوكة شعرت بوخزة أدمت قلبي، عرفته أخاً وصديقاً وتوأم الروح، ألجأ إليه عندما تصيبني سهام الغدر فيشد من أزري ويقوي من عزيمتي ويحثني على التمسك بالمبادئ، ويلجأ إلى عندما تداهمه رياح الحقد فأقف إلى جانبه أحاوره وأذكره بحكم الحياة وكلماته التي زرعها في قلوب قرائه، وتصب كلها في نبع المحبة والوفاء والتسامح والصبر، لأن الله محبة، وهو جلت قدرته، مع الصابرين مهما طال صبرهم.

ولأنه كان منفتحاً على الناس، كل الناس، أهلاً وإخواناً وأصدقاء وزملاءه، وقراءه، وأدمن الحب حتى الثمالة، فإنه يعاني الآن في سريره الأبيض، ومن شدة الزحام داخل قلبه الكبير، حتى قيل إن الأطباء لم يجدوا خلية ولا نبضة واحدة، إلا وكانت مسكونة بالأحباب، ولهذا لجؤوا إلى توسيع شرايينه الواحد تلو الآخر حتى يخف الزحام، ويفسح المجال الرحب لكل الساكنين، لعل صاحب (الدار) المسيجة بالفل والياسمين وعطر النقاء والأصالة يتنفس قليلاً ويرتاح من تدافع المقيمين الدائمين والزوار العابرين.

ولكن.. هل يرتاح أديب مرهف الأحاسيس، حتى ذروة التطرف، مثل عبدالله الجفري؟!

لقد عاند أبو وجدي الأطباء والأهل بعد الأزمة القلبية الأولى، وعاد إلى سيرته الأولى في العمل والعطاء والإبداع، والتعاطي الإنساني مع الآخرين، والتواصل مع إخوانه وقرائه حتى أصابه الإجهاد، ليسقط مرة أخرى فريسة لأزمة ثانية استوجبت (سجنه) في غرفة (العناية الفائقة) وهو الذي كان لا يترك أخاً إلا ويبذل له ما عنده من (عناية فائقة ومركزة).

وعندما أتذكر عبدالله وهو طريح الفراش، أحس وكأن قلبي هو المطعون، وأتمنى لو أفتديه، وأصلي من أجله كل يوم، وأدعو الله عز وجل أن يشفيه ويقوي قلبه ليجدد إبداعاته ويعود إلى قرائه ومحبيه في السعودية والوطن العربي الكبير.

فعبدالله الجفري ليس أديباً عادياً، بل كان مبدعاً غزير العلم والثقافة والعطاء، ولهذا فرحنا له عندما نال جائزة الإبداع العربي قبل أعوام عدة على رغم أنها جاءت متأخرة، إلا أن الجائزة الكبرى حصل عليها، منذ زمن بعيد، من المعجبين بأدبه ووجدانياته المميزة وكتاباته الهادفة، فقد تحولت كل كلماته إلى مرايا لواقع متعدد الوجوه والأبعاد قد لا نعترف به أحياناً، ولكننا عند ساعة الحقيقة نجده مزروعاً في أعماقنا.

شفاك الله يا أبا وجدي، وأعادك إلينا مع بسمتك المشرقة، وقلبك النقي، وفكرك النير، ويدك الممتدة نحو الخير والمحبة بلا حساب ولا انتظار مقابل!

***

عرفان.. صديق الشعراء

أقرب الأصدقاء الشعراء إلى مدارات حياته، وترنمه بشعرهما في عصرنا الحالي، هما: نزار قباني، وغازي القصيبي.. يضاف إليهما شعراء الريادة: الرصافي، وبدوي الجبل، وإيليا أبو ماضي، وإلياس أبو شبكة.

ورغم هذه الرومانسية في إحساس (عرفان) فهو هذا الصحافي القدير الذي ترك بصماته الخاصة في كل مطبوعة يرأس تحريرها، وسجله حافل بالمنجزات ومنها:

- صحافي وكاتب عربي عمل في الصحافة العربية لأكثر من 30 عاماً.

- حائز شهادة الماجستير في العلوم السياسي والاقتصاد - بيروت عام 1965.

- بدأ حياته الصحافية في صحيفة (الحياة) اللبنانية سنة 1965، وظل يعمل فيها محرراً ثم سكرتيراً للتحرير ومديراً للتحرير ثم رئيساً للتحرير حتى سنة 1976، حيث توقفت عن الصدور بسبب الحرب، ثم عمل في مجلة (الاقتصاد اللبناني والعربي) ووكالة (أورينت برس) للأنباء الاقتصادية وفي (وكالة الأنباء العربية).

- انتقل إلى لندن سنة 1978 ليشارك في تأسيس صحيفة (الشرق الأوسط) الدولية كمدير للتحرير ثم نائباً لرئيس التحرير ورئيساً للتحرير، حتى سنة 1987.

- عندما عادت (الحياة) إلى الصدور كصحيفة دولية سنة 1988، عاد إليها ليكتب زاوية يومية بعنوان (من الحياة) ومقالاً أسبوعياً.

- شارك في تأسيس مركز تلفزيون الشرق الأوسط MBCحيث عمل مستشاراً عاماً من سنة 1991 حتى سنة 1996.

- وتعمقت علاقة (عرفان) بنزار قباني، فصارا يتبادلان الرسائل الفاكسية، وهذه نموذج منها:

الحبيب عرفان:

أحبك دائماً حين تكون في حالة عشق، فأفكارك تبللني، وربيعك يحولني إلى كائن أخضر، وإلى لوحة مرسومة بألوان قوس قزح.

أدام الله عليك نعمة الوجد والصبابة، فلا قيمة لإنسان لا يعشق.

يا أحب الناس عرفان:

اخترت لك هذه البطاقة المضرجة بالياسمين، يا ملك الياسمين، لبيت من بيوت دمشق، حيث نمونا، وترعرعنا، ولعبنا، وعشقنا، واغتسلنا بأمطار الشعر.

ولأنك أمير الشعر، وأمير العشق معاً.. أردت أن أضعك في مناخ دمشق، حيث تربيت على سقوف جوامعها كحمامة تغزل القصائد وتطرز الأحلام.

فكل عام وأنت بخير، وشكراً لك على الحب الكبير الذي غمرتني به خلال فترة مرضي.. واسلم يا عرفان القلب!

* ويحكي (عرفان) قصة الحديث الصاعق، كما عنونه.. وقد مزج فيه بين نزار وبيني.. فكتب:

- منذ اليوم الأول لتسلمي مهام منصبي كمستشار عام لمركز تلفزيون الشرق الأوسط MBCسابقاً، وضعت نصب عيني الترتيب لمقابلة تلفزيونية نادرة مع شاعر العصر نزار قباني، كباكورة لسلسلة مقابلات مع المبدعين العرب، بأسلوب جديد وصريح وموضوعي، وشكل حضاري وتقديم متميز - بكل ما في العمل الإعلامي الحديث من إبهار وجرأة وقدرة على الحوار المفيد للمتلقي، ومده بالمعلومات والمتعة والنكهة الحضارية.

ولكن هذا الأمل بقي دفينا لأسباب كثيرة، منها: بدايات البث التلفزيوني الفضائي كانت تحتاج إلى حذر، وأن الأعين كانت مفتحة على كل شاردة وواردة، وبعضها كان يسعى لتصيد أية كلمة أو صورة أو هنة أو خطأ حتى يحوله إلى خطيئة ويثير الدنيا ومعها الزوابع لمحاربة ما تحمله ثورة الاتصالات والبث عبر الأقمار الصناعية من مؤثرات وتحولات مهمة وحاسمة، وما تبشر به من حرية رأي وفكر واحترام لحق الاختيار وحق القرار.

وأعترف، وبصراحة، بأن هذا الأمل لم يبصر النور ولم أحوله إلى واقع لأسباب كثيرة، من بينها هواجس البعض ومخاوفهم من جرأة نزار.

أما شبيه شاعرنا الراحل الآخر، ولكن في عنصري الماء والنار معاً، فهو الأخ الأديب السعودي المعروف عبدالله الجفري، وكان نزار يلقبه تارة (بحبيب قلبي) وتارة أخرى بتوأم الروح، فهو حساس جداً ومزاجي وأنيق ويتمسك بالمثاليات والرومانسية ويبدع في الوجدانيات، كما أنه ناري في بعض الأحيان ومائي في أحيان أخرى.

وقصة العلاقة الروحية بين نزار وعبدالله: فريدة في نوعها وتستحق أن تروي، فهما لم يلتقيا من قبل، ولكنهما كانا معاً كل يوم عبر الفاكس، والهاتف، والمقالات والأسفار.. يكتب عبدالله فيرد عليه نزار، ثم يتحدثان على الهاتف حول كل أمور الدنيا والحياة والحب والشعر والأدب والوجدانيات التي يبدع بها (الجفري) في مقالاته ورواياته وكتبه وإنتاجه الإبداعي الغزير، وكتب الجفري عشرات المقالات عن نزار، واستشهد بأشعاره في (أول الكلام) قبل مرضه وبعده، وعندما دخل المستشفى جاء إلى لندن خصيصاً ليكون بجانب سرير الأخ الذي لم تلده أمه، والشاعر الذي أحب والإنسان الذي يحترم، وعندما التقيه سألني عن الترتيبات وإمكانيات الزيارة، وخصوصاً أن الشاعر الراحل كان قد انتقل من غرفة العناية الفائقة إلى غرفته في مستشفى سان توماس التي كانت تغص بالورود، وتحولت إلى مزار للأطباء والممرضات والزوار.

***

أما لقاء نزار والقصيبي.. فقد قال نزار لضيفه:

ولكنك كنت تهرب في (الوقت الضائع) للرواية، من (شقة الحرية) و(العصفورية) وغيرهما، كما أنك مشغول، الله يعينك، بهموم السفارة وشؤونها وشجونها، أما أنا فإن الشعر هو حياتي وعمري، أصبح عليه وأمسي، وآكل وأشرب وأتنفس، وهو مصدر رزقي وعنوان اسمي ونفسي، وكرر ما قاله لي من قبل من أنه حضّر كل شيء، من أوراق ملونة وأقلام مزخرفة ومزهرية الورد، وجلس على مكتبه آخذاً وضعية الشاعر.. ولكن دون جدوى.

وأضاف -والحزن في عينيه- قائلاً: في كل مرة أمر فيها بهذه الحالة اللاشعرية أنظر إلى الورق المتلهف على حبري وشعري فأرى فيه كفني..

أليس غريباً هذا الشعور؟!!

طرح هذا السؤال.. وخيم صمت رهيب على الأجواء.. فقد كانت عبارة مؤثرة أصابتنا بصدمة عاطفية، لكن الدكتور غازي بأسلوبه المرح استدرك الموقف قائلاً: ربما هرب الشعر منك عندما علم بأني سآتي لزيارتك.. سلامتك يا عزيزي نزار، وإن شاء الله ستجده عندما تبحث عنه فور مغادرتي.. وعندنا مثل يقول: (عندما تزور مريضاً خفف)، ولهذا سأتركك بأمان الله، والحمد لله على سلامتك.

وقف السفير الشاعر، ووقف نزار لتوديعه، ووقفنا معه وأصر على مرافقته حتى الباب الخارجي و...تعانق الرجلان، وكأنه العناق الأخير، ولاسيما أن نزار الذي بدا كأنه يشعر بدنو أجله قال عبارة بشكل عابر تركت جرحاً في نفسي وهي: كان لازم تقعدوا أكثر، ما شبعنا منكم.. ربما هذه هي آخر مرة أراكم فيها!

***

على طرف الليل:

وبعد.. هذا هو (عرفان نظام الدين): يجلس على طرف الليل، وقد تبقّت له نجومه تناجيه بدل أن يناجيها.. يسترجع أصداء مشواره الصحافي.. هو المشتاق إلى عشيقته - الصحافة كمطر جائع للشجر في زمن الطحالب وصحافيي البراشوت!!

*****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5717»ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة a_aljifri@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة