Culture Magazine Thursday  04/06/2009 G Issue 286
قراءات
الخميس 11 ,جمادى الآخر 1430   العدد  286
محمد حسين هيكل: من الناقد إلى المؤرخ (2)
عبدالفتاح أبو مدين

 

هذا ما قاله هيكل، وقد نسي أن الأستاذ وجدي بدأ وضع دائرة المعارف في أول القرن العشرين، حين لم يكن في بلده جامعة ذات أساتذة ذوي اختصاص، وأنه رأى القارئ العربي في حاجة إلى موسوعة علمية تعينه على مطالعة معارف لا تتيسر له، فنهض بتأليف عشرة أجزاء ضخام لتسد حاجة القارئ في عصر لا يجد ما يغنيه فيما يحتاج إليه، حين يريد الوقوف على موضوع خاص.. وقد اهتم القراء بدائرة المعارف اهتماماً كبيراً، وتعددت طبعاتها لمزيد الحاجة إليها، وهل يجوز للأستاذ فريد أن ينتظر عقوداً، حتى تخرج الجامعات رجالها المتخصصين، فينهض كل باحث بما يعهد إليه حسب تخصصه! لقد كان الأجدى للقارئ العربي أن يجد هذه المجموعة ليستقي منها ما يشاء! وها نحن الآن بعد انتهاء القرن العشرين وظهور أكثر من مائة جامعة في الشرق العربي والعالم الإسلامي، ها نحن الآن لم نجد جماعة تنهض لوضع دائرة معارف إسلامية، إلا ما كان من ترجمة دائرة المعارف الأوروبية التي وضعها أساتذة الاستشراق، وهي للأسف ترجمة لم تستكمل لنقص الأعباء المالية.. ولعل الدكتور هيكل لم يكن موفقاً في هذا النقد الذي جعله مدار بحثه.. وكان الأستاذ داود بركات رئيس تحرير الأهرام يومئذ أكثر توفيقاً حين قال عن هذه الدائرة وعن صاحبها الهمام الجاد، حيث أفرد له افتتاحية الأهرام الصادرة بتاريخ 2-4-1925هـ فقال: (رجل واحد مفرد، يقوم بعمل جاد يسهر له الليالي، لا ليتلألأ على صدره نيشان، ولا لتدفع له رتبة، أو يقام له حفل تكريم، والمسؤولون مشغولون بكل شيء عن العلم والأدب، ولا يعرفون عن المؤلف إلا أنه أديب كاتب، على حين نجد المنافق والدساس والمزاجي يقدم على صاحب دائرة المعارف في كل شيء؛ يقدم عليه بالمال، ينصب انصباباً، وبالمقام يرتفع ويعلو، وبالتقديم الذي لا ينتهي إلى حد؛ أما وجدي فإنه في عزلة؛ وأنه مجهول).

أما كتاب تاريخ آداب اللغة العربية للأستاذ جرجي زيدان، فقد ابتدأ الناقد حديثه بالثناء على المؤلف في شتى مباحثه العلمية، وقد قال عنه بعد ذلك في صفحة (22) إنه في الغالب يجىء بالأفكار والحوادث العامة، ليخرج قارئه منها بفكرة عامة عن الأمة التي يتحدث عنها، وهو لا يقف عند الحوادث الصغيرة، يريد أن يستفسرها عن معنى الحوادث الكبيرة، فإذا جئت على كتاب من كتبه لم تصل إلى العلم بدقائق ما كتب عنه، ولكنك تكون قد عرفت الأفكار العامة التي تفسر الحوادث التي شرعها لك).

هذا ما قاله الدكتور هيكل عن هذا الكتاب، في تاريخ الأدب العربي، في عصريه الجاهلي والإسلامي.. والمنتظر منه أن يتحدث عن الأفكار العامة التي تبني هيكلاً العصرين، أما الوقوف على الأحداث الصغيرة وتعليلها، فليس من دأب الباحث الموسوعي الذي يمتد نظره إلى مساحة كبيرة من التاريخ، ولو كان جرجي زيدان قصر حديثه عن عصر واحد، لكان من الممكن أن يتئد ويقف عند الأحداث الصغيرة، كيف وقد وضع خطة للكتاب تشمل جميع عصور الأدب، من جاهليته وإسلامه وأموية وعباسية وأندلسية حتى العصر الحديث، وهذا ما كان فعلاً بعد أن فرغ المؤلف من كتابه، فكيف يجعل الأحداث الصغيرة شغله الشاغل، وكم يبلغ عدد أجزاء الكتاب؟ لقد نظر الدكتور هيكل إلى هذا الكتاب، وكأنه كتاب سبقته كتب كثيرة في موضوعه، فكان عليه أن يتمهل، ليضيف الجديد في التفسير والتعليل، وذلك غير ممكن وفق المنهج العام الذي رسم المؤلف خطته قبل أن يبدأ الكتاب.. على أني أوافق الدكتور كل الموافقة فيما لحظه على الأستاذ جرجي زيدان من إهماله الكلام عن القرآن الكريم والحديث النبوي في مفتتح صدر الإسلام؛ لأن القرآن والحديث معا، قد أدهشا العالم بأسلوب جديد، ثم بمعان فكرية لم تكن على بال الجاهليين، وقد زادت من ثروة الفكر الإنساني، قبل أن تزيد من ثروة الفكر العربي، وهنا يحق للدكتور هيكل أن يقول عن المؤلف في صفحة - 238 -: (وأهم من ذلك سكوته المطلق عن القرآن والحديث، كأنهما لا يدخلان في تاريخ آداب اللغة العربية، وأحسب أن لنا الحق أن نتساءل عن سبب هذا السكوت، لم يذكر المؤلف شيئاً عن التأريخ الأدبي للقرآن وصلته بالأدب الجاهلي والفرق بينهما، فالقرآن كتاب كريم وشأن عظيم، لا في الدين الإسلامي فقط؛ بل في أمر آداب اللغة العربية وسياستها وكل وجهات حياتها)! ومضى الناقد يفترض بعض التعليلات التي أدت إلى هذا الإهمال، وبقي تعليل لم يتعرض له الدكتور هيكل، وهو أن المؤلف خاف أن يأتي برأي يناهض بعض الآراء الإسلامية، فيقع في جدل كبير بينه وبين الذين يعارضونه، في الحديث عن القرآن وأحاديث رسولنا صلى الله عليه وسلم، في كتاب يسجل الحركة الأدبية في عصر النبوة.. ولا سبيل إلى أي عذر يبينه المؤلف.

وقد جاء من مؤرخي الأدب النبوي كالرافعي والسباعي بيومي ومحمود مصطفى، ممن وضعوا الأمر في نصابه، فكتبوا عن القرآن والحديث ما شفي غلة الباحثين، ثم أصدر الدكتور هيكل كتابه (ثورة الأدب) وفيه فصول نقدية ممتازة حقاً، حيث أفاض في الحديث عن اللغة والأدب، والنثر والشعر، والقصص وأسباب الفتور في معالجة هذا الفن، وعن التأليف المسرحي وعلاقة الأدب بالحضارة، وهي فصول لم تفقد بريقها الأدبي منذ كتبها المؤلف في أوائل الثلاثينيات، بل ظل صداها يتردد بين الدارسين، ما بين مؤيد ومعارض.. وكان شديد الوطأة على الشعراء المعاصرين في هذا العهد، فيراهم قد تكونوا أدبياً في جيل سابق، فمن غير المتاح أن يخالفوا ما اعتادوا عليه، ولذلك لا أمل فيهم لدى الدكتور، إنما الآمال تنعقد لدى الشعراء المحدثين من أدباء الشباب لأنهم يفهمون الكمال الشعري فهماً مختلفاً عما يفهمه السابقون، فيفتحون باباً جديداً بروح غير الروح التي حصرت السابقين في التقليد، وهذا الروح ينبغي أن يبتعد عن شعر المناسبات، إذ يكون من هم الشاعر المجدد أن يبلغ غاية الكمال في تصوير شجون النفس وآمالها وآلامها، فيرى القراء أن الحياة الشعرية تتسع لغير معاني المدح والتهنئة والرثاء، وأنها لا تبلغ رعتها إلا إذا اتجهت إلى نواحي الكمال في الإنسان والطبيعة والحياة، أقول إن ما عناه الدكتور هيكل قد تحقق لدى كثير من المجددين.

والآن نتساءل: كيف انتقل محمد حسين هيكل من الناقد إلى المؤرخ؟ لقد أجاب الدكتور هيكل بإفاضة عن هذا السؤال في مناسبة استدعته، وكانت بعض فصول معركة نقدية بين كبار الأدباء على صفحات - الرسالة - ومناسبة هذه المعركة، كانت كما يلي: لقد كتب الأستاذ أحمد أمين في افتتاحية الرسالة بالعدد (152) مقالاً بارعاً بعنوان: (النقد أيضاً) قال فيه: (إنني أوازن بين النقد من عشرين عاماً والنقد الآن فأجده ليس خاضعاً لسنة النشوء والارتقاء، بل لسنة التدهور والانحطاط حتى وصل إلى حالة من العجز يرثى لها.. فقد كان الكتاب يظهر فتهب الصحف والمجلات لعرضه ونقده، فاللغوي ينقده نقداً لغوياً، والمؤرخ ينقده نقداً تاريخياً، والأديب ينقده نقداً أدبياً، وتثور معركة حامية بين أنصار الكتاب وأعداء الكتاب، وتظهر في التأييد والتنفيذ مقالات ضافية، وبحوث عميقة شائقة.. ولست أنسى ما كان يقوم به الأستاذ إبراهيم اليازجي من نقد (لمجاني الأدب) و(أقرب الموارد) ونحوهما من الكتب، كما لست أنسى ما نقد به كتاب (التمدن الإسلامي) والأخذ والرد الذين قاما حوله، وكان شوقي أو حافظ يقول القصيدة، فيقوم ناقد معترض يبين معانيها، و مادح مقرظ يبين محاسنها).. ثم ضرب الأستاذ أمثلة مما كان في وضوح وإسهاب، إلى أن قال: (تعال معي فانظر معي الآن إلى ما وصلنا إليه! لقد كثرت الكتب التي يخرجها المؤلفون، وأصبح الإنتاج الأدبي أضعاف ما كان في كل ناحية من نواحي الأدب، من قصص وقصائد وموضوعات اجتماعية، وكتب تاريخية، وكثر الكلام في الأدب، وخصصت أكثر الصحف صفحات للمقالات الأدبية، وكان معقولاً أن يساير النقد هذه الحركة فيرقى معها، ويتسع باتساعها، وتتعدد نواحيه بتعددها، ولكن كان من الغريب أن تحدث هذه الظاهرة، وهي رقي الأدب وانحطاط النقد).

وأخذ الأستاذ يعلل هذه الظاهرة في فصل أدبي مشع بالتحليل والتفسير، وكان قول الأستاذ أحمد أمين مدعاة لردود كثيرة على صفحات الرسالة، من أبرز كاتبيها الأساتذة الزيات وطه حسين ومحمد حسين هيكل: ويهمني الآن أن أعرض بعض ما قال الدكتور محمد حسين هيكل، ليجيب على السؤال المتقدم: كيف انتقل الدكتور هيكل من النقد إلى التاريخ؟.. قال الدكتور هيكل من مقال ضاف بعنوان (في النقد) نشر بالعدد (155): (لم يكن انصرافي عن النقد إيثاراً للسلامة، أو مدارة للجمهور بعد أن كنت أريد أن أجذبه إلى تياري، كلا! وإنما كان انصرافي عن النقد وعن ألوان غيره من الكتابة، أنني أيقنت أن فيما أنا بسبيله اليوم من مباحث في سيرة النبي العربي وفي عصره، هو أجدى على القراء وعلى الفرض الذي أرجو للجماعة الإنسانية أن تبلغه مما كنت في سبيله من قبل... ولست أريد أن أصف كيف حدث هذا التطور في نفسي، فذلك أمر يطول بيانه، وإنما ذكرت ما ذكرت لأبين السبب الذي انصرفت من أجله عن النقد وما يتصل به، وما أحسب منصفاً إلا يرى أن ما يستنفده البحث عن غيره من الأمور، ولو أنه كان منقطعاً لهذا البحث، ما بالك إذا شغل بالصحافة وبغير الصحافة من شؤون لا تدع له فرصة التنقل من قراءة إلى قراءة، وتدبر كل ما يقال تدبراً يسمح له بتقديره ونقده نقداً عادلاً، وتقديراً نزيهاً).. ثم قال الدكتور هيكل:

(ثم إن هذا الانتقال كان طبيعياً بالنسبة لشأني وشأن الكثيرين ممن عنوا بالنقد وتوفروا عليه منذ عشرين سنة أو خمس وعشرين سنة مضت، فهو طبيعي إلى حد لا يجوز معه توجيه اللوم إلينا.. فأكثر الكتاب يبدؤون حياتهم في الكتابة بالنقد ليكونوا لأنفسهم ملكة التقدير، ولعلهم لا يفعلون ذلك متعمدين، لكن ذلك هو الواقع في أمرهم.. فالنقد الذي يبدأ به الناشئون من الكتاب والأدباء حياتهم هو التمثيل للغذاء الذي يتناولونه، وهم يعرضون هذا النقد على الجمهور، ليسمعوا حكم الجمهور على نقدهم، وليطمئنوا إلى أنهم أحسنوا التمثيل، والجمهور يطرب إلى ما يراه من آثارهم، طربه لترعرع الناشئ وفتوة شبابه، فإذا انقضت هذه الفترة من الحياة، مال الكاتب أو الأديب مع سجيته، واختيار الطريق الإيجابي الذي يسلكه في إنتاجه).

- جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة