Culture Magazine Monday  25/02/2008 G Issue 235
فضاءات
الأثنين 18 ,صفر 1429   العدد  235
 

مساقات
كلّما أنبت الزمانُ قناةً (فضائيّة)!
د. عبدالله بن أحمد الفيفي

 

 

أشرتُ في المساق السابق إلى أنه في ثقافة كثقافتنا الشعبيّة تدخل المرأة عنصراً مستغلاًّ للترويج لتلك الثقافة البدائية الكسولة المستهلكة، الغارقة في ظُلماتها، ولا ننسى أن المرأة كانت فتاة المقدمة الغزلية قديماً، لترويج القصيدة.

وفي واقعنا المعاصر نستغل- نحن العرب - التقنية الحديثة التي أمدّنا بها الغرب لنمدّ بها تخلّفنا التاريخيّ زماناً ومكانًا. ها هي قناة فضائيّة تُجلس المشعوذ مع حسناء، وتلك قناة فضائيّة تُجلس حسناء في مواجهة ما يُسمّى التراث الشعبي! فالعقل الشعريّ، والعقل الخرافي، ما زالا حاضرَين مستبدّين بالشعب العربي، يُستغلاّن أسوأ استغلال من تجّار العقول والنفوس. ذلك العقل الخرافي العريق الذي ما ينفكّ يعزو كُلَّ ما يعجز عن تفسيره علميَّاً من الظواهر الصحّيّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة إلى الجنّ والعفاريت، بما في ذلك الشِّعر نفسه.

ولقد كنتُ تقدّمتُ قبل سنتين تقريباً بتوصية من تحت قبّة الشورى- آملاً أن تجد صداها يوماً ما- للنظر بجدّيّة أكبر إلى هذه الظاهرة التي باتت تؤرق الجميع من تفشي مزاولة الدجل والسحر والشعوذة في بلادنا، التي نصفها بأنها بلاد التوحيد. فنحن إذ نثمّن ما يقوم به جهاز الحسبة من جهود مشكورة في ملاحقة هؤلاء المجرمين، إلا أن استفحال الظاهرة، حتى تحوّلت بعض الجهات والمناطق إلى مهوى أفئدة ضعاف النفوس والعقول، من داخل بلادنا والدول المجاورة، يبدو أكبر من القدرة الكاملة لدى جهاز كجهاز الحسبة على مكافحته؛ وهو في تطوّر وانتشار مطّرد، وفي استثمار لأحدث التقنيات من فضائيات وإنترنت وغيرهما. وحريّ أن تتكافأ المواجهة مع الهجوم التخريبي القائم من شياطين الإنس والجنّ على عقول الناس وجيوبهم، وأن تكون حملة وطنية شاملة، تسهم فيها جميع الأجهزة المعنية لاجتثاث هذا الوباء الخبيث، الذي يستزرع الجهل في تربة ما زالت قابلة- مع الأسف- بموروثاتها الخزعبليّة للاستزراع الجهل.

إن عالم الجنّ والشياطين ليجد مرتعه المثاليّ لدينا، وبمقدار التخلّف والانغلاق المجتمعي. وإن كان ذلك العقل يورّث أيضاً، بحيث لا يبعد أن ترى حامل أعلى الشهادات، وربما في مجال علميّ بحت، ذا عقل خرافيّ، يرمي على الشيطان والجنّ والحسد والعين وهلم جراً كل شيء. الشيطان الذي يصفه الله تعالى بأن كيده ضعيف، وبأنه خنّاس، يهوّل في مجتمعاتنا أمره، حتى يحمّل كل شيء، حسب ثقافتنا الموروثة منذ الجاهليّة. وهي ذات الثقافة التي دفعت الجاهليين إلى عبادة الجن، خوفاً منهم واعتقاداً بنفوذهم الذي لا يقاوم إلا باتقاء شرّهم، ومن خلالهم. ويظلّ الإنسان شيطان نفسه، فلمّا جاء الإسلام لينفي الخبث عن النفوس، ويخرج الإنسان من ظلماته إلى النور، أبت الثقافة الموروثة إلا أن تحتال، ومن داخل الدِّين نفسه، كي تؤسلم بعض الأفكار التي لا تتفق لا مع عقل ولا دِين. كما أبت اليوم كذلك- ولكن بمزيد دوافع اقتصاديّة- إلا أن تستغل العلم والنور والتقنية لإقناع من لم يخطر في باله وجود الجنّ في حياته، أنهم معه في كل حين، وأنهم أقوى منه، ومن إيمانه، بل أنهم فيه ذاته، يسرحون ويمرحون، ما يمسّه من شيء إلا بفعلهم، وعليه إذن أن يظلّ في وهمٍ وهلعٍ وهلوسةٍ ورعب، قد يفوق لديه خوفه من الله سبحانه أو ثقته به.

وعليه، تأتي فرصة الدجلة وأصحاب الاستثمار الحرام لفتح الفضاء على عالم جديد، يتمثّل في قنوات السِّحر والشعوذة والتنجيم. فإذا كان الغرب قد تفوّق علينا بغزو الفضاء، فنحن سبّاقوهُ إلى غزو ما وراء الفضاء والكون من غيبيات، بجنود لا قِبل للغرب ولا لغيره بها، سِحراً وشِعراً، وتحضير أرضيّين أو سماويّين.

كل ذلك يحدث بأسماء شتى، كي يُحكِم الإعلام النسيج على عقل الإنسان العربي وقلبه وجيبه. لكأن المتنبي تنبأ بعصرنا حينما قال:

كلما أنبت الزمانُ قناةً

ركّب المرءُ في القناةِ سنانا!

وسِنان قناة اليوم أشدّ فتكاً من أسنّة أبي الطيّب (الكاحية)! القنوات الفضائيّة اليوم قنابل فراغيّة ثقافيّة. وسيدخل عنصر المرأة في ذلك كله؛ فهي الملهمة، وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى، كما قال أحد الأسلاف.

وما المرأة في عالم الذكورة والتراث؟

لا أكثر من سلعة تجاريّة، تُستغلّ بمحض غفلتها، أو حاجتها، أو طمعها، لتُلصق أغلفةً ملوّنة على شتّى الواجهات، بوصفها أَمَةً معاصرة في الإعلام، كإماء الأمس في (ألف ليلة وليلة)، في مقابل امرأة أخرى مؤودة في البيوت، تحكم مصيرها أعرافٌ وتقاليد، لا شرع ولا قانون. في نظرة ازدراء لإنسانية المرأة، عالميّة التاريخ، عربيّة الجذور، من مصاديقها ما سجّلته معاجم اللغة العربيّة، كقول ابن منظور، لسان العرب، (فند)- على سبيل المثال-:

الفَنَدُ: الخَرَفُ وإِنكار العقل من الهَرَم أو المَرضِ، وقد يست عمل في غير الكِبَر وأَصله في الكِبَر، وقد أَفند؛ قال:

قد عَرَّضَتْ أَرْوَى بِقَوْلٍ إِفْناد

إِنما أَراد بقَوْلٍ ذي إِفناد، وقَوْلٍ فيه إِفناد. وشيخ مُفْنِدٌ، ولا يقال للأُنثى: عجوز مُفْنِدَة؛ لأَنها لم تكن ذات رأْي في شبابها فَتُفَنَّدَ في كِبَرها!

هكذا إذن: المرأة (لم تكن ذات رأْي في شبابها فَتُفَنَّدَ في كِبَرها)، فهي (مخرّفة) خِلْقةً، وليست ذات رأي طيلة العمر!

وهذه لغة الجاهليّة العربيّة الأخيرة بطبيعة الحال، أمّا تاريخ العرب القديم فقد كانت المرأة فيه على عكس ذلك، حتى إنها كانت من المكانة بحيث يمكن أن تصل إلى الحُكم والمُلك: بلقيس، زنوبيا، شمس.. وغيرهن.

وجاء الإسلام فكان ثورة حقيقيّة في مجال حقوق المرأة، فأصبحت لها- وإنْ نظريّاً- مكانتها المرموقة ورأيها المعتبر، لا مفنّدة في شبابها وكبرها، كما ينقل ابن منظور عن لغة القِيَم الجاهليّة وقيم اللغة الجاهليّة. حتى أن الثقافة الاجتماعيّة لتهيمن عن فهم بعض الآي الكريم، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(13)سورة الحجرات، لتُختزل غالباً لصرف النظر عن النصّ فيها على مساواة الذكر والأنثى إلى المساواة فقط: بين الشعوب والقبائل. مع أن الإسلام قد ألغى التفاضل بين البشر على أي أساس، من جنس، أو هويّة، أو نَسَبٍ، أو لونٍ، أو لُغَة. غير أن الإرادة الثقافيّة تهدف إلى عدم الالتفات إلى صَدْر الآية السابقة وما تعبّر عنه من مساواة الذكر والأنثى؛ لأن هذا يتصادم مع (سُلُوم العرب)، كي تمرّ عليه الأذهان مروراً، وكأن الآية إنما أرادت الإشارة إلى أن أصل الخلق من جنسين: ذكر وأنثى! ولا معنى لأن يأتي القرآن ليقول للعرب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى}، ويقف، فهذا من أبده البدهيّات، ومن فضول القول، وإنما معنى الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. فلا تفاضل بين الذكر والأنثى ولا تكارم إلا بالتقوى.

ومثل ذلك أيضاً ما صنعته الثقافة في شأن الآية الأخرى المتعلّقة بالقوامة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}(34)سورة النساء، فقد رسّخت الثقافة في الأذهان أن قوله تعالى: (فضّل الله بعضهم على بعض) هو تفضيل عنصريّ للرجال على النساء، مع أن سياق الآية إنما هو عمّا (فضّل الله بعضهم على بعض في الكسب)، لا في العنصر. والرجال أقدر- في الماضي على الأقل- على أعمال التجارة والكسب من النساء، وتفضيل الله إيّاهم في ذلك قد جَعَل ضريبته القوامة، بوصفها مبدأ عدل بين الرجل والمرأة، وذلك بأن تصبح النفقة على الرجل، ومن ثم يُقابَل تفضيل بتفضيل، تفضيل الرجال على النساء بالكسب بتفضيل النساء على الرجال بضريبة أن يقوموا بتولّي شأنهن من النفقة والمأكل والملبس. القوامة إذن في الأصل خدمة للمرأة، أوجبها الله على الرجل، تكريماً لها وتفضيلاً، بل لنقل: إنصافًا، بجعل تفضيلٍ مقابل تفضيل.

(ونواصل الحديث في المساق الآتي، إن شاء الله).

*****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- الرياض aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة