Culture Magazine Thursday  04/06/2009 G Issue 286
الملف
الخميس 11 ,جمادى الآخر 1430   العدد  286
الهدلق: العالم الموسوعي
عبدالعزيز بن ناصر المانع

 

تمتد علاقتي بالأستاذ الدكتور محمد الهدلق إلى فترة بعيدة بعيدة أكاد من طولها أنسى بدايتها الأولى، لقد تزاملنا لأكثر من ستين عاما لكن تلك السنين الستين كانت نعم السنوات في رفقة قامة علمية وأخلاقية مثل قامة الدكتور الهدلق، لقد درسنا الابتدائية والثانوية والجامعة والماجستير والدكتوراه معاً لم نفترق خلالها إلا ما شاء الله، ثم استقر بنا المقام في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود ولا نزال بها نسير في هذا الطريق العلمي النبيل.

أستطيع أن أقول، بعد هذه المجايلة الطويلة إن الدكتور الهدلق يعد رجل علم بكل مقاييس هذا المصطلح، كان منذ شبابه يبهر أساتذته بلغته وفصاحته وخطابته وثقافته، كان قارئا نهما محبا للكتاب ممتلكا له منذ العصر المبكر من حياته. كان يقرأ في كتب الأدب والتاريخ واللغة والدين، أما الشعر فكان يحفظ منه القصائد، فصيحه وبعض العامي، ولا يكاد يقف له زميل في المساجلات الشعرية. وبعد أن التحقنا بالجامعة كان له السبق على كل زملائه رغم كونه في بعض السنوات طالبا منتسبا، فقد كانت الثقافة التي يمتلك ناصيتها تفوق كل مقررات الدروس الرتيبة. لقد أسس الدكتور الهدلق نفسه تأسيسا علميا قويا ناضجا لا يكاد يجاريه فيه أحد من زملائنا ورفاق دربنا فهنيئا له ما حصد فيما بعد من إنتاج علمي رصين.

أما دراسته العليا فقد قرر، واثقا، أن يتخصص في (النقد العربي القديم) فكان له ما أراد. ولما استقر به المقام في الرياض أكبّ على العلم والبحث دون ملل أو تعب بل بكل العشق والحب إذ لم يكن الدكتور الهدلق ممن شغلتهم مباهج الحياة أو المال أو المراكز ويظهر أثر ذلك في أبحاثه المعمقة المنشورة في المجلات العلمية العريقة التي تفوق ثلاثين بحثاً. إن هذا الإنتاج النقدي للدكتور الهدلق يجعلك، بعد قراءته تحس بأصالة كاتبه ورصانته وانتشاره فقلما يمر بك عصر من العصور إلا وتجد الهدلق حاضرا فيه ملمّا به دارساً لبعض شخصياته ومبدعيه أو ظواهره النقدية.

والرحلة مع بعض أبحاث الدكتور ستدلنا على صحة هذا الزعم الصادق، فأنت لو بحثت في العصر الجاهلي فإنك ستجده هناك يناقش نقد أم جندب لشعر امرئ القيس وعلقمة الفحل.

لكن العصر الذي ملك عليه لبه وسيطر على جل أبحاثه هو العصر العباسي - عصر النهضة النقدية الذهبي. في هذا العصر ستجد أن هذا الناقد العالم الجليل قد حط رحاله فيه ودخل دار كل شاعر أو ناقد.

وأجزم أنك واجد في أبحاثه ما يدل على ذلك دلالة واضحة فها هو ذا في أحد أبحاثه يناقش موقف ابن المعتز من أبي تمام.

وفي آخر يحدد لك (الرؤيا والواقع في ظلامة أبي تمام للخالدي) وفي ثالث يحلل تأويل الشريف المرتضى للنص الشعري.

أما شاعر العربية العظيم أبو الطيب المتنبي فهو يخصه بالحديث ويقف عنده ملقيا الضوء واضحا على منابع (ثقافة المتنبي) من خلال شعره والمصادر التي ترجمت له.

ولو توجهت إلى الأندلس والمغرب لوجدت أن الأستاذ الدكتور الهدلق قد سبقك إلى هناك وبحث في أدب القوم ونقدهم متوقفا عند شيخهم حازم القرطاجني الذي كتب عنه د. الهدلق بحثين أحدهما عن قضية الغموض في الشعر، والآخر عن قضية الصدق والكذب في الشعر أيضا، كما تناول، أثناء إقامته هناك، بحثا آخر عن قصيدة لأبي إسحاق الألبيري موجهة إلى باديس الصنهاجي الذي كاد حكمه أن يسقط بسبب دسائس بعض اليهود. يبين الدكتور الهدلق في بحثه هذا تأثير هذه القصيدة على أهل غرناطة وإيقاظهم لتفادي الغدر الذي يحيط بهم بسبب تلك الدسائس فيخلط النقد والشعر بالتاريخ والسياسة، بمقدرة فنية تبهرك وأنت تقرأ هذا البحث الأدبي المتميز والممتع.

وليس هذا هو البحث الوحيد الذي وظف فيه التاريخ والسياسة في مشروعه النقدي فالدكتور الهدلق في بحثه الموسوم (الحِجاج بشأن الأحقية في الخلافة بين الخليفة المنصور ومحمد بن عبدالله العلوي) استفاد من هذا الحجاج العقلي وقرأه قراءة نقدية فذة وتتبعه تتبعا نصيا رائعا.

ثم ماذا عن نشر التراث وتحقيقه؟

لقد نشر الأستاذ الدكتور الهدلق ثلاث مخطوطات هي:

- الإغريض في الحقيقة والمجاز والكناية والتعريض للسبكي.

- رسالة في الفرق بين المترسل والشاعر للصابئ.

- رسالة (ابن طبا طبا) في استخراج المعمّى، ومن يقرأ الرسالة الأخيرة بتحقيق الدكتور الهدلق يتوقف مذهولا من الجهد الذي بذله في تحقيق هذا النص المعقد فيكفي أنه في فن التعمية: أو (الشفرة).

لكن الدكتور الهدلق فكك تعميته وبين غموضه بكثير من الدقة والبراعة والإيضاح والتفصيل.

ثم ماذا عن الثقافة النقدية عند الآخر؟

يكتب الدكتور الهدلق بحثا عن إحدى مقامات بديع الزمان الهمذاني ويحيلك في تفاصيلها الى أسطورة يونانية قديمة ويبين توافقهما في كثير من التفاصيل الدقيقة التي لا يعيها إلا قارئ قراءة واعية للأدب اليوناني ونقده.

ويكتب لك الدكتور الهدلق بحثا آخر حول النقد العبري فيحدثك عن (موقف موسى بن عزرا من البيان العربي) فيفند لك مدى نقل (ابن عزرا) للمصطلحات النقدية العربية إلى اللغة العبرية كما يبين لك مدى تأثر الأدب العبري بالنقد العربي واتكائه عليه.

ثم ماذا عن الحداثة؟

ها هو الدكتور الهدلق يتناول كتاب (الخطيئة والتكفير) للأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي، شيخ الحداثيين، فيعيد هذا الكتاب سالما معافىً إلى أصوله النقدية العربية التراثية القديمة وذلك في بحثه الموسوم (الحضور التراثي في الخطاب النقدي لدى الدكتور الغذامي) الخطيئة والتفكير نموذجا.

ثم ماذا عن علاقته في أبحاثه العلمية بالمحدثين من العلماء والأدباء؟

لا تعجب! فالدكتور الهدلق سيحدثك عن الشيخ العلامة حمد الجاسر وصِلاته (مع الشعراء) فتحس بأن هذا الباحث قد قرأ الجاسر ورحل معه ودرس توجهه النقدي للشعراء.

ويكتب لك عن أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري (أديبا) فتحس أنه لم يدع شاردة لأبي عبدالرحمن ولا واردة في أدبياته إلا وقد قلّبها وناقشها فتحس أنك أمام عالمين يحاور أحدهما الآخر.

وليس هذا فحسب فدراسة القصة القصيرة كان لها نصيب في ثقافة الدكتور الهدلق النقدية فقد كتب عن المجموعة القصصية للمبدع عُدَي بن جاسر الحربش متتبعا كل مظاهر التكوين الثقافي والتاريخي له في تلك المجموعة القصصية الموسومة (حكاية الصبي الذي رأى النوم). تلك سياحة مختصرة في ثقافة هذا العالم الجليل الدكتور الهدلق وما تركت الإشارة إليه من أبحاثه هو الأكثر دون ريب.

وبعد: فهذا العالم الموسوعي ما عرفته حضر محاضرة إلا وأثراها بمداخلاته العلمية الرصينة فإن كانت المحاضرة تاريخية ظننت أن الدكتور الهدلق مؤرخ. وإن كانت سياسة ظننته من المهتمين بالشأن السياسي وإن كانت فقهية ظننته من المهتمين بالمذاهب وتفريعاتها أما إن كانت نقدية أو أدبية فإنه يكون دائما العِلم والعَلم.

وأخيرا أشهد الله أن ستين عاما قضيتها في زمالة الأستاذ الدكتور الهدلق وصداقته قد أضفت عليّ متعة علمية لم أشهدها إلا في جعبته وأشهد الله أيضا أنه في تلك الأعوام الطوال كان لي نعم المعلم والموجه، فقد تعلمت على يديه ما لم أتعلمه على كثير من أساتذتي الكرام. فأكرم به وبصداقته وزمالته، أمد الله في عمره ووفقه.

والله وحده المستعان


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة