Culture Magazine Thursday  10/06/2010 G Issue 314
فضاءات
الخميس 27 ,جمادى الآخر 1431   العدد  314
 
حزن الغذامي: الكتابة وفعل المواجهة
نورة القحطاني

«حزن الغذامي: ماذا يخفي وراءه؟» سأنطلق من عنوان مقالة الزميل الأستاذ خالد الرفاعي عن حزن الغذامي، وتأويلاته له، وسأبدأ من حيث انتهى «الغذامي حزين، هذا ما تقوله الصورة، وهذا ما يؤكده الصوت والصدى، وهو حزن المثقف حين يعيش في فضاء لا يفهمه، ولا يؤمن بوظيفته، ولا يقدّر منجزه...» ولكن هل إقصاء الغذامي، أو عدم فهم أفكاره، أو إقصاء منجزه من مخالفيه شيء جديد عليه؟ كلنا يعرف حجم المعارك الضارية التي تعرض لها الغذامي منذ طرحه لمشروعه الحداثي في الثمانينات الميلادية، وقد قرأنا ما سجله لنا في حكايته مع الحداثة، عن موقف خصومه منه، وما قاموا به من تعبئة جماهيرية ضده، وكان يمكن لأيّ شخص في مكانه أن نشهد منه أمرًا آخر كتراجعه مثلا عن المضي في مشروعه الفكري، أو حتى تنازله عن بعض قناعاته حتى يسلم، فما واجهه الغذامي لم يكن أمرًا عاديًا بل كان «أزمة أخلاقية» في زمن وجد المثقف نفسه فيه عرضة للنكران والإهانة والإقصاء، بل و»النبذ» حدًا تتألم الذات له، ووجعًا حمله منهك، وتحمله مستحيل.

ومع ذلك كله كان الغذامي نموذجًا للمثقف الشجاع المؤمن برسالته ودوره في خطاب مجتمعه الثقافي، فتجاوز خصومه وشقّ طريق المجد حتى اعتلى قمته، لم يشغل نفسه بنعيق الرجعية ونداء الانهزاميين، قاد جيلا ثقافيا حرص على أن يغرس فيهم الشجاعة حتى يحملوا راية التغير والتطور، تعلمنا منه كيف نقتل مخاوفنا فقط عندما نؤمن بهدفنا الذي نسعى إليه، كل رؤية طرحها كان جيلنا وما زال لا يأخذها على ظاهرها، إنما يبحث دومًا ماذا تخفي وراءها؟ فأعمل فينا الفكر التأملي الذي يخضع كل فكرة للبحث والاستقصاء حتى نصل للمعنى الخفي، ولذا فأنا لم أقرأ في رثاء الغذامي للبنكي حزنًا يخفي وراءه شجونًا، بل قرأت خطابًا جديدًا للحياة، وفلسفة أخرى للموت، فعندما يعنون المقال ب»هذه الحضرة لا تغيب» لا يتبادر إلينا أبدًا معنى الحزن بل هي الشجاعة التي لا يتقنها إلا الغذامي، فالحضور يعني الحياة والاستمرارية، ونفي الغياب تأكيد لهذا الحضور، وحينما نتأمل هذه العبارة نكتشف قدرة الغذامي على تجاوز الحزن بمواجهته، والكتابة عنه فعل مواجهة يعبر عن قوة صاحبه، وكم بيننا من عجز عن مواجهة أحزانه! وارتد إلى نفسه فأغلق عليه وعاش في الماضي من دون أمل، بل من منّا من واجه فعل الموت كما واجهه الغذامي، منذ شهور مضت فقدت صديقة لي بلا مقدمات، صحوت يومًا ولم أجدها، كانت قد رحلت فجأة دون وداع، وعجزتُ عن مواجهة حقيقة فقدها، تملكني حزن لم أفق منه إلا بعد أن قرأت مقالة الغذامي، كنت أقرأ سطوره ليبني داخلي تصورًا آخر للموت عندما يستدعي مقولة حمزة شحاتة:» لا يعطي تفسيرًا تامًا للحياة إلا الموت»، فيجذبنا بذلك السرد الجميل لحادثة منى وموت شحاتة ودرويش، ثم البنكي، لم يكن يستدعي تلك الحكايات ليثير الأحزان والشجون -كما فهمنا- بل ليثير أسئلة تأملية كعادته معنا عند طرح رؤية مختلفة، لنصل معه إلى المعنى من خلال السؤال: «ما الموت؟» يهزك هذا السؤال فعلا، بل يخلق داخلنا مخاوف عديدة اعتدنا أن نسمع أجوبة عنها من دون محاولة شجاعة منّا لطرح السؤال وتأمله والبحث عن معناه، وحده الغذامي من هزم حزنه بمواجهة السؤال للوصول إلى حقيقة صرفنا عنها خطاب التطرف الذي غرس في نفوسنا خوفًا مرضيًا من الموت من خلال رسائل الإحباط والقنوط، حتى ظننا أنّ القبور مكان للعذاب، وأنّ الموت مصير للشقاء، لكنّ رؤية الغذامي تأتي متفائلة إيجابية حتى مع الموت فيقول:» أو ليس هو رحلة من مكان إلى مكان.. وهو انتقال من صحبة إلى صحبة؟... وهناك في السماء الرفيق الأعلى، ولقد اختار هذا الأعلى أن يأخذ بعض من جاؤوا إليه حاجين وأراد أن يخصهم بضيافة منه خاصة، وغير من مسار رحلتهم فأخذهم إلى صفه وإلى دار ضيافته» هذا الخطاب الرقيق عن الموت وكيف أحاله الغذامي إلى رحلة جميلة يقضي فيها الموتى ضيافة مميزة عند أكرم الأكرمين، هذه النظرة المتفائلة أوقعتني في دهشة جعلتني أقارن بين خطابين، خطاب متشدد خلق نظرة سوداوية على حياتنا وأحال كل أمل إلى عذاب منتظر، خطاب تنفير لم يزد الكثير إلا نفورًا منهم، بينما خطاب الغذامي المفكر والمثقف جاء متسامحاً إلى حد تأسيس رؤية مغايرة للموت تبعث الذهن على التأمل بعيدًا عن ذلك الصراخ المحبط، فيدفعنا للتأمل، ولكن ماذا نتأمل؟ كل سطر في مقاله كان إغراء كبيرًا للتعلق بالأمل والتأمل، لنعيد النظر في رؤيتنا للأشياء لخلق فرص تأويل جديدة حين يقول:»توقف كل شيء لا لتنتهي الأشياء ولكن لتتغير معاني الأشياء، وتقلب الصفحة مع معان تعاطيناها إلى معانٍ أخرى لم نتعاطها وإن كانت موجودة، غاب شيء وحضر شيء آخر» نحن أمام غياب لشيء يفضي بنا لحضور شيء جديد، أي إلى نظرية التجدد فلا شيء ينتهي بل يتحول أو ينتقل من مكان إلى آخر -فكرة الخلود- وهل نعتبر هذا استبطان تدريجي لتمظهر هويّاتي جديد للإجابة عن سؤال: ما الموت؟ لنصل إلى فلسفة الغذامي في الموت في عبارته: «الموت هو المفتاح الأعمق لفهم الحياة وتفسيرها» وكأنه يريد أن يبني علاقات جديدة مع الحياة على أساس فهم عميق لماهية الموت، ليحقق توازنًا روحيًا وعقليًا بين حاضر الإنسان ومستقبله، من خلال تعزيز فكرة الاستمرارية والانتقال من مكان إلى آخر، ولنا أن نتأمل نظرة هذا المفكر أليست مختلفة في طرحها للموت؟ اعتدنا على عبارات الفقد والحزن والألم والتباكي بذكر مناقب الميت ووصف مشاعر الفقد الأليم، لكنّ من قرأ مقال الغذامي بهذه الطريقة التقليدية فهو يدور في خطاب المراثي القديمة، لأنّ خطاب الغذامي يؤسس لطريقة حديثة في الرثاء -وفق ما أرى- لأنّ كل غياب كان يذكره كان يؤكد أمامه فعل حضور، فعندما يغيب الإنسان عن الحياة فهو ضيف محتفى به في ضيافة كريم اختاره وخصه من بيننا، وأمام غياب الصديق يحضر فعله «بمعناه الرفيع وببسمته الدائمة وبإيمانه الفذ، ومنه تعلمنا وتعمقنا وتخلصنا من الشتات النفسي والمعرفي» وكأنّ غيابه كان سببًا لحضور الوعي والتأمل والخلاص من الشتات، ليختم حديثه عنه بأنّ موته سبب لأن يظل رفاقه مبتهجين، فهو كما يراه «مكسب أبدي ولا يضيع ولا يغيب ولا ينتهي» إنها معاني الحضور التي يؤكدها النفي للغياب والتلاشي، فهو «الحب الذي لا ينتهي» بهذه الخاتمة نشعر بقوة الغذامي كما عهدناه، وليس بحزنٍ سلبي يخفيه خلف عبارات التأبين، من يعود لقراءة المقال سيجد رائحة الأمل تفوح من بين السطور، لتعبق بها الأرواح المثقلة بمشاعر الفقد، ستكون كلمات الصدق التي اعتاد الغذامي على كتابتها علاجًا لأوجاع الذات المهزومة، وستدفعنا شجاعة الغذامي في مواجهة الحزن وقهره إلى التغلب على جراحنا، وتغير نظرتنا للموت بعد أن نقرأ قوله: «تغيرت الأشياء في عيوني وصرت أنظر في الناس الأحياء وهم يحملون موتاهم وصرت أراهم باسمين وشبه فرحين» كيف يجتمع منظر الحزن والفرح؟ كيف نبتسم في حضرة الموت؟ ذلك لأنّ الموت أصبح في نظره «رحلة من الممكن أن تكون رحلة وعد وموعد أعز وأعلى من مواعيدنا المعهودة» تلك نظرة مؤمن متفائل يحسن الظنّ بربّه، وأجزم لكم أنّي بعد قراءة مقال الغذامي شعرت بنظرة متغيرة للحياة وتصورت أحبتي ممن فقدتهم في مكان أعز من مكانهم بيننا، تلك العبارات السلسة، والسرد الصادق بلغة مفكرٍ واع نجحت في خلق فلسفة جديدة للموت، تنبئ عن شجاعة تقف خلف عبارات الفقد والحزن، هكذا فهمت: ماذا يخفي حزن الغذامي وراءه؟

جدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة