Culture Magazine Monday  07/04/2008 G Issue 242
فضاءات
الأثنين 1 ,ربيع الاول 1429   العدد  242
 
البوكر وال ك.ج.ب

 

 

منذر بدر حلوم *

ثمّة في روسيا جوائز عدة تمنح سنوياً على الرواية الأفضل أو الكتاب الأفضل، منها جائزة (الكتاب الروسي)، وجائزة (مجلة أكتوبر)، و(الكتاب الكبير)، و(العمل الأول)، و(كتاب العام)، وجوائز غيرها يُتوِّج كل منها كتابَه الأفضل ويحتفي به، غير بعيد عن سياسة اصطفاء تأخذ بمعايير خاصة لغربلة الأعمال المتنافسة نحو أسوأ وأقل سوءاً وجيّد وأفضل. وأمّا معايير المفاضلة فهي التي يُختلف عليها، عادة، وعلى ما تستبطن من نوايا.

إضافة إلى هذه الجوائز (الوطنية) وغيرها من تلك التي يكاد ينحصر الاختلاف عليها في درجات الأفضلية الفنية، يأتي الخلاف على (البوكر الروسي)، أو على النسخة الروسية من (البوكر البريطاني)، ليعيد إلى الأذهان أسئلة الأيديولوجيا التي دفع الأدب الروسي فاتورتها غاليا. ولكن هذه المرّة الأيديولوجيا مقلوبة ومسوّقة بطرائق أكثر جاذبية وتشويقا.

تأسس البوكر الروسي عام 1991، كأوّل جائزة روسية غير حكومية منذ قيام الثورة البلشفية عام 1917. وراحت هذه الجائزة تمنح سنويا، على ما يفصح عنه المؤسسون، لأفضل رواية مكتوبة باللغة الروسية. وأمّا الأفضل والأسوأ فسؤال لا اتفاق عليه كما يبين مقهى الثقافة الروسي. ومن هنا تتولد لدى هذا المقهى، الذي بالكاد تعافى من حمى سجالاته حول نوبل باسترناك وسولجينيتسن، جملة أسئلة عن الهدف من هذه الجائزة وعن القيمة (الأدبية) الحقيقية للأعمال الفائزة، وعن دلالات اختيارها دون سواها، وعن انتماءات المؤسسين والممولين والمسوّقين.

يعلن البوكر الروسي أن الهدف من جائزته هو جذب انتباه القرّاء إلى النثر الجدي، وإلى ضمان تسويق الكتب التي ترسّخ منظومة القيم الإنسانية التقليدية في الأدب الروسي تسويقا ناجحا، فيما يشير المعترضون إلى ابتعاد معظم الأعمال الفائزة عن هكذا قيم، وابتعادها كذلك عن القيم الفنية والجمالية التي أكسبت الأدب الروسي عظمته، وإلى قلة شأن معظم الفائزين بها في عالم الأدب. فبخلاف أكودجافا الشاعر-المغنِّي الشهير، مؤسس تيار القصيدة المغنّاة على الجيتار الذي يقصد الروس وسواهم شارع أربات لالتقاط صورة قرب تمثاله، وباستثناء لودميلا أوليتسكايا، التي كتبتُ عنها غير مرّة في (السفير الثقافي)، والتي تؤكّد كلما سنحت لها الفرصة في نثرها الأدبي وغيره عماء يهوديتها في تضادها مع كل من هو غير يهودي، لا تجد بين حائزي البوكر اسما ذا شأن سواء في محافل النقد أم في سوق القراءة. ولا أجد من الحكمة الاستخفاف بالقارئ الروسي ودرايته، على الرغم مما ألم به بعد البيريسترويكا.

كانت الرواية الأولى التي توّجت بالجائزة هي رواية مارك خاتيونوف (خط القدر أو صندوق ميلاشيفيتش)، وكان ذلك عام 1992. وبمضي عشر سنوات على ذلك، تأسس صندوق خيري مستقل تحت اسم (البوكر الروسي)، أنيطت به مهمة تنظيم الجائزة وتمويلها وتسجيلها رسميا. يرأس هذا الصندوق اليوم البروفيسور ي. شيطانوف، ومن أعضاء إدارته إيمّا نيكولسون عضوة البرلمانين البريطاني والأوروبي، إضافة إلى ج. أولدين، ويو. بليافسكي، وأو. تشوفونتسيف.

يقوم صندوق (البوكر)، إضافة إلى انشغاله بالجائزة الرئيسة، بتنظيم ندوة (بوكر سنوية) وبعرض الكتب الفائزة في معارض الكتب المختلفة، ويتكفل بترتيبات سفر الكتّاب الفائزين إلى مدن روسيا المختلفة وتقديمهم للقراء ضمن مشروع (البوكر يستكشف روسيا)، كما يقوم هذا الصندوق بتنظيم مشروع شبابي يحمل عنوان (البوكر الطلابي)، إضافة إلى أنشطة أخرى يقول (البوكر) إنّها تهدف إلى (مساندة الأدب الوطني وتطويره وتعميمه). بيد أن المعترضين لا يقولون بكل أدب ناطق بالروسية أدبا وطنيا. فها هو يوري بولياكوف الكاتب الشهير ورئيس تحرير الجريدة الأدبية، والذي سبق أن سخر من (البوكر) في روايته الشهيرة (عجل بالحليب) واسماً إياها بجائزة (بيكر) بدل (بوكر) يقول في حوار أجرته معه (القرن):(ألحقت جائزة البوكر ضررا بالأدب (الروسي) ليس أقل مما ألحقته به الدائرة الخامسة في ال( ك.ج.ب)).

بعد التتويج الأوّل، مُنحت (البوكر) تباعا لكل من فلاديمير ماكانين على (الطاولة ذات الغطاء والإبريق في الوسط)، وبولات أكودجافا (المسرح المبسَّط)، وغيورغي فلاديموف (الجنرال وجيشه) وهذه الأخيرة نالت مرّة ثانية جائزة عشر سنوات على البوكر (2001) بعد أن نالت البوكر (1995)، وأندريه سيرغييف (ألبوم من أجل الطوابع)، وأناتولي آزولسكي (لقب)، وألكسندر موروزوف (رسائل غريبة)، وميخائيل بوتوف (حرّية)، وميخائيل شيشكين (القبض على إسماعيل)، ولودميلا أوليتسكايا (حادثة كوكوتسكي)، وأوليغ بافلوف (تُساعيو قره غاندا أو قصة الأيام الأخيرة)، وروبين دافيد غونساليس غاليفو (أبيض على أسود)، وفاسيلي أكسيونوف (فولتيريون وفولتيريات)، ودينيس غوتسكو (دون اقتفاء أثر)، ثم لأولغا سلافنيكوفا على روايتها(2017)، وأخيرا لألكسندر إيليتشي فسكي على روايته (ماتيس)، التي أعلن عن فوزها بتاريخ 5-12-2007.

يقول بولياكوف في الحوار المومى إليه أعلاه، ما معناه أن الفوز بهذه الجائزة لا يتم على الأداء الفني في نصوص الكتّاب ولا على استجابة بوابات القرّاء المغلقة لهم، إنّما على وفائهم لمعايير الجائزة ذات الاتجاه الليبرالي التجريبي، فلا يحتاج إقصاء أي عمل مهم من المنافسة في مراحلها المبكرة أكثر من شبهة وطنية يشي بها هذا العمل أو صاحبه. فالمطلوب هنا أن تكون لا مبالياً تجاه القضايا العامّة والقضايا الوطنية، ألا تعنى بالشأن السياسي حتى لو كانت السياسة تعني خسارة لقمتك وكرامتك، أو، وهذا يزيد من فرص نجاحك، أن تتبنى قيم الليبرالية الغربية. وأما بعد ذلك، فمن غير المهم أن يكون لروايتك أهمية فنّية أو لا يكون. وإذا كان لذلك أن يكون مهمّا فمن باب ضرورة المقارنة بين الأعمال المنزوعة السياسة أو المتبنية لترويج سياسة داعمة للغرب، دفعا بأحدها نحو التتويج. وعلى الرغم من أنّ تنشئة جيل يتبنى القيم الغربية، أو لنقل الجانب المتضاد منها مع القيم الوطنية الروسية، يتطلب توسيع قاعدة القرّاء، أي يرتكز على نجاح مضمر في التسويق والتلقي، إلا أن واقع الحال يقول بغير ذلك. فجميع الكتب التي توّجت بالجائزة لم تلق، عملياً، قبولا لدى القارئ. وفي معظم الحالات صدرت من كل منها طبعة واحدة وسرعان ما طواها النسيان بعد تتويجها. ويتوقف بولياكوف عند مخاطر مثل هذا التضاد بين السوية الفنّية والتتويج المدعوم بآلة إعلامية طاغية الحضور وحملات ترويج واسعة لا يبدو مهما أن تنجح في مسعاها المالي أو تفشل فيه، إذا كان للحديث عن مسعى مالي أهمّية، أصلاً، هنا.

ومنه، فالخطير في الأمر أن الشباب الذي تضع الدعاية أمام أعينه هذه الكتب غير المهمة وغير المستساغة، وحتى من نشأ منه على قيم الأدب الروسي التقليدية وعلى تربية سياسية وطنية، يبدأ عند نقطة معينة بالحكم على واقع الأدب الروسي من خلال الكتب الفائزة بالبوكر، الكتب التي تكاد لا تعني أحدا سوى لجنة محكّمي البوكر. وهذا أمر من شأنه أن يجعل الجيل الجديد يضع في سلة واحدة الأعمال المهمة المعتَّم عليها إعلاميا مع الأعمال الرديئة التي تروّج لها ماكينة البوكر، فإذا بالكتابة الروسية كلّها رديئة على مثال ما يفوز بالبوكر. وإذا بنتيجة (البوكر) مزيد من هجر القراءة نحو أشياء أخرى، وليس (مساندة الأدب الوطني وتطويره وتعميمه) كما جاء في الهدف المعلن من التأسيس. وقد لا تكون النوايا مهمّة هنا، بمقدار ما هو مهم واقع الحال، الذي يعبّر عن جانب منه سوق القراءة، وعن جانب آخر مقهى الثقافة وعن جانب ثالث محفل النقد ومن أهمّ منابره (الجريدة الأدبية)، فنكون أمام بوكر روسي يحتفي بنزع الوطنية من الأدب الروسي مقابل بوكر بريطاني يتوّج أعمال كتّاب يُمتدحون على نزعاتهم الوطنية. أم أن المشكلة تكمن في (الوطنية) حيث مصدر المعنى أنظمة الحكم وليس مصالح الشعوب؟! وأمّا الأدب، بوصفه فنّا يأخذ بالمعايير الفنية والجمالية قبل أي شيء آخر ليكون ذاته قبل أن يكون شيئا آخر، فأولى به أن يعنى بالثانية، وبقياس نفسه بها وليس بمعايير جائزة هنا وجائزة هناك. فليس عبثا ما قاله غازي أبو عقل في جريدت (ه) (الكلب) احتفاء برواية عادل محمود الجديرة بالاحتفاء (إلى الأبد ويوم) الفائزة بجائزة (دبي): (يقيناً روايتك الفائزة أهم وأبقى من الجائزة).

- دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة