Culture Magazine Thursday  18/03/2010 G Issue 302
ترجمات
الخميس 2 ,ربيع الثاني 1431   العدد  302
 
البقاء لله
أنعي إليكم «الليبرالية الديمقراطية» 2
حمد العيسى

النظام الديكتاتوري مطلب أساسي لتأسيس تنمية اقتصادية متينة

ماذا عن الحجة القائلة بأن «التنمية الاقتصادية، على الأقل في مراحلها المبكرة، من الأفضل أن تتم عن طريق نظام ديكتاتوري»؟ يؤكد «لي كوان يو»، وهو رئيس سابق للوزراء في سنغافورة أن الديمقراطية تؤدي إلى «سلوك غير منضبط»، يعطل التقدم الاقتصادي المادي. ولكن لا يوجد دليل دامغ بأن الأنظمة الاستبدادية تنمو اقتصاديا، في المتوسط، بمعدل أسرع من الديمقراطيات. وفي مقابل كل نظام استبدادي شرق آسيوي (سابق) ناجح اقتصاديا مثل تايوان أو كوريا الجنوبية، هناك أيضا دول مثل الكاميرون و(غيرها) التي تجمع ميزتي «القسوة» و»البلادة» (أو حقا وفعلا هناك حتى كوريا الشمالية أو ميانمار).

لعلاقة بين النظام السياسي ومعدل النمو الاقتصادي

من الصعب جدا تحديد العلاقة والرابط بين نوع النظم السياسية والنمو الاقتصادي. ومع ذلك، هناك بعض الأدلة على أنه، في المتوسط، الديمقراطيات الليبرالية تعمل وتنتج بصورة أفضل. وأظهرت نتائج «دراسة» (سنعود لهذه الدراسة لاحقا) أجراها ثلاثة علماء هم «مورتون هالبرين» و»جوزيف سيغل» و»مايكل واينشتاين» لمجلس العلاقات الخارجية (وهو أهم مركز بحثي وخزان تفكير أمريكي للشؤون السياسية العالمية تأسس في 1921 ومن أهم مطبوعاته مجلة «فورين أفيرز» الشهيرة)، وذلك باستخدام بيانات البنك الدولي بين عامي 1960 و2001، أن متوسط معدل النمو الاقتصادي السنوي كان 2.3 ? للنظم الديمقراطية، و 1.6 ? للنظم الاستبدادية. وهناك دراسات أخرى ولكنها أقل وضوحاً.

النظم الديمقراطية أكثر ابتكاراً

المؤمنون بالديمقراطية بوصفها محركا للتقدم المحرز في كثير من الأحيان يركزون على نقطة مفادها أن مناخ الحرية يعتبر ضرورة قصوى في «الاقتصاد القائم على المعرفة» knowledge-based economy، حيث يعتبر التفكير المستقل والإبداع حيويين. ومن المؤكد أنه ليس من قبيل الصدفة أن كل اقتصاد في أعلى 25 دولة على مؤشر الابتكار العالمي هي نظم ديمقراطية، وباستثناء سنغافورة وهونج كونج (وهما تعتبران دول «شبه ديمقراطية» كما أسلفنا).

استثنائية الصين

الصين التي تأتي في المرتبة رقم 27 في مؤشر الابتكار العالمي غالبا ما يشار إليها باعتبارها «استثناء» لهذه القاعدة. القدرات العقلية الصينية خطت خطوات كبيرة في مجالات عديدة مثل الحوسبة والتكنولوجيا الخضراء، والتحليق في الفضاء. عزم السلطات الصينية مؤخرا على فرض شروطها على ثورة المعلومات تحقق هذا الأسبوع عندما أعلن محرك البحث «غوغل» أنه قد ينسحب من الصين بعد هجوم إنترنتي غامض استهدف مواقع نشطاء حقوق الإنسان الصينيين على الإنترنت.

«غوغل» ترضخ للنظام الصيني وتفرض رقابة على نتائج محركها للبحث

ومنذ دخولها السوق الصينية في عام 2006، وافقت ورضخت «غوغل» على فرض «رقابة» على بعض نتائج البحوث التي يحققها محرك البحث «غوغل» على الإنترنت تحت ضغط وإصرار السلطات الصينية.

المعجبون بنموذج الصين الديكتاتوري قد يستنتجون أن الصين تستطيع حقا التقدم والنمو في السوق المحلية بدون رضا محرك البحث «غوغل» الذي يبدو أنه هزم محليا تقريبا من منافسه الصيني محرك البحث «بايدو» Baidu. ولكن في المدى المتوسط،، فإن «العقلية» القيادية التي تصر على فرض رقابة على مجرد محرك بحث عبر النت سوف -بكل تأكيد- تسبب كبحا وترديا معرفيا عندما تحاول التقدم في سلم الإبداع. ولا يجوز لأي بلد أن يتخيل بأنه عندما يصبح مستبدا مثل الصين، فإنه سيصبح أوتوماتيكيا وتلقائيا بمثل ديناميكية الصين لأن لها خصوصيات واستثناءات يصعب بل يستحيل تحقيقها من الغير.

الاستبداد يخلق درجة من جيدة من «الاستقرار»

ماذا عن مقولة إن الاستبداد يخلق درجة من «الاستقرار» يصبح النمو بدونها مستحيلا؟ في الحقيقة والواقع، فإنه ليس من الواضح أن الدول الاستبدادية هي أكثر استقراراً من الديمقراطيات. بل على العكس تماما. على الرغم من قضاء الساسة الديمقراطيين الليبراليين معظم الوقت في المشاحنة والتذبذب ورفع الصوت والمعارضة والشتائم، وهذا يمكن أن يعزز الاستقرار في المدى المتوسط لأنه يسمح بتقدير وتقييم مصالح الغير وبسماع وجهات نظر أكبر عدد من الناس رأيه قبل اتخاذ القرارات الحاسمة. وعلى مؤشر «هشاشة الدول» الذي تدرسه وتنتجه سنويا جامعة جورج ماسون وهي دراسات تقيم متغيرات متعددة هامة مثل «الفعالية السياسية»، والأمن، فإن «الديمقراطيات الليبرالية» تميل إلى الإنتاج والقيام بعمل أفضل بكثير من الأنظمة الاستبدادية. «يوغوسلافيا تيتو» كانت مستقرة مثل «عراق صدام حسين»، ولكن بمجرد زوال القيود الصارمة التي أمسكت نظمها، كانت النتيجة خروج ضغط مكبوت هائل، ومعه فرصة ذهبية للديماغوجيين العازمين على نشر الفوضى.

أهمية القبول والاستعداد ل»التسوية» و»الحلول الوسطى»

على أقل القليل، فإن ثقافة وبيئة «التسوية» و»الحلول الوسطى» مقرونة بقدر أكبر من المساءلة والقيود على سلطة الدولة، يعني أن الديمقراطيات أقدر على تجنب الأخطاء الكارثية، أو القسوة الإجرامية. الكوابيس الدامية التي تكلف عشرات الملايين من الأرواح كما حدث قبل قفزة الصين الهائلة إلى الأمام أو كما في البرامج التعاونية في الاتحاد السوفياتي (سابقا)، تحققت ونجحت بسبب تركيز السلطة في يد مجموعة صغيرة من الناس الذين لا يواجهون أي رقابة ولا حدود تقيد تصرفاتهم.

بالأرقام... «الاستبداد» يضعف الاقتصاد

ولكن السؤال الجوهري: (هل تستحق «الديمقراطية الليبرالية» حقا القتال من أجلها؟)

يمكن للحكومات «الديمقراطية الليبرالية» أن ترتكب كل أنواع الأخطاء، لكنهم أقل عرضة لارتكاب جرائم قتل جماعية. الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد (الهندي) أمارتيا سين اشتهر بالقول: «لم تواجه أي دولة ذات صحافة حرة وانتخابات نزيهة في أي وقت مضى مطلقا مجاعات كبيرة». كما وجد البحث السالف (لأولئك العلماء الثلاثة من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي) «معدل احتمال إصابة الدول ذات الأنظمة الاستبدادية بالكوارث الاقتصادية يبلغ ضعف معدل قرينتها من الأنظمة الديمقراطية» وتعريف الكارثة الاقتصادية هنا يعني تراجع يعادل 10% أو أكثر في الناتج المحلي الإجمالي في السنة. بدون برلمانات صاخبة أو محاكم قوية تعطل الأمور، قد تكون الأنظمة الاستبدادية بالفعل أسرع نمواً وأكثر جرأة. ولكنها بالتأكيد أكثر عرضة للكوارث الاقتصادية.

الاقتصاد والاستقرار... بين الديمقراطية والاستبداد

ورغم جميع إحباطاتها الممكنة، فإن الحكومة التي يمكن مساءلتها تميل في المدى الطويل لإنتاج سياسات أفضل. وذلك لأن أي مجموعة من البيروقراطيين، مهما كانت مستنيرة أو حسنة النية، لا يمكنها أن تدعي أنها متأكدة ما هو الأفضل والمناسب لأي مجتمع والمجتمعات معقدة بالضرورة. الأنظمة الاستبدادية تميل إلى أن تكون قمعية للغاية في القمة: وبالرغم من كون ذلك يسمح بسهولة إصدار القرارات لمصلحة الشعب، فإن فلسفة الأنظمة المستبدة -مع السرية والبارانويا- يجعل من الصعب بزوغ وجهات نظر بديلة. وقبل كل شيء، الانتخابات تجعل نقل السلطة شرعيا وسلسا. الطغيان قد يبدو مستقرا في ظل رجل واحد قوي، ولكن البلد يمكن أن ينزلق إلى حالة عدم الاستقرار، بل وحتى حالة من الفوضى الدامية، إذا تعرضت عملية انتقال السلطة لمشكلة. الانتخابات الحرة تعني أيضا أن الأخطاء الناتجة عن السياسات والقرارات السيئة، يمكن تصحيحها بسرعة. الأفكار الجديدة يمكن جلبها بسرعة ويمكن طرد السياسيين قبل أن يصبحوا شديدي الغرور.

نقطة نظام وتحد خطير: صناديق الاقتراع قد تؤدي إلى «طغيان الأغلبية»

ولكن إذا كان هناك ثمة شيء يمكن تعلمه من النقد الحديث للحماس (الهوسي) للديمقراطية الليبرالية، فهو أن صناديق الاقتراع وحدها ليست كافية. ما لم يكن هناك قوانين صلبة وراسخة لحماية حقوق الأفراد والأقليات، وتحديد سلطة الحكومة بوسائل واضحة مثل المحاكم النزيهة، والمنافسة الانتخابية العادلة، فإن الديمقراطية يمكن ببساطة أن تؤدي إلى ما سماه الفيلسوف الفرنسي ألكسيس دو توكفيل بدقة «طغيان الأغلبية» خاصة في الدول المتخلفة. هذه الفكرة لها جاذبية خاصة في البلدان التي يكون فيها بعض أنواع من «الإسلام السياسي» من المرجح أن تسود في أي منافسة انتخابية مفتوحة. في مثل هذه الأماكن تفضل الأقليات غالبا، (وتشمل غالبا المسلمين المنشقين عن التيار السائد) أن تبقى في إطار الأمان النسبي الذي يوفره النظام المستبد.

تحذير آخر هو أن الديمقراطية الليبرالية لم تعان صعوبات مطلقا في البلدان التي تعتمد في الأساس على اقتصاديات غير اقتصاد السوق. وجود آلة استبداد في الدولة التي تتدخل في كل شيء يمكن أن يغري القادة لاستخدامه ضد خصومهم السياسيين. السيطرة الكلية على الاقتصاد أيضا تشفط الهواء تماما خارج ما سماه استفان بيبو، (هو مفكر سياسي مجري): «دوائر صغيرة من الحرية» تتمثل في الجمعيات الحرة ومراكز القوة المستقلة التي يسمح بها الاقتصاد الحر (أي مؤسسات المجتمع المدني الحرة). اقتصاديات السوق الحر تساعد في خلق طبقة متوسطة تكون أقل تأثرا بضغط الدولة وبالمحسوبية السياسية.

أهمية القدرة على المساومة وقبول الحلول الوسطى

وربما الأكثر أهمية، الديمقراطية بحاجة إلى قادة لديهم الميل والقدرة على المساومة والوصول إلى حل وسط: أي ما دعاه والتر باجيت (1826-1877)، رئيس تحرير الايكونومست (في القرن التاسع عشر عندما كانت صحيفة وقبل تحولها إلى مجلة كما نشاهد حاليا)، «الإدارة بأسلوب يميل للتخلي عن هدف محدد مطلوب بدل القبول ببديل أقل قيمة» (أي التصلب والعناد وعدم قبول المساومة والحل الوسط). بدون الميل والمزاج لتحمل «إدارة الاختلافات»، يمكن بسهولة للجماعات المنافسة إضعاف وتحويل الممارسة الديمقراطية إلى مجرد صراع متوحش على السلطة يؤدي في نهاية المطاف إلى تآكل المؤسسات الليبرالية.

حاجة الديمقراطية الليبرالية للانتماء المشترك في المجتمع

وهذا يوحي بأن الديمقراطية الليبرالية من المرجح أن تنجح في البلدان التي لديها شعور عام بالانتماء المشترك بدون تصدعات عرقية أو ثقافية قوية يمكنها أن تحول بسهولة الصراع السياسي من تنافس شريف إلى نزاع مسلح دموي. الدول التي في وضع أفضل لتحقيق هذا هي التي يوجد بها «أناس متفقون على خلفية مشتركة بشكل أساسي تمكنهم من تحمل التشاحن والشجار بأمان» كما قال اللورد بلفور، وهو سياسي بريطاني شهير من القرن التاسع عشر. ولكن لم يكن هذا هو الحال في يوغوسلافيا في التسعينيات، أو في لبنان في السبعينيات من القرن العشرين.

تعقيد واقع الحياة اليومية أكثر مما يسمح به خلاف الليبرالية مع خصومها

حتى عندما تكون جميع الشروط الصحيحة متوفرة على الأرض، فإن الديمقراطية لا تسود إلا إذا أظهر أنصارها نجاحا ملموسا في الحكم. لا يمكن لدستور، في حد ذاته، ضمان الحكم الرشيد الجيد. نجاح أي نظام سياسي يعتمد في نهاية المطاف ما إذا كان يمكن أن يوفر متطلبات أساسية مثل الأمن والثروة والعدالة. وفي البلدان التي تنتعش وتزدهر فيها التجارب الديمقراطية، فإن واقع الحياة اليومية أكثر تعقيدا مما سيسمح به خلاف كل من مروجي فكرة الديمقراطية الليبرالية أو المتشككين فيها المدافعين عن الاستبداد.

الأفغاني الأمي «جامشيد» يهزم البروفسور «فوكوياما»

في كابول، يتحدث العامل اليدوي الأمي جامشيد (26 عاماً) نيابة عن العديد من المواطنين عندما يسرد محاسن ومساوئ النظم الغربية الجديدة المفروضة بالقوة من قبل النظام الأفغاني الجديد الذي يدعمه الغرب. بالمقارنة مع الحياة في ظل حكم طالبان، جامشيد يقدر «الحرية للاستماع إلى الموسيقى، والخروج مع زوجتك بسهولة وبدون مراقبة لتفعل ما تريده»، لكنه لا يمكن أن ينسى مطلقا أنه «في ظل حكم طالبان المستبد، كان يمكنه ترك المحل مفتوحاً والذهاب لأداء الصلاة في المسجد ولن يتجرأ أحد مطلقا على سرقة أي شيء... ولكن الآن -يقول جامشيد-: الحكومة الديمقراطية الليبرالية نفسها «فاسدة»، وتسرق مال الناس بالباطل!!!»

بكل تأكيد جامشيد الأمي لم يقرأ مطلقا مؤلفات الفيلسوف البريطاني «جون ستيوارت ميل» مؤسس الفلسفة الليبرالية أو المفكرة السياسية الأمريكية «آين راند». ولكن سواء كان يحكمه رجال دين ثيوقراطيين أو حكومة جاءت بعد فوز بانتخابات مدعومة من الغرب، فإنه -بالتأكيد- يعلم جيداً «ما لاااا يعجبه»!!!

المغرب
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة