Culture Magazine Monday  12/05/2008 G Issue 247
مداخلات
الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1429   العدد  247
 
رؤية
التسول مرفوض في الفكر!

 

 
.

** استلهاماً مما قاله كاتبنا الكبير، الأخ الأستاذ محمد بن أحمد الشدي في عدد (المجلة الثقافية) رقم 244، فإنني أتفق مع مضمون مقاله الرصين المعنون ب (لا تغضب: كتابك لا يستحق القراءة!!) .. وأقول إنّ الكتابة الجادّة، واحترام العقل، والاتشاح بمعطف الثقافة الرصين، وتفيؤ ظلال الكلمة المسؤولة .. إلى آخر التعابير، التي ترسم في الواقع مثاليات لا يختلف الناس حولها، تظل هي التي كان يتعيّن أن تكون هي السائد، وغيرها هو الشاذ، لكنني أتساءل حقيقة وأقول: ماذا لو كانت الصورة العامة للمشهد الفكري، هي عكس ذلك بصورة أو بأخرى، بحيث صار الغالب هو الطرف الثاني من المعادلة السابقة، عندها يظل في تقديري السؤال المهم هو .. هل ما يجري هو حالة طبيعية تتّسق مع المتغيرات .. هذا أولاً، وثانياً: هل من سبيل إلى إعادة وضعية الهرم المقلوب إلى هيئته الصحيحة؟

** سأقول هنا شيئاً قد يبدو مفاجئاً، وهو أنّ ما يجري هو أمر طبيعي إلى حد ما، فالثقافة السائدة اليوم بكل تفرُّعاتها وفي الجملة لا تكاد تفتح شهية المتلقِّي، وبهذه الآليات التي تقوم عليها في السنوات الأخيرة، حيث أسلوب الطرح الكلاسيكي المكرور، واستنساخ أساليب الأولين، وطرائق تناولاتهم، التي نجحت في زمن الحالة الجغرافية المحدودة، وفشلت حقيقة في زمن انفتاح الجهات الأربع، وثورة المعلومة بكل آلياتها الحديثة.

** الشاب أو الشابة غير مكترث كثيراً بكتاب جديد، يعرف مسبقاً أنه يحمل سيلاً من النصائح والمواعظ المعلّبة، وجملة من القيم التي تشرّبها منذ نعومة أظفاره إنْ من البيت أو المدرسة، ولم تَعُد تحمل عنصر الإبهار أو الدهشة بالنسبة له، فيما يقف إلى جانب الكتاب في الطرف الآخر عناصر أخرى لها من عناصر تحفيز الدهشة الكثير، ولها من عوامل إثارة الذاكرة أكثر من الكثير، وهو - ومعه حق - يريد المزيد من اكتشاف العالم وما فيه من حوله، ويرنو إلى الإبحار فوق أسرار وهج الحياة الجديدة.

** المدرسة اليوم على سبيل المثال، إنما تمارس عنصر كبت للطلاب والطالبات، وبؤرة لإغلاق ذاكرتهم عن السباحة في آفاق الجديد، بأساليبها التقليدية التي لم تتحرّر من ربقة النظم التدريسية القديمة، ولذلك فقدت جاذبيتها، وتحوّلت إلى بيئات طاردة، لأنّها اختصرت كل البيئات في بيئة واحدة تحدُّها جدران المدرسة الأربعة فقط من ناحية، ولأنّها من الناحية الأخرى قد قصرت مدخلاتها على منهج ورقي مقنّن، ومعلمين كل مساحة أفقهم لا تتجاوز الحيّز الجغرافي للمدرسة والحيّ.

** وعندما يتلفّت الطلاب يميناً وشمالاً من حولهم يرون أن العالم قد تخطّى مدرستهم ومقرّراتها وإمكانياتها بكثير، بل وسافر بعيداً في سموات عرض المعارف والمهارات بأساليب جاذبة، فلا يملكون حينذاك إلا أن يضعوا مدرستهم داخل حيّز صغير من اهتماماتهم لا يتعدّى طموح الحصول على الورقة التي يسمونها شهادة نجاح .. أمّا آفاق الفكر والمعرفة وأسرار الحياة فإنّها قد صارت حتماً إلى حيث ما هو (رقمي) وإبداعي وجديد في الوسيلة والمضمون.

** ولعلّ من الثابت الآن أنّ الكتاب بشكل عام قد خفت وهجه، وتراجعت حرارته، فلم يَعُد بتلك البهجة إلاّ في أقل القليل، وأندر النادر، لعوامل كثيرة، أهمها أنّ المؤلف المتمكن قد غاب، بعد أن فشل في تطوير أدواته، وانحاز للجمود بدل الحركة، فكان أن زحف الزمن من حوله، وبقي لوحده يتثاءب في ركن قصيّ، كمعاق لا يملك ميكانيكية حركة الدنيا الجديدة، ولا يريد أن يستوعب حتمية الحركة، أو حتى يفهمها، ولذلك سقط، وسقط معه الكتاب من دائرة الحضور.

** وفي تقديري الشخصي أنّ كلّ الدعوات التي توجّه للناس بالاقتراب من الكتاب، وقطع حالة الهجران معه، والعودة للتزاحم على القراءة، إنّما دعوات تنقصها الواقعية والمنطقية، وهي مجرّد إضاعة للوقت ليس إلاّ (!!).. وبدلاً من ذلك كان يتعيّن على المتباكين على هذه الحالة المأساوية - وأنا منهم - أن يتوجهوا بصوتهم إلى صناع الكتاب، والمتنفذين في مؤسسات التربية والتعليم والثقافة والفكر، بأن يطوروا أساليبهم، ويلحقوا بركب هذه الصناعة المتسارع في كل العالم .. إذ لا يمكن لنا - بداهة - أن نرغم الآخرين على ما لا يشتهون، وأن نستعطفهم إلى ما لا يشتهون .. ويظل الأولى أن نقدم لهم (بضاعة شهية) وعندها سيتزاحمون هم لوحدهم على جنباتها من دون دعوة، فالمسألة هنا، وخصوصاً في عالم الفكر والمعرفة لا تقبل التسول، ولا تعترف بالإكراه!!

بخيت الزهراني bakeet8@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة