Culture Magazine Thursday  18/03/2010 G Issue 302
فضاءات
الخميس 2 ,ربيع الثاني 1431   العدد  302
 
توظيف مفهوم الآخروية العربية
في رواية (نباح) لعبده خال 2-4
لمياء باعشن

إنَّ هذا التركيب الشكلي لرواية (نباح) وانتماءها إلى أدب الضالة المنشودة يفرض عليها التعامل مع الآخر؛ ذلك أن خروج البطل من مجتمعه سعياً وراء المبتغى يضعه مباشرة في مواجهة آخرين، ويُدخل إلى النص مفهوم الاغتراب الذي يرتكز عليه مشروع الاعتراض على الآخروية العربية، وهو اغتراب لا يقتصر على البطل في أرض الآخرين، بل يعاني منه الآخرون على أرضه. وربما يكون من المفيد لتوضيح هذه الفكرة الاستعانة بموقف سردي من رواية أخرى ثم مقارنته بنقاط انطلاق رواية (نباح):

في روايتها (سيدي وحدانة) اختارت الروائية رجاء عالم لسرد أحداثها حقبة زمنية تفرّد فيها الفضاء المكاني المحلي بنوع من الخصوصية جعلت أفئدة الناس تهوي إليه، وحتَّمت عليه تكويناً ديموغرافياً انصهر فيه أخلاط من الشعوب تغربوا عن ديارهم، وجاؤا إليه «راغبين في مجاورة الحرم المكي 18- 193». تجلس بطلتها جَمّو في الروشن وترصد من خلف قلاليبه «أرضيات البشر وفسيفسائها المتبدلة: سود وصفر وحمر وسمر وبيض.. 213».

يبدو من هذا الوصف أن أجناساً بشرية مختلفة قد تضافرت في تكوين البنية المجتمعية لمنطقة الحجاز حتى النصف الأول من القرن العشرين، وأن هؤلاء قد امتزجوا بقدر عال من المرونة والتصالح مع الآخر في مكان يفي بجميع مشارطات العيش المشترك، فتختلط فيه التقاليد والحضارات بتوافق عجيب دون نبذ أو إقصاء أو تحقير. في زمن معين كان الإحساس الكامن في دواخل أولئك المجاورين أنهم كأبناء أمة واحدة يمكنهم أن يغرسوا جذورهم في أرض ترحب بهم كأم تحتضن انتماء أبنائها الأصيل لها. في رواية (نباح) للروائي عبده خال يطالعنا مشهد مماثل يرصد حشداً متجمهراً في مطار مدينة جدة، الذي كان «يعج بالمسافرين، والمودعين، والمستقبلين، روائح مختلطة تجوس المكان تتبدل تركيبتها قليلاً أو كثيراً كلما عبرت جالية من الجاليات المتناثرة على امتداد صالات المطار.. أيدي تمسك جوازات سفر من كل لون، وكل لون يحمل جنسية.. 22... وعرق ودم وغربة، أعراق من كل بقاع الأرض، ولغات مستقيمة ومعوجة، وأشكال صفراء وبيضاء وسوداء» 23. هنا أيضا تحيل الرواية إلى عالم تتخالط فيه الأشكال والروائح، لكن النصف الثاني من القرن العشرين كان قد بدل الأوضاع تماماً، فبينما تؤكد (سيدي وحدانة) على اندماج الجزء في الكل الفسيفسائي، فإن (نباح) تمايز بين أشكال الناس وألوانهم في إشارة إلى اختلافهم وانقسامهم إلى «جاليات متناثرة»، وبينما كانت تلك الجموع المجاورة تملك حق اختيار الاستيطان عند رجاء عالم فإن عبده خال يركز على حتمية الرحيل، وهي فكرة يعضدها التواجد في صالة المغادرة، والإمساك بالوثائق الرسمية التي تحدِّد انتماءات الأجناس إلى أراض أخرى بعيدة.

في زمن المجاورة كان الغرض من البقاء هو طمأنينة النفس المؤمنة بقدسية المكان وسكينة الروح بالقرب منه، فالذين بقوا كلهم قد عرفوا «عشقاً للبيت لم يترك لهم من درب ولا سبيل إلا إليه.. 195». لكن الذين جاؤوا المكان بعد ذلك كان كسب العيش مقصدهم؛ لذا فإن بطل (نباح) الذي كان يعتقد أن اليمني موسى الفيل جاء السعودية للحج، ونسي نفسه داخل الأعمال التي امتهنها على مر السنوات الطويلة التي قضاها بين جدة والطائف ومكة، فوجئ بمقولة والده التي كان يرددها أن موسى هذا «رجل كالضبع.. ولم أره يوماً محرماً قط» 83- 206. ولذلك أيضا فإن بطل (نباح) يستقرئ وجوه المغادرين في مطار جدة فيرى أنها وجوه تتهيأ لاستقبال البهجة والخلاص من «تلك الكآبة المزدهرة بين عيونهم، التي تشي بأنهم للتو خرجوا من فرن تسهدت له أجفانهم...». هم سعداء بالرحيل؛ فشيء ما كان «يفور بداخلهم له طعم الفرح، صخب تولد في أعماقهم وإن لم يفصحوا عن ذلك بعد...» 23.

في زمن الجذب المادي «هاجر الكثيرون هرباً من الفاقة وتقافز معظمهم للسعودية..» 13، ليتمرغوا مع السعوديين «بتربة الطفرة الاقتصادية التي اجتاحت البلد..57». كان الكسب المالي هو الدافع للبقاء في الأراضي المقدسة، فإذا تم الحصول عليه حان وقت المغادرة ببشر وحبور. على لسان عيسى شرف يصرح النص بأن «وطن الإنسان هو المكان الذي يمده بالرزق الشريف..» 78، لذلك أقبل الآخر على المكان المعطاء وحاول أن يستوطنه، لكن الرحيل عنه كان حتمياً، فلقد تغيرت الدنيا.. 94.

وجاءت مغادرة الجالية اليمنية في الرواية على شكل «رحيل جماعي»..22، ذلك أنهم بقوا في السعودية لسنوات طويلة كانوا يعاملون أثناءها معاملة المواطنين، لكن بعد وقوع أزمة الخليج تغيرت أوضاعهم، فأعطوا الخيار بين إيجاد كفيل سعودي أو الرحيل. واستنكف اليمني أن يكفله أحد بعد أن عاش سنوات طويلة كمواطن حر، لذلك لم يقتنع موسى الفيل بأن الكفالة كانت «مجرد تنظيم لا يستهدف اليمنيين بتاتاً» 107، وقال بمرارة: أبعد هذا العمر أصبح عبداً لا أتحرك إلا بأمر كفيلي؟ أفي.. آخر عمري أبحث عن كفيل؟ أبعد أن كنت أسير مرفوع الهامة.. أخضع للسعوديين لكي يكفلوني!! 94.

قرر اليمنيون العودة لليمن، باعوا بيوتهم وممتلكاتهم، انجرفوا مع سيلان الخطابات الإعلامية: كوموا أولادهم في سياراتهم وغادروا جدة من غير أن يودعوا جيرانهم 77. رحل موسى الفيل، وعيسى شرف، وعاد عبدالله الذي ولد بالطائف مع أسرته إلى اليمن.. 199، كما عاد جمال أبو ناب الذي ولد في باب شريف 191، والصحفي الذي كان يبيع الفول بالشرفية 133. لكن أقسى خروج التقطه النص هو خروج وفاء حبيبة البطل اليمنية، كان الألم يعتصره وهو يسمع عتابها المرير: غداً سأكون هناك.. غريبة في بلدي، وأنتم هنا تصفقون لرحيلنا.. 114 الآن تتذكرون أننا غرباء وتنسون أننا بنينا هذه البلدة حجرًا حجرًا... 115.. أنتم حجارة لا قلب لكم.. هكذا فجأة نغدو غرباء وعلينا الرحيل 117.

هذا النزوح إذا لم يكن دافعه الكرامة المجروحة ولا الاستنكاف والترفع، لكنه الوعي المفاجئ بالغربة وبانتفاء انتماء العربي لأرض عربية: لقد تغير الزمن.. فما عادت (بلادُ العُربِ أوطاني من الشّامِ لبغدانِ...ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ إلى مِصرَ فتطوان). لم يستسغ موسى الفيل النظام الجديد لأنه نظام لم يفرق بين العربي وغير العربي، نظام نظر إلى كتلة الأجانب وطالبها بإيجاد كفيل، ففضل العربي الرحيل لأنه ليس «هندياً أو تايلندياً؟» 107. عندما يتبع البطل ركْب محبوبته وفاء المغادرة لأرضه يراها تنتقل لأرضها وقد رُفعت خشبة الحدود، وعبرت مع أهلها بوجوههم للبعيد. وفي لحظة تهور يسرع ليلحق بحافلتها، لكنه حين يحاول اختراق تلك الخشبة مقتفياً أثرها يستوقفه العسكري قائلاً: جوازك لو سمحت... 120. هو أيضا لم يستطع تخطي الحدود إلى أرض عربية.. حقاً.. لم تعد بلادُ العُربِ أوطاني..!

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة 7712 ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة lamiabaeshen@gmail.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة