Culture Magazine Thursday  04/06/2009 G Issue 286
مراجعات
الخميس 11 ,جمادى الآخر 1430   العدد  286
استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

 

الأمل الظامي

عمران محمد عمران

370 صفحة من القطع المتوسط

شاعرنا المرهف الحس.. الزكي النفس.. على الرغم من ري روحه.. إلا أنه يطارد بأمله شبح الظمأ.. ظمأ حياة الماء بعض مواردها.. لا كل مواردها.. ظمأ الحقيقة هو الأكبر.. والأكثر مدعاة للبحث عن ينبوعه المختفي وراء تلال ورمال محفوفة بسعار الرمضاء.. ووهج الصحراء..

الديوان بمحتوياته وبصفحاته الكثر يعذيني مكرها لا بطلا أن أنتقي طبقاً شهياً ومنوعاً كما طبق الفاكهة من كل شجرة ثمرة.. وأحيانا أطباق أخرى ليس لها طعم الفاكهة وقبولها.. ففي بعضها المرارة كالحنظل.. أولها هذا الطبق المر.. (المنافقون)

أمرك المكشوف قد شاع، وفينا قد فُضح

قد عرفناك بوجهين.. وعِرضٍ قد جُرح

ولمسنا فيك طبعا بين عينيك نضح

وبصرنا بك شيطانا على الخَلق وقحِ

يرسم بريشته لنا بعض ملامح الصورة معذب

آه من واهج بصدرك يغلي

وقداً كالسعير أو هو أعظم

برحتك الهموم حتى غدوت

تحتسي زي الحياة صلابا وعلقم

أي كدح أراه أضناك دهرا

وحصاد هو السراب المخيم؟

يا لسوء الهموم كم قد رمتك

بسهام تهد منك وتهدم

المُعذَّبون في الأرض يا صديقي كثر.. والمعُذِّبون والمفسدون في الأرض أكثر، وأكثر.. مسلخ الحياة جزار وضحية.. شاعرنا كاد أن يشرق بريقه تحسر على حال شرقه:

أيها الشرق علام الليل لم يبرح سماك؟!

وعلام الحين يسري في الدجى يبغي حماك؟!

وإلام النوم يا شرق محيطا برباك؟!

ليت شعري اليوم يا شرق متى نجني مُناكا؟

ومتى تملأُ هذا الكون أصداء علاك؟

كلنا ندري يا شاعرنا المهموم بأمته.. حين نفيق من سورتنا.. ونستفيق على قدرتنا وقوتنا ووحدتنا دونها سوف تنهشنا الذئاب المسعورة. (نجوى) فاكهة حلوة المذاق.. إنه يتلذذ بها شعراً

نبع ألحاني ومغنى فكرتي

وسنا حبي وملقى خطرتي

أنا اسلوبك في دنيا الورى

أتملى فيك أجلى نظرة

أنفض الحزن واشدو بالهوى

في مجاليك وأردي شقوتي

منكِ أستوحي ابتهاجي أبدا

منك استوحي معاني اللذة

أكثر من هذا التوصيف لا يضيف: ومن نجواه إلى محراب نفسه:

فُتات.. فماذا نريد به؟

انحرق أنفسنا في جناه؟

انحرقها في سبيل السراب

ونغرس أفكارنا في صداه؟

ونقضي لباناتنا في لعلّ؟

وفي ديب ذهري؟ وماذا عساه؟

وندلج في مهمه مقفر

تناهى دجاه.. وهاج أساه

أسئلة يطرحها.. وبين السؤال والإجابة تكمن علامات الاستفهام؟؟ والتعجب!! أسئلة نطرحها على أنفسنا.. وأنفسنا هي ذاتها العاجزة عن الإجابة لأنها نفسها مصدر العجز.. والركون إلى محطة الانتظار.. والتمني.. (قلب يتعذب) أشفق عليه شاعرنا.. طرح قضيته كما تلقاها:

لا تسليني عن المصير فإني

ظامئ القلب موهن الأشلاء

في أتون العذاب ألفيت نفسي

في لظى البؤس في وطيس الشقاء

مشربي علقم تحدَّر من صا

ب شجوني ومن صديد بلائي

وخيالي قد صاغه الحظ في لـ

يل الدواهي ومن دجى البأساء

في ربيع المنى قضيتُ شبابي

وأنا اليوم في ربيع شقائي

وكما يورق ربيع الفرح ورودا وثمارا جنيته يورق ربيع الشقاء حنظلا وشوكا وشراكا مؤذية.. هذه المرة انقلب نزح شاعرنا إلى فرح:

حطمت قيثارة الاتراح والألم

وصار لحن الرضا والفأل ملء فمي

لا لوعة اليأس تردي همتي ابدا

ولا الشجون ولا الأنَّاث من شيمي

دفنت شوك الأسى في روضة أنُفُ

من الصبابة والانغام والشيم

عشقت رشف رضاب الفأل في زمني

وضقت ذرعا بدنيا الشؤوم والألم

وما السعادة في الدنيا سوى شبح

فاقنع بدنياك بالآمال والوهم

هكذا تأتي قناعة شاعرنا في دنياه خليطا من العلم والوهم.. مزيجا من طيف السعادة ومن شبح القلق.. يريد أن يقول لنا إن الحياة قدرة واقتدار على قدر ما نأخذ تأتي قناعتنا.. والإيمان بحظنا؛ فالأماني كلها لا تدرك البعض النزر منها هو ما يمكن تحقيقه للوطن الكبير غنت قيثارة حبه:

الأمل اللاهب هل يرتوي

من غدك المشرق يا موطني؟!

وسورة في النفس هل تشتفي

غلتها من معتد أرعن؟!

يا موطني الحبيب من طنجة

حتى رياض الشطر في المشرق

ما بورسعيد غير أبها وما

وهران في الخطب سوى المفرق

عروبة تضوع في ربعنا

كما يضوع النور في الروضة

صدى لذكريات عظيمة مرت يوم أن كان للعرب صوت وسوط.. حرروا بها أوطانهم من رجس الاحتلال على مستوى رقعة عالمنا العربي الكبير.. الآن الصورة مقلوبة.. ما طردناه باليمين عاد إلينا باليسار طوعا.. وكرها.. مناجاة واحدة من قصائده الجميلة:

كهف آلامي وملفى خطواتي النائحة

وصدى مهجتي الظمأى ونفسي الكادحة

يا رحاب الأمل المر. ودنيا كالحة

أنت يا بيداء حدسي في الحياة الجارحة

أتراني من ثرى الحرمان يا شعر خُلقت؟!

لست أدري غير أني بت خوفا للندم

وفؤادي بات في دنياه مشبوب المطرم

وحبيبي بات موسوما بآيات الألم

وضميري بات موخوزا بوغد وصنم

أتراني بعدُ يا شعر عنيدا ما فرقت؟

كن كما أنت.. أنت ابن زمن يحتاج إلى فضفضة تدفع عنه غبار اليأس.. والبؤس كي يبرأ من سقمه ويأسه

كلنا واياه نأسف على ما آل إليه حال بعض شبابنا من تسيب وانسلاخ ولا مبالاة:

أسفي على معنى الشباب غدا

هزءا، وعاد ربيعه إقفارا

وئدت به روح الطموح، فلم

يرع الحياة ؟؟؟؟ ونضارا

الحب الشاعري يطرق به.. فيستجيب لضيافته مرحبا:

يا حلوة الالفاظ يا شاعره

يا مبسم الأفكار والخاطرة

يا منية المشتاق في دهره

يا بلسما للمقلة الساهرة

صبٌّ معنى ذاب وجداوله

لوم عليه ان هوى ساحره

ردي عليه لبّه واسمعي

شكاته ثم اجبري خاطره

بيتان معبران عن العشق زعمت أنهما لغيرها:

زعمت بأنك عازف عن حبها

كلا، وقتلك شريعة العشاق

فلقد علقت بحسنها وبغنجها

ولكم تلاقي في الهوى.. وتلاقي

حسنا لو أنه أكد العشق من الجانبين لو أنه قال: (ولكم تكابد في الهوى، وألاقي.. الشوق أشبه بالنار له لهيب ووهج):

يا ربع لو تدرون ماذا لوى

بقلبي المسكين يوم السفر؟

لم يهدأ الهاجس من بعدكم

ولم يذق جفناي غير السهر

هذه المرة قلبه يطعم الفراغ وبطن الفراغ الموحش:

همدت جذوة الغرام بقلبي

وانقضت لوعة الضنى والعذاب!

بتُّ خالي الفؤاد بعد اكتئاب

ناعما بالكرى معافى الشباب!

لم يعد طيفه يلوح أمامي

لم أعد باحثا وراء السباب

انها استراحة فارس أجهده السير على درب الهوى.. آثر الاستراحة.. وكل راحة غنيمة ومكسب.. إلا أن شاعرنا سرعان ما يضيق باستراحه وينتفض على وقع لواعج بُعده:

وحسبت الفراق يطفئ ناراً

أججتها لواعج الشوق فياّ

فإذا بالجوى يهيج اضطراما

وإذا بالفؤاد يزداد كيا

كلما أوغل البقاء بي اشتدّ

غرامي وجار سُهدي عليَّا

علم الله ما غفى الجفن يوما

بعد بيني إلا سخينا دميا

الاستراحة يا صديقي فترة نقاهة واستجماع قوة لمعركة قادمة.. وهكذا فعلت.. الشاعر في بحر شعره أشبه بالسمكة يموت حين يبرح بحره.. وشاعرنا عرّفنا بتلك الحقيقة:

قالوا.. عزفت عن القريض.. فقلت (لا)

لكن أسباب القريض شوارد

كانت حياة الأمس وارفة الهوى

والقلب مشبوب العواطف واجد

واليوم لا قلب يهيم ولا جوى

بين الجوانح أو نديم صائد

والشعر عاطفة وضربة خافق

يومي بها حَوَر وصدر ناهد

الشعر عمر ينبض بالحياة.. أوله عشق.. ونهايته استرجاع ذكريات.. إنه يستريح من أجل اني تحرك من جديد.. أبداً لا يتوقف إلا إذا ماتت المشاعر.. للمال معيار في ميزان شاعريته.. مازاد عن حده انقلب إلى ضده.. المال احتياج تلك مهمته.. مازاد عنه مجرد أرقام لا تعني شيئا أكثر من الهم والركض وراء هدف خاسر.. هذا ما يعني شاعرنا قوله:

حسبي من المال ما أغنى عن الناس

مازاد ليس بذي طعم وإيناس

مالي من الكسب إلا ما أكلت وما

لبست من حلل تُزهى وأحواس

لو فكر الناس ما انصاعوا إلى جشع

يهد منهم كيان الروح والباس

الأمل الظامئ واحدة من مقطوعاته الموحية بجمالياتها اختار منها بعض أبيات لطولها:

ملء كفي من الحياة سراب

ومن اليأس والعثار حراب

الأماني العذاب أودعت الر

مس وفأل الورى عفته الذئاب

(عفته) من العفو وعافته من العياف الأخير هو ما أراده.. حسنا لو أبدلها بكلمة (أبته) أي رفضته.. ألم شاعرنا كبير بحجم طموحاته التي تكسَّرت على صخرة الواقع.. طموحات وحدة أمة عربية واحدة..

كلما قيل وحدة العرب لاحت

فطربنا لها وهان مصاب

فرقة تبعث الشجون تباعا

ويذيب الفؤاد منها التهاب

أين؟ أين العهود؟ اين الموا

ثيق؟ بل اين الإخاء؟ أين الكتاب؟

باعدت بيننا الدسائس والأ

هواء أردت رغابنا الأوشاب

لا مزيد أفضل مما قلت.. فقط أضيف كلمة بلسان خصومنا الذين يذكون نار فرقتنا كي ينالوا منا واحدا تلو الآخر.. الحكمة التي تقول: (فرق تسد) ولقد تفرقنا طائعين.. أو مكرهين.. إشكاليتنا أن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر..

(من غم إلى فرح) نقلة سعيدة ننتظرها جميعا، فقد أتخمنا دموعاً:

سقامكَ يضنيني وبرؤك لي سعد

لأنك مني الروح والقلب والنِّد

تملكني ليل السهاد بروعه..

وسالمني شهرا إلى ناره الوجدُ

ومازلت في قيد الهموم مكبلا..

أصارع أتراحي ويملأني الوقد

إلى أن جاء الفرج والبشرى

إلى أن شفاك الله من سقم علّة

فبتّ قرير الروح يغمرني الحمد

لفرحك يا صديقي فرحنا.. فالحياة قيمة لا تُعوض بأخرى..

بين النظرية والتطبيق، كما بين الممارسة ونقيضها يتحدث شاعرنا بلهجة ساخرة:

وتطوف بالبيت العتيق عشية

ترجو ثواب إلهك الرحمن

وأراك بعد هنيهة في لجة

من زاخم الأحداث والأدران

كلا فمثلك للأنام منافق..

دامي السريرة، مقفر الوجدان

شاعرنا يريد أن يقول إن العقيدة قول وعمل لا ينفصلان ولا ينفصمان، ليس لها وجه طهر وآخر للغدر والتجاوز. تمنى فارس رحلتنا على أبينا الأول آدم لو أنه لم يلدنا.. من فرط ضيقه بما نصنع بأنفسنا وبغيرنا من البشر:

يا ليت أنك يا ابانا لم تلد

لتعمّ هذا الكون أسباب الهنا

بطر البنون فأوغلوا في بعضهم

سفكا وعسفا جائرا ملء الدنا

غدت الوحوش وديعة في طبعها

وبنوك رمزا للبشاعة والشنا

يا عزيزي الكون دون كائن ومكونات عدم.. والجنة من دون ناس ما تنداس كما يقولون.. وجنة البشر الأولى في أرضهم وديعة سماوية كي يعمروها إلا أنهم دمّروها.. أما الوحوش فما برحت مفترسة حين تجوع.. وحوش البشر تفترس وهي متخمة، هذا هو الفرق.. مرة أخرى يحملنا شاعرنا على أن نبتسم.. بمقولة ابتسم لحياتك تبتسم لك.. ليس دائما.!

لا تلق دهرك إلا باسما جذلا

ماذا يفيدك من غم وأحزان؟

امض الحياة بهيج النفس مغتبطا

ودعك من بث آهات وأشجان

واقنع بميسورها لاتخشَ مخمصة

سبحان من قسمّ الدنيا بميزان

سبحانه جل وعلا.. أما نصيحتك فيسهل إملاؤها شعرا.. ويصعب تطبيقها على أرض الواقع، كلنا يتمنَّى ولكن شرط أن يوافق راجح.. وراجح دائما لا يطيع.. (إن طاع راجح..) مثل لما يستعصي حله..

وعن الشعر يتحدث الشاعر:

إن صحبي لا تبخسوا الأدب الحقّ

ولا توهنوه بغيا وخدشا

ربّ شعر قد عدّل الميل يوما

ويراع قد أبدلت الموت عيشا

وحتى ننصف.. في الشعر ما أمال القائم.. وأنار الغائم! وامتدح الغاشم! الشعر فيه النقيض وضده إنه صوت ومزاج متقلب كأهله.. وأخيراً أصطفي من مقطوعته (لا تلمه) أبيات ثلاثة أختتم بها هذه الجولة.

لا نلمه إن هام في هيفائه

فهو أدرى بشأنه وعنائه

ودّع القلب سارحا يتملّى

في أتون الهوى لذيذ شقائه

ذاك كنه الغرام من عهد عادٍ

ما على الصب من وقيد بلائه

وبدورنا جميعا نقول ما علينا.. اختار الجنة حبه أو النار.. فهو حر.. والحرية أحيانا تضر.

شاعرنا الصديق عمران محمد عمران، المسلم جدا. الهادئ جدا، لنا من خلال رحلتنا الجماعية معه مكنونات صوره من خلال أبيات شعر صادقة كانت بردا وسلاما ومائدة شهية غنية بأطباقها المختلفة.. منها ما أمكن التهامه.. ومنها ما استعصى على الفم والهضم لا على الفهم.. الشكر الجزيل له.. على أمل أن يخرج من دائرة صمته.. وأن يسمعنا صوته من جديد.. فالأصوات الصافية قليلة كالعملة النادرة نبحث عنها لنأخذ منها.

الرياض ص. ب 231185

الرمز 11321 فاكس 2053338

**** لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة