Culture Magazine Monday  25/02/2008 G Issue 235
فضاءات
الأثنين 18 ,صفر 1429   العدد  235
 

سجّاد الآخرين
د. شهلا العجيلي

 

 

لم نكن نعلم أنّ نوبات الغضب والتوتّر التي تصيب أبي في بعض الشتاءات، يعود سببها إلى السجّاد، ففي الشتاءات التي لا نفرش فيها المنزل بالسجادات الكاشانيّة التي ورثها والدي عن جدّي، الذي اشتراها، رحمه الله، في النصف الثاني من القرن الثامن، يقلق والدي، ويجافيه النوم.

لم يكن يثنينا عن مدّ هذه السجادات سوى حجمها الكبير، فهي سجادات اثنتا عشريّة وأربع عشريّة، وهي جميلة جداً، ألوانها تزداد توهّجاً كلّما بلي الدهر، وهي تمنح الناظر إليها شعوراً يمتزج فيه الجمال بالجلال. أمّا أبي فيظلّ متوتّراً، ويلحّ، حتى نقوم ونفرشها، فيسكنه شعور بالسعادة، والطمأنينة.

لم أتمكّن من تحليل سبب توتّر أبي، وطمأنينته، وربطها بالسجادات إلاّ بعد أن قرأت مقالة تفضي إلى أنّ حالات من الاكتئاب تنتاب الفئة من الناس، التي تشتري السجّاد القديم من محلاّت (الأنتيك)، والمحلاّت المتخصّصة لبيع السجّاد الفاخر العتيق، لاسيّما العجميّ، فتفرشه في منازلها ادعاء لعراقة ما، ولتضرب عن طريقه بعائلاتها في عمق التاريخ رغماً عنه، ولم يكن يعرف سبب حالات الاكتئاب تلك، إلى أن كشف العلم أنّ سببها يعود إلى سجّاد الآخرين!

لا شكّ في أنّ علاقة المرء بالأشياء حوله تقوم على الألفة، وعلى تبادل الطاقة، لاسيّما الأشياء التي يتلقّفها بحواسه يوميّاً، فكيف يمكن لك أن تعيش مع تاريخ الآخرين: ذكرياتهم، وأحلامهم، أفراحهم، وأحزانهم، أسرارهم، ومؤامراتهم، وربّما بقايا أجسادهم!

السجّاد وغيره من المقتنيات الثمينة لا تعني سوى أرقام جامدة إن كانت اكتساباً لا وراثة، وإن كان كثر من الأثرياء الجدد أو من المتنفّذين مالاً وسلطة، لا يأبهون بمرجعيّتها على حدّ قول أبي الطيّب:

ولست أبالي بعد إدراكي العلا

أكان تراثاً ما تناولت أم كسبا

لا تضفي تلك الأشياء السنيّة مجداً ولا عراقة، إنّها لا تمنح مقتنيها سوى شعور بالغربة، والاكتئاب، وربّما اغتصاب تاريخ الآخرين، واستباحة أسرارهم وذكرياتهم، وإن كانت مرفقة بشرعيّة البيع والشراء.

سجّاد جدّي يمنح أبي الشعور بالطمأنينة والغبطة، إذ (ليس التكحّل في العينين كالكَحَلِ)، ويمنحني شعوراً بالأمان، والاستمراريّة والفخر، والمسؤوليّة. ولطالما ذهبت مع نظرة أبي، حينما يكون شارداً في السجادات، إلى أيّام تجمّع العائلة في دارة جدتي وجدي لتداول خطة لمقاومة المستعمر الفرنسيّ، أو للهجوم على حاميته في الرقّة، وأذهب مع أبي عبر السجادات إلى ليلة تحديد أسماء أعضاء نوّاب الكتلة الوطنيّة، وطموحاتها لتكون سورية الدولة المستقلّة القويّة، وإلى ليلة السفر السريّ لعمّي، وأخواله، وأبناء عمومته إلى فلسطين، متطوّعين في جيش الإنقاذ، وكان أبي صغيراً يستمع إلى أحاديثهم ويكتمها منتظراً أن يكبر فيلتحق بموكب النصر في تشرين.

السجادات ذاتها التي لفّت عمّتي بها أسلحة الثوّار حينما جاء العسكر الفرنسيّ يفتّش بيت جدّي نتيجة وشاية جاءته بأنّ دارنا معقل لهم، وهي السجّادات ذاتها التي شهدت أحاديث جاك بيرك، ونزار قبّاني، الذي سأل أبي مستغرباً: لماذا عدت من أمريكا إلى هذا المكان القصيّ من العالم، الرقّة؟ أجابه أبي: ألست القائل: جئت لأريح جبيني على أصغر حصاة في بلادي! فقال نزار: قتلتني والله!

ملاحظة: هذا المقال ليس إعلاناً لبيع سجّادنا الكاشانيّ العتيق، بل هو تحذير من اقتناء سجّاد الآخرين.

* مدرّس نظريّة الأدب والأدب العربي الحديث في جامعة حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة