Culture Magazine Monday  12/05/2008 G Issue 247
فضاءات
الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1429   العدد  247
 

فكاهيات بلباس الميدان
فيصل أكرم

 

 

قبل نصف عام، كنتُ بصحبة الشاعر إلياس لحود وعدد من مثقفي لبنان في بيروت، وكان جلُّ حديثنا - بطبيعة الحال- عن الوضع (أو الأوضاع) السياسية المحتقنة في تلك البقعة من عالمنا.. ويكفي تلخيص ما انتهى إليه تصوّري من رؤى الأطراف المتضادة بأن: لا غَلَبة للمواقف الثقافية على المواقف السياسية، فإن كان الموقف الثقافيّ يمثّل البقاء (الغاية) فالموقف السياسيّ هو الممثل للوجود (الكائن) -وجود طرف على حساب الطرف الآخر-، وعليه فقد اتخذ كل جانب قراره الضمني، بوجوب تحقيق الوجود أولاً، ثم تأكيده ببقاء أبعد مدى.. وكأن لبساً ما قد أحال التاريخ إلى لحظات، والجغرافيا إلى خطوات..

غير أن الحديث -كالعادة- قد أخذ اتجاهه صوب شغلنا الشاغل (الشعر).. ففوجئتُ بالصديق إلياس يسترسل في حديثه عن ديوانه (فكاهيات بلباس الميدان) بحماسةٍ ملفتةٍ، وكأن الديوان أحدث إصداراته!

وأعترفُ هنا أنني كنت أظلم الشاعر إلياس لحود في أحاديثي عنه وعن شعره، إذْ كنتُ أعتبر ديوانه (مراثي بازوليني) هو أجمل دواوينه، ولم أنتبه أنني بذلك كمن يشير إلى موجةٍ يعاصرها فيقول: هو ذا أعلى موجٍ في البحر!

علق في ذاكرتي عنوان الديوان (فكاهيات بلباس الميدان) الصادر عن دار الآداب عام 1974 وفور عودتي إلى الرياض بحثت عنه في مكتبتي وظللتُ أقرأ فيه.. والحقّ أقول إنني قرأتُ فيه إلياس لحود، ولبنان، والوطن العربيّ.. بحداثةٍ أستغربُ كيف مضى عليها أكثرُ من ثلث قرنٍ ولم تتراجع عن واقعنا الراهن.. بل هي تتقدم عليه في أدقّ تفاصيله..

انظر ما قاله إلياس لحود في قصيدته المكتوبة في نيسان 1973، أي وقت ما كان يسمّى (لبنان الأخضر).. جاءت قصيدته المعنونة (بيروت ترقص على ألحان الكومندوس):

(نمشي في أفراح جنازة.

أرصفة القيثارة، بعض بناياتٍ ومجلاّت البيع

الحزنُ على الصفين..

أشتدُّ على كفيَّ، أحسّ بشوكٍ في قدميَّ..

عماراتُ الذكرى تتهاوى

جدرانُ الغربة تتهاوى

تماثيل الأحياء تُحطَّم كالبلور......)

أقرأ هذا المقطع وأنا أتأمّل، فلا أجد شهادة شعرية تصوّر حال بيروت اليوم كما تصوّره هذه القصيدة المكتوبة قبل خمسة وثلاثين عاماً.. وهنا يكمن سرّ (الشعر الكبير) الذي لا يكتبه إلا شاعرٌ كبير، حتى وإن كان لم يتجاوز الثلاثين من عمره لحظة كتابته لهذه القصيدة:

(يمتدُّ المطرُ..

شتاءُ مدينتنا لم يرحل أكثر من زفراتٍ: مطرٌ أحمر!

كيف دخلتم؟ لم تبصركم خادمة الخلفاء.

طاولة الشطرنج على همساتٍ من صدر الإيوان..

أمحو عن أوراقي بعضَ رصاص الأحرف

أبصر كل العورة في المرآة: الجثة فوق ضياء الغرفةِ

قلمٌ قرب حنين الجثة

أخرج من أسوار العالم، من جوف القيثارة

خلفَ موائدكم ستمرُّ جنازة.

الحمراءُ الشارعُ يبلعُ فمه، والأحياءُ تتاجر بالآلام

الأبنية الملأى تُغلَق بفراغ الأحداث..........)

ويمضي إلياس لحود في قصيدة التي دوّختني بدورانها حول أدق تفاصيل أحداث الأعوام الثلاثة الماضية، متجاوزة ثلاثين عاماً من المتغيّرات:

(تماثيل الشهداء على آلة تصوير الصحف

الأيدي ترتفع وأنفاسٌ منتشرة!

عبر حواجزكم ستمرُّ جنازة..

حين تمرُّ تُنكّس أعلام التاريخ،

يشقّ العوسجُ بطنَ الأرض،

يجوعُ الناسُ المنتظرون على أبواب النصر

تُقدَّمُ للأحفاد كؤوس الدمع الأحمر.........)

وكلما تصفحتُ الديوان، أجدني مأخوذاً بذهول نحو هذا الصديق الذي ربطتني به كلّ الروابط الشخصية والعامة.. الثقافية والأخوية.. الذاتية والعملية، ولم أكتشف إلاّ الآن أنني كنتُ غافلاً عن هذه القيمة الشعرية العظيمة التي جعلت منه شاعراً كبيراً يقف على تراثٍ ضخمٍ من قصائد خالدة.. ودليل خلودها أنك حين تعود إليها تجدها أقرب إليك مما يكتب الآن .. فها هو في قصيدة بعنوان (بغداد كما رآها ابن المقفع) المكتوبة في صيف العام 1969م - أي في الصيف نفسه الذي وُلد فيه صديقه الذي يقرأ قصيدته الآن!

يقول في ختامها:

(وبعدما انتهى من الكلام

وهبط السلّم.. وانتظرْ

سعوا إليه قائلين: أيها الإمام

متى تجيء الريح بالمطرْ؟

فلم يجب، لكنه مشى وعاد بينهم

وكانت الشمس على سواعد الغمام

والريح تقضي ليلها الطويل في الحُفَرْ..

فأبصروا بغدادَ من بعيد:

كانت ستُبنى بعد نصف عام.

كانت ستُبنى... بعد نصف عام!)

وكأني بالشاعر يشير إلى بغداد الآن، من وراء مسافةٍ بطول ثمانين (نصف عام)!

ديوان إلياس لحود هذا (فكاهيات بلباس الميدان) كان في مكتبتي منذ سنين طويلة -بعمر الصداقة المستمرة بيننا- ولكني لم أقرأه إلا مؤخراً.. وهذا ما دعاني لكتابة هذا الانطباع الناجم عن حالةٍ من المتعة والتأمّل وصلتُ إليها في قراءتي الأولى لهذا الديوان الذي كان محطة للشاعر ومحطَّ أضواء الإعلام الثقافيّ في زمن صدوره، وسوف تلتفت إليه الأنظار وتتصفحه الأيدي وتتناوله الأقلام مجدداً حين يصدر ضمن (الأعمال الشعرية الكاملة) لإلياس لحود - فهو يشتغل الآن على إعدادها وإخراجها للنشر قريباً.

وهنا ينتابني استغرابٌ من نفسي: كنتُ بالطبع سأقرأ الأعمال الكاملة لصديقي فور صدورها، فلماذا لم أقرأ دواوينه متفرّقةً وهي موجودة لديّ في طبعاتها الأولى؟!

شعورٌ يتملكني، هو مزيجٌ من تأنيب الضمير أولاً، ثم التساؤل ثانياً..

تأنيب ضمير لأنني أغبنت حقوق الكثير من أصدقائي بعدم قراءتي لكتبهم القديمة، فقط أكتفي بقراءة العنوان وتاريخ الصدور.. وكأن صلاحية العمل الإبداعيّ تنتهي إذا تراكم عليه غبارُ السنين!

أمّا التساؤل، فأوجهه لنفسي أيضاً: هل كنت أنتظر أن يتحدث إلياس لحود عن أحد دواوينه القديمة حتى أبدأ بقراءته؟!

بمعنى: هل يجب علينا أن نتحدّث -بحماسةٍ وإعجاب- عن إبداعاتنا القديمة، حتى يقرأها أصدقاؤنا؟!

في مكتبتي أيضاً، لإلياس لحود، ديوانه الأول (على دروب الخريف) الصادر عن دار الروائع عام 1962م، فيا هل ترى: متى سيحدّثني إلياس لحود -بحماسةٍ وإعجاب- عن ديوانه الأول، حتى أتناوله بقراءةٍ أولى..؟!

- الرياض f-a-akram@maktoob.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة