Culture Magazine Monday  18/02/2008 G Issue 234
سرد
الأثنين 11 ,صفر 1429   العدد  234
 
قصة قصيرة
مصاب بالحنين
عامر ملكاوي

 

 

غريبا في ليلة عرس شقيقي، جلست إلى كرسي وضع بدقة متناهية على حافة الطريق، تجانبني من اليمين أحلام مستغانمي، ذاكرة بلا جسد ومن اليسار كآبة جبران خليل جبران، بينما يفتح باب الحيرة أمامي على مصراعيه فأعبره عجلاً إلى متعة تأمل كل شيء: الحزن والفرح، والحب والرغبة، المطلق واروح والجسد، تأمل كل ما هو بديهي واعتيادي، فقد طالما انتظرت أن تتبدد مخاوفي المتمردة وآن أن أذيع ما ضننت من جنون.

عالم من المتناقضات يلبس ثوب الفرح في عرس ملحمي. فعبر نافذة الشك يبدو كل شيء سواه: والدي يرقب مبتهجا قفزات المسرورين بنسقها الرتيب، يترنح تيها على إيقاعات الطبول وقد انعتقت روحه من خلف تجاعيد الكهولة وأنغام الناي تملأه لهفة لخيالات الشباب، فيما حانت لي حلقة الدبكة وقتئذ كأنها خيط دود مرتعش يدور حول جيفة من الأحلام نهشتها مخالب الحياة، ألفيت الصبية يركلون الأرض بأقدام الخيبة وسمعتهم يشتمونها عبر لهاثهم المتصاعد، ولم أجرؤ قط على سؤالهم عن السبب، لكني تذكرت أن الإنسان يرقص فقط عندما يكون عاجزاً، ولا أظنهم كانوا يرقصون تعبيرا عن عجزهم عن البوح بفرحهم.

على مسافة أغنية مني، صبية تستند إلى عاطفة خرساء، مملوءة القلب حنيناً وشت به أحداقها المسافرة إلى عالم يلبس أسرارها العميقة.. عالم من الاستفهام.. شاب في مقتبل العشق، يحلق كالنسر فاردا جناحيه وقد لوحته شموس الحب القديمة يمارس طقوس الإغواء عن بعد. وكخلفية موسيقية فريدة أثرى المشهد ازدحام الفضاء بحشود من الزغاريد التي انفلتت من الألسنة المعقودة لتبوح للأثير بزمن غابر طويل من الصمت.

عكس الناس، ولأنني مصاب بعذوبته، باغتني الحزن على حين فرحة سكينا بأبهى حلله، تساءلت: هل يجذبني إليه هدوؤه الساحر، أم أن روحي الظامئة أبدا تتلذذ حلاوة رشفه؟ حملني ذلك الشقي على بساط الذاكرة من غربتي المقيمة هنا في قريتي إلى غربة أشهى.. إلى بغداد، عندما كان يطوقني الذنب كلما أحسست بشيء من الفرح، حتى أجدني ممسكا سماعة الهاتف سائلا أمي وأبي وإخوتي إن كانوا مسرورين مثلي كي أبرر لنفسي فرحها، أو لربما كانت أصواتهم المجروحة تسرقني من فرح لم أعتده عمري.

لكأنه كان يحضرني لصفعة حب محموم يئن في صدري، يوسعني ألما. تكالبت على أشباحك الكثيرة: طفلة تلبسين معطفك الأسود وقبعتك الصوفية الحمراء، تلحقين بي قطة صغيرة بعدما أخطأت قدماي موطئ الموعد لتنبس باسمي شفاهك المتوردة ثم أستدير لأرى أجمل وردة أهدانيها أجمل صبح في أجمل لقاء بين مسافرين غريبين على سلم ضيق يقود سكينتهم إلى معرض صور للوجوه القلقة. كانت أحداق ذاكرتي تتفرس تلك الدموع المتأهبة التي لطالما فاضت عن عينيك المتواريتين خلف العدسات المكبرة للشوق، فاضحة صمتنا المنهوك على مرأى من فضول الموجودين في المكتبة.. حيث أضاع الغياب عناوين الكتب واشتاق زحزحة الكراسي. شعرت بشيء من المرارة تسيل في أعماقي، تماما، كمرارة قهوتنا النادرة.. أتذكرين كيف كنا نستمتع بمخاض دلة القهوة مدفونة بين حبات الرمل السخينة حتى تلد لنا توأمين من الأكواب؟ وكيف كنت تثيرين لدي براكين الغيرة عندما تتحدثين إلى النادل سائلة بينما أنت تعرفين الإجابة مسبقاً؟

رأيتنا طيف عاشقين مختلفين، نرسم بجدلنا المزمن في المطلق والوجود والإنسان والدين والروح وجه الحب النقي على أرصفة الأحلام، اشتاقت خطانا في كل شبر من شوارع عمان، حيث كانت تحتفي بنا الأشياء عندما نعبرها مترنمين بقصائد عشق تختلط بأنفاسنا الدافئة. زرعتني الذكرى زهرة ذابلة بين أنقاض المعابد والقصور فوق جبل القلعة فتبدت لي صورتك أسطورية نزعني من الوجود بريق عينيها المكلوم عندما قرأت في إحداهما حكاية الجمال وفي الأخرى وصيتي التي لم أكتب.

تذكرتك بكل تفاصيلك وحالاتك ومزاجاتك، دموعك وابتساماتك، تذكرت كل شيء، إلا أن شريط الذكريات توقف على وجعي: ها هو رقمك يظهر على شاشة الهاتف.. أين أنت الآن؟... حضرت لأودعك.. يتسارع نبض قلبي، أشعر بضيق يأكل أنفاسي، أترك حقائب سفري في قاعة الانتظار، أخرج مسرعا حيث تنتظرين.. تنهضين عن المقعد، تتقدمين نحوي بتؤدة لأرى امرأة سواك.. كسيرة شاحبة بدت في وجهها أمائر الموت. طفحت عيناك بوافر الدمع العصي.. حان وقت الفراق، تفتحين حقيبتك الصغيرة، تخرجين منها قنينة ماء كانت قد لامست شفتيك المرتعشتين، تضعينها في حقيبتي بينما أفتش فيها عن دفاتر حبك التي طلبت أن أعيدها إليك لتفرغي عليها شوقك القادم - كأنك كنت تعلمين أننا لن نلتقي ثانية - تهدينني تلك الرواية (زوربا) التي اتفقنا أن نبدأ قراءتها معا حالما افترشت آلة السفر. تصافحينني موصية: اعتن بك، تديرين ظهرك حانية الرأس ولازلت أتحسس ملامس الوداع تحرق يدي، تمضين إلى حافة الطريق كي توقفي سيارة أجرة، أتقدم نحوك دون أن تدركيني خلفك، أنظر وجهك لأصاب بدموعك وقد انفرطت كحبات الماس مذيعة سرها للطريق. وما إن تستشعري وجودي حتى تسرعي الخطى هاربة من ضعفي، فأقتفي أثر الكآبة ترافق جسدك المبتعد، ولأول مرة أطلبك على الهاتف فيما أنت تسيرين أمامي، تسابقين الألم، ليوجع صوتك المخدوش قلبي وأنت تقولين:

يا حقير.. أحبك.

انتهى العرس وأغلق عقلي متخما على صراخ الأسئلة تعلو وتهبط في فضاءاته الشاسعة، غير أنه كان هناك سؤال ما برح يلح على تجاهلي: لماذا أنا مشغوف بالحزن؟ ولكي أجيب فضوله، اقتربت من تلك الحقيبة المركونة إلى زاوية الألم في غرفتي، وقد أغمضت عليك كزهرة الدفلى، فتحتها.. قلبت دفاترك وكتبك، لكن، وبكل ما يثقلها من الكلمات كانت عاجزة، فما كان لي لحد الخوف من المواجهة، علقتها على الجدار، تأملتها مليئة بك.. سمعتك بآذان قلبي تقولين: أنت في الحقيقة وحيد، وما الحزن إلا أن تعي حقيقة ما أنت عليه. أيها الوجداني، سيرافقك الحزن أبدا، فهو لحن الروح العذب، وما عرفتك إلا روحا تلبس جثة بشري خرج ميتا من رحم الشقاء.

ولأنني مؤمن بعجزي، طفقت أرقص كالمخبول على نغم أغنية علوية جاءتني بصوتك الشجي: أنا رجع الحنين في كهوف الغياب، أنا البداية والنهاية.

الآن وقد أنهكني الرقص، ورقدت على سريرها الكآبة قبالة أسئلتي الأزلية، دعيني أتجرد قليلا مني وأخبرك بشيء عرفته للتو: أنا تماماً عكسك، أبحر على سفينة الحب إلى شواطئ العقل، لأن الوجود فكرة لا يدركها إلا من أحبها، وقد طالما تعانقت أرواحنا طي أجنحة العشق لكنه كان نهايتك وبداية معرفتي، فهل أحببتني فكرة أثيرية تختصر ما يخبو من الحنين تحت أنقاض الطين؟


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة