Culture Magazine Thursday  10/06/2010 G Issue 314
فضاءات
الخميس 27 ,جمادى الآخر 1431   العدد  314
 
أمام مرآة «محمد العلي»
شعرية الحزن وتراجيديته
علي الدميني

يمتلك الشاعر الحقيقي دائماً خصيصة متفردة، تجلّل شعره بمخيال متعة جمالية خاصة، مهما بدا محتواه حزيناً أو مؤلماً في كثير من الأحيان، لأن للشعر طاقة حية لا تدمرها الحالة ولا يفنيها الزمن. فالشعر إحساس بالدائم وقد تجمّد كما يقول الشاعر «أيدسن»، وكأنه يذكرنا هنا بالحجر الذي قال عنه شاعرنا العربي القديم «تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ».

ولأن الشعر هو ما يتبقى خارج أسر الزمنية وخارج إطار المرجعية المحددة بزمن مات، فإن قصائد «العلي» تدعونا لقراءتها مرة بعد مرة، حيث ينمو معناها - بحسب أيدسن أيضاً - طيلة الوقت.

لذلك سيغدو شاعرنا، وفي إطار شعرية الحزن، واحداً من الشعراء المتميزين الذين ألفوا معايشة «الحزن» في حدائق الشعر، حتى أصبح واحداً من أبرز كائناته وعلاماته الشعرية .

ومقارنة بحضوره الطاغي في قصائد الهجرة الثالثة، سيتبدى لنا «الحزن بأسمائه وصفاته المختلفة» في مرحلة الهجرة الثانية، ككائن صغير، ما زال يربي أظافره، ويدرّب مقدرته على الغوص بعيداً في قلب «الشاعر»، ويتسرب عبر الكلمات التي افتتن «العلي» بالاشتغال عليها وتحويلها إلى رموز وأساطير صغيرة مشعّة بدلالات كثيفة ومتعددة، تعبر عن جوهر التجربة ورؤيتها لتشكيل النص مثل «البحر والنهر والماء والشجر، والشعر..الخ».

وقد اخترت نصين متلاحقين من ديوانه هما «لفح الزمن» و»الذي نسي قناعه» يعبران عن تجربة إبداع «حالة النموذج الفني»، الذي يكسر نبرة «الغنائية» العالية، وتمركز الذات في بؤرة تخليق النص الإبداعي، ونلحظ ذلك في عنوان النص «لفح الزمن» الذي يحمل سمة الإيحاء والتعميم بعيداً عن قيد التحديد والمباشرة، كما نلمسها في «طعنة الشعر» الأولى المتمثلة في مطلعه:

«الكآبة راهبةٌ

لا ترى وجهها في المرايا»

ثم نتابعه في التجادل التعاضدي لهذه «الجملة الشعرية» مع العنوان لبناء درامية النص والوصول به إلى ذروته التعبيرية في هذا التصوير المدهش:

«الكآبة تعرف منجلها

حين يجتاز سور الحديقة

ثم يندسّ ما بين أوراقها

وهي ترضع ضوء الصباح

ويترك فيها

خريفاً صغيراً

للفح الزمن». (الديوان - ص 65)

وفي نصه الثاني «الذي نسي قناعه»، يشكّل الشاعر «حالة أنموذج فني» آخر، يتوارى فيه ما ألفناه من توظيفه ل»المجاز» اللغوي في تشكيل بنية الصورة الشعرية الجزئية أو الكلية للقصيدة، بذهابه إلى استخدام «مجاز» مغاير، يحيل فيه «الحزن» من شعور داخلي إلى كيان مادي متحرك في الواقع وفي النص، عبر توظيف آليات السرد «الحواري».

وهنا يتسلّل «الحزن» إلى داخل بيت الكينونة وبيت اللغة أيضاً، بهدوء، يشبه تسلّل «رجل أمن» شديد التهذيب واللباقة، حيث يأخذ موقعه كمحرك أساسي لتشكيل التجربة الشعرية، فيما تتوارى الذات ويتضاءل دورها أمام ذلك الضيف، الذي يبادر بافتتاح النص بهذه الجملة التقريرية الباردة:

«مساؤك معتكرٌ سيدي

لا عصافير فيه..»

ويمضي في مشهد سردي حواري ، يصوغ من خلاله حبكة النص:

«سيدي إنني خجلٌ منك

غير أني أتيتك في وضح العري

حزناً شفيفاً عميقاً..

أتسمعني ؟»

ويجيبه الشاعر بانكسار ساخر:

«كلّك نظر»!

وسيتعرى الحزن من كل أقنعته، حين يعلن في ذروة النص الدرامية:

«إنني سوف أبقى بقلبك

يا سيدي!»( الديوان - ص 67)

ويمكننا أن نتخيل عدداً لا نهائياً من مرجعيات ذلك الحزن، سواء على المستوى الذاتي أو الموضوعي، أو على مستوى تجادلهما في وجدان الشاعر، ولكننا حين نلتفت إلى تاريخ كتابة هذا النص في عام 1990م، فإن الذاكرة ستعيننا على تحديد إحدى مرجعياته حين تسرد علينا ما شهده ذلك العام والذي يليه من أحداث درامية ودامية على كافة المستويات التي تمثلت في: (احتلال العراق للكويت، وانهيار مخيال الوحدة أو التضامن العربي، وزحف القوات الأجنبية إلى المنطقة لتأمين منابع النفط، وبروز هيمنة القطب الواحد الأمريكي، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي). وكل ذلك وسواه سيصبح مرجعاً محدداً لتهيئة المناخ الخصب لذلك الضيف للتجرؤ على السكن باطمئنان، في قلب الشاعر!

لذلك فإن «الحزن» الشرس الذي احتل قلب شاعرنا في مرحلة «الهجرة الثالثة» لم يهبط من السماء أو من جبال لبنان، وإنما ولد قبل ذلك هنا في الدمام / الوطن، فاضطر لاصطحابه في رحلته إلى «برمانا»، ظناً طفولياً منه بالقدرة على تدجين ذلك الرفيق العجيب على سفوح جبال لبنان!

وفي مناخ حرية التعبير والتفكير والتأمل والجمال استعاد الشاعر حميمية علاقته الوثيقة بالشعر، وتحرر من قيود كثيرة وأبدع في قصائد متميزة وخاصة في قصائد «الأنثى/ الجسد»، ولكن صاحبه «الحزن» سيستمتع هو الآخر بذلك المناخ، فيلبس «عريه» كاملاً، ويغادر تستره الخجول خلف بعض مكونات القصيدة، منتقلاً إلى داخل الذات، لينتزع منها حصته من «وليمة» قصائد الشاعر وحياته اليومية! فيفرد جناحيه على صفحات القصائد، وأبوابها، فنراه وقد سكّ اسمه على أكثر من اثني عشر «عنواناً» بشكل صريح مثل «الحزن، الوجع، الكابوس، زبد ساطع، التعب، الحزن الآخر»، فيما تخفّى خلف بعضها مثل «لا نافذة، ولا جدوى، وليسات النهر، ولقد ضعت، والفنار وغيرها». كما أنشب أنيابه الفارهة - بحسب تعبير الشاعر- في قصائد مشغولة بأناقة شعرية عالية، مثل «كاشيره، ومسودة، ووقوفا بها»، حين لبس ثياب الحداد أمام عذوبة الأنثى وفتنة الجسد اللاهبة.

قصائد شاعرنا، تشكل تجربة متميزة ومتمايزة عن غيرها، ويستحق كل نص منها قراءة منفردة، لأن مقاربتها تحت عناوين أو محاور عامة مدعاة للابتسار المخل والتسرع القاصر عن الوفاء بما تستحقه من تأمل شامل ومعمق، ولكن مقتضيات هذه القراءة تقسرنا على المضي في هذا المسار الضيق. لهذا سأكتفي بالإلماح إلى بعض تجليات ما أسميته ب»شعرية الحزن وتراجيديته» في بعض تجارب مرحلة الهجرة الثالثة، والتي تفتح أبوابها في عام 1988م، بصرخة قاسية احتلت عنوان قصيدة «لقد ضعت»:

«ستتعب حتى (اللجوء) إلى شجر ٍ

لا ظلال لهُ

حين تبحث عنك

لقد ضعت

في غابةٍ لانهار لها».

كان النص تجربة عامة أو رمزية في قصيدة «الذي نسي قناعه»، لكن تاريخ نشرها أعاننا على تلمّس مفاتيحها وتعيين مرجعياتها، أما في هذا النص فإن العنوان شديد المباشرة، وتاريخ كتابته المرتبط ببداية وضع قدمي الشاعر في زمن الهجرة الثالثة، سيقوداننا إلى معاناة «اللجوء» إلى شجر لا ظلال له، لتفتح الأفق أمامنا، ليس على الضياع والتيه في «سفر الخروج» كحالة طارئة، وإنما على قراءة تمظهراته عبر مسيرة حياة شاعرنا الطويلة.

وسيأخذنا الحضور الكثيف لكلمة «ضعت» - عدداً وتعليلاً - على سطح تجربة النص، للتعرف على عمق التجربة، حيث لن ينحصر دور «سين» الاستقبال في كلمة «ستتعب» على حسم مآلاتها الآنية والمستقبلية في بلوغ حالة «الضياع» وحسب، ولكنها ستصبح دالاً على التاريخ وترحال الشاعر في المكان والفكر والمواقف، وكأنما تعود بنا إلى لحظة ميلاده، الذي سوف يتسم بالتعب والألم والحزن في البحث عن الشجر الظليل (في المجتمع)، وعن الماء القراح (في القيم الإنسانية)، وعن المعنى الأسمى للحياة (في الحرية والتقدم)، ولكنه لن يجد إلا شجراً بلا ظلال وماء بلا ماء، وتعباً ضارباً في الجذور، ولن يتبقى له من كل ذلك الهشيم إلا ما أبدعه من قصائد «متألقة» وخالدة، رغم ما تنطوي عليه من أنين وأحزان!

من أين نبعت تراجيدية تلك الحالة؟

من خللٍ تكوّن في الذات، أم من الواقع أم من التاريخ؟

النص الشعري لا يبيح لنا بأسراره على وجه الدقة والتفصيل، ولكنه يضع أيدينا على علامات تشير إلى مؤداه:

«ضعت حين استكنت إلى صوت جدك

وهو يحدّث...

عن قرى الجن في اللامكان».

فالجد «التراثي» (الثقافة) الذي تعشش هوامش الخرافة على متونه، كان أحد صناع هذه التراجيديا، كما أن الظروف الموضوعية والذاتية حين خضعت لإكراهات أو غوايات ذلك الإرث أو الظروف المعاشة، قد أسهمت هي أيضاً في تكوين هذا المآل:

«وحين تطرّبك الانحراف عن السير

فوق الطريق المعبّد

حيث يموت الرهان»

وضعتَ لأنك وحدك

كنت تفتش في الأرض (عن لغة واحدة)

وضعت لأنك أنت» (الديوان - ص 114)

تلك اللفتات عناصر مؤسسة لمآلات التعب والضياع، ولكنها ستتمحور في العمق حول جوهر هذه «الذات» المختلفة (كأنموذج للكثيرين)، والسادرة في البحث «اليوتيوبي» عن «لغة واحدة» تصير بوصلة لحركة الإنسان في الواقع صوب تحقيق أحلامه المنشودة، حتى وإن بدت عصية أو مستحيلة على التحقق. (وسنتوقف بجوار بعض دلالات تلك «اللغة الواحدة» في آخر المقالة).

لذلك يمكننا توصيف بعض تبديات «الحزن» في نصوص شاعرنا خلال هجرته الثالثة، بحالة التداخل بين المفكر الحالم والثاوي في خلفية الصورة وبين انفعالية الشاعر على سطحها، والتي تجمع بين جدليات الحزن الذاتي بواقعه الموضوعي وبين تجلياتها في تجربة إبداعية كلية معبرة عن «الحزن الوجودي» للإنسان.

والنماذج الدالة على ذلك كثيرة، ونورد منها بعض ما يفصح عن دلالته الصارخة في عناوين القصائد ومرجعيات متونها من مثل قصيدة «التعب»:

«أرح من جناجيك

إنك تركض خلف طيورٍ سرابيةٍ غادرة»

هُوى الناس ذات قرار

ولكن هوتك العربية، ذات الأصالة والمجد

(والخيل والليل) والهرولة

لا قرار لها» (الديوان - ص 116)

كلمة «الهرولة» تختزل في معانيها بعض أسرار تعب الشاعر وحزنه، لأنها دخلت قاموس اللغات العالمية، بعد أن كانت مفردتا «الانتفاضة والحجر» قد دشنتا موقعهما الأنيق في تلك القواميس من قبل.

وستكمل قصيدة «تحديق» رسم الصورة:

«قل لي

هل ضحكت أرضنا ذات يومٍ؟

متى؟

يوم داحس

أم يوم صفين؟

يوم غرناطة

أو فلسطين؟

قل لي أنضحك يوماً؟» (تحديق - ص 150)

لذلك سيطلّ علينا «السأم الوجودي» في صورتين شعريتين لم يرسمهما، بهذا الألق، سوى شاعرنا الذي رأى في الصورة الأولى أن حلول المساء هو الليل الذي يرخي سدوله الأبدية على الذات والأمة معاً، في قصيدته «ما لهُ»:

«ما لهذا المساء

يتكاثر

حتى كأن النهار تناساه

أو ملّ أوهامه فانتحر!» (الديوان - ص 134)

وفي صورته الثانية يتشكل «السأم الوجودي» من تضاد تفتح المراهـِقة الضاحكة مع نقيضها الضجر، في قصيدة «أطلال الضجر» (وليس أطلال الفجر، كما ورد في الديوان)، حيث يقول:

«المراهِقة الراكضة

في عروق العناقيد

تضحك شيئاً فشيئاً وتشتدّ

حتى تصير العناقيد كأساً

فيأتي الضجر

ليقول لها:

أنت دالية أم طلل؟» (أطلال الضجر - ص 120)

«اللغة الواحدة» وتراجيدية الوجود الإنساني:

اللغة الواحدة عبّر عنها «العلي» كمفكر في كتابات أخرى ب»الأيديولوجية الواحدة» وقال عنها: (على المثقف أن يطير بين هذه العناصر الإيجابية ليصوغ منها موقفاً لا فئوياً، موقفاً متجهاً إلى واحة المستقبل، موقفاً حالماً بأن تصبح جميع الأيديولوجيات، «أيديولوجية واحدة»..هي أيديولوجيا المستقبل) (شاعراً ومفكراً - ص 318).

وأيديولوجيا المستقبل عند «العلي» هي الأفكار والقناعات التي تنهض على أسس قيم إنسانية جوهرية مشتركة، تؤمن بالعدالة والحرية وحق الاختلاف والتعايش، دون أن تتحول إلى أداة لقهر الآخر المحايد لها أو استعباده، وسلبه حقه في الوجود وفي التعبير السلمي عن رأيه. وهي التي تضع «الدين» في موقعه الصحيح بوصفه سلوكاً لا قولاً، وتستند على حرية الضمير ورقابة المجتمع، من خلال دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية، بحيث تصبح «الأيديولوجيا» منظومة قناعات إنسانية مفتوحة على فضائها الحضاري والنقدي، وليس على قيدها الشمولي.

ذلك هو مفهومه لأيديولوجيا المستقبل، حتى وإن رأى فيها الآخرون رؤية طوباوية، ومنهم الناقد حسين بافقيه في قراءته الضافية لانشغالات وفكر «العلي»، حين عبّر عن نقده لها بما يشبه السخرية، فأطلق عليها مسمى «الأيديولوجيا المرجأة»! (محمد العلي - دراسات وشهادات - ص 67).

وفي ضوء كل ذلك يمكننا أن نتأمل «شعرية الحزن» العميقة الغور في تجربة «العلي»، وما تنبني عليه من مرجعيات ودلالات، أو ما تتغياه من أحلام، قد تجلّت بكثافة ساطعة في مركزية حضور جملة «اللغة الواحدة» في قصيدة «لقد ضعت»، حيث أنها تجمع بين صراع نقيضين يتشكلان من: حلم الشاعر/ المفكر بالوصول إلى أيديولوجيا واحدة هي أيديولوجيا المستقبل، ومن صعوبة أو استحالة تحقيقها مرحلياً على الأقل.

وهذا ما يفتح الباب أمامنا، لكي لا نبصر في هذا النص وأشباهه من نصوص شاعرنا، تجربة ذاتية وحسب، وإنما نرى إليها في بعدها المعرفي والجمالي كتجربة شعرية تعبر عن إسهامها في تأمل «تراجيدية الوجود الإنساني» ذاته، التي عاشتها البشرية وما زالت حتى اليوم، والتي عبرت عنها بعض الأساطير والملاحم والشعر والرواية والمسرحية، مثل «دالية المعري»، وأسطورة سيزيف، ومسرحية «جودو» وقصيدة الأرض اليباب، وسواها!.

الدمام
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة