Culture Magazine Thursday  23/12/2010 G Issue 326
قراءات
الخميس 17 ,محرم 1432   العدد  326
 
السيرة الذاتية وحتمية النموذج المتعدد
قراءة في كتاب «السيرة الذاتية»
مقاربة الحدّ والمفهوم للباحث السعودي أحمد بن علي آل مريّع
عبد الرزاق القلسي

تبدو السيرة الذاتية من أكثر الأجناس إثارة للحوار وللنقد فهي أسلوب في الكتابة ونمط في التعبير يتصف بخصائص تميّزه عن غيره من الأنماط السردية. إنها تأخذ من غيرها وتستقل بنفسها بل وتخلق مشكلة جمالية للناقد وللقارئ وللمبدع على حدّ سواء.

ومنذ أن ولد هذا النمط من الكتابة، ولد على الاختلاف وعلى الريبة وعلى الازدراء. فالإنسان مطبوع على إخفاء نقائصه ومحو آثامه ولم نر رجلاً عاقلاً يتبجّح بخطاياه أمام الملأ، فيما السيرة الذاتية محكومة بمبدأ مناقص لذلك كله، مبدأ الاعتراف والمكاشفة والبوح، مبدأ يسقط الأقنعة ويفضح الاستعارة التي يحرص الإنسان دوماً على تشغيلها وتحريكها بحسب البيئة والمقام.

ويبدو الكلام عن السيرة الذاتية صعباً إلى حدّ ما، فهو لا يتخفى وراء وجهات النظر الأدبية والجمالية كما الرّواية مثلاً، وإنما محكوم أيضاً بالأبعاد القيمية فالكلام عن الذّات مدحاً أو لوماً وتأنيباً يستدعي حتماً السّجال معها والحكم عليها، وغالباً ما يكون هذا الحكم موزوناً بمقدار الوضوح والشفافية التي يلتزم بها الكاتب السيري.

وفي هذا الصدد يتنزل كتاب الباحث السعودي أحمد بن علي آل مريّع. فهو يقارب مفهوم السيرة الذاتية مقاربة اصطلاحية ومعجمية ويسعى إلى تمييزها عن غيرها من الأجناس مثل اليوميات والذكريات والمذكرات وغير ذلك وفي الآن نفسه يعمد إلى التأكيد على الأصول الكنسية والمسيحية التي رافقت نشأة السيرة في أوروبا. فمن رحم نظرية الاعتراف بالذنب نشأ الأدب السير ذاتي وتمدّد إلى آخر الكتابات في جنس السيرة

إننا لا نختلف مع الكاتب في تحديده للأصول الروحية والدينية لأدب السيرة ولكننا نرى أن مفهوم الأدبية ينبغي أن يكون أقوى وأكثر فاعلية في مقاربة حدّ السيرة وذلك لأن «للنفس أعماقاً كأعماق البحار وغموضاً كغموض الليل» ص122 ومهما كانت ثقافة المبدع وأصوله فإن الحاجة إلى البوح وإلى الاعتراف تظل في بعض مستواياتها حاجة لا واعية ومحكومة باندفاعات الذاكرة وبتوتر النفس أمام قهر الزمن، وسلطة النسيان وحتمية الموت.

إن الباحث يتحرك في فضاء السرديات، فهو يميّز بين السيرة وغيرها، هاجسه في ذلك محاصرة الخصوصيات النوعية الكامنة في السيرة وأهمها شرط الميثاق السير ذاتي، وشرط الامتداد الزمني وشرط التداخل الأجناسي والآليات التي تجعلها تغلب نوعها على الرواية أو على القصة.

وفي ظل هذا الفضاء السردي انتبه الباحث أن السيرة تنهض على أدب البحث عن الذات «ص115. ولكن هذا البحث هو أيضاً بحث في القيم وفي المثل العليا وفي الفضائل فهذه الذات الثاوية وراء السيرة ليست معصومة من الخطأ كما أنها لا تتحرك من عالم من اليقينيات والمطلقات وإنما كائن إنساني ينفعل بالمكان وبالتربية وبالوراثة، ما يجعل الحسّ النقدي والانتقائي في عقل كاتب السيرة أكثر اشتغالاً من عقل كاتب الرواية أو القصة.

إننا لا نختلف -من حيث المبدأ- في هذه المقاربة، ولكننا نختلف عما يترتب عنها فالباحث -فيما يبدو حساسية خاصة إزاء مصطلح الاعتراف لأصوله الكنسية وسعى إلى تعويضه بمصطلح آخر أكثر إنتاجية في تقديره ضمن فضاء الثقافة الإسلامية وهو المكاشفة لاقتران المكاشفة بفضائل الصدق والبوح ما يجعل كاتب السيرة بعيداً عن شطط التمجيد للنفس وعن الإسراف في التواضع.

هذه المكاشفة هي أسلوب وبنية في التعبير، وهي في الآن ذاته فعل أخلاقي متسام ينأى بالكاتب عن الإثارة وعن الفضيحة وهنا بالتحديد نختلف مع الباحث ليس لأننا نرى ألاّ مكان للفضيلة وللأخلاق في السيرة الذاتية، وإنما لأن الرقيب الاجتماعي والأخلاقي قد اكتسح فضاء الإبداع الأدبي حتى لا تنزاح السيرة عن البنية السائدة للأخلاق وحتى لا تصطدم مع الأعراف ومع التقاليد.

بهذا المعنى تبدو السيرة نمطاً مزعجاً للأخلاق خاصة إذا ما كان منفتحاً على الأسرار الجنسية المثيرة وإذا لم يجد الكاتب غضاضة في الكشف عن مغامرات سابقة. إن ذلك يمكن أن يخرجه من مجال الإبداع الأدبي إلى مجال المساءلة القضائية.

إن الباحث يحدّد في آخر فصول كتابه «الصدق وكاتب السيرة الذاتية الملم» مفهوماً للأدب الإسلامي، وسعى إلى أن يطوّر أفكاراً قيمة في هذا الشأن مستدل بتجارب أهمها «اعترافات الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل». ص165 وما يهمنا فيها أن هذا الرجل كان مولعاً بالفنون وبالموسيقى وعاشقاً للأجواء الفنية المصرية في الأربعينيات أما الآن فهو زائد فيها ومعبر عن ندمه وأسفه لانخراطه في تلك الأجواء، وهذا في تقديرنا ما يسمح بالقول إلى أن للسيرة الذاتية بعد الشاهد التاريخي لتطور الأفكار والقيم من التسامح والتعدّد واتساع الأفق إلى نوع من التشدّد والانغلاق أصبح مع الأسف ظاهره عامّة أساءت إلى الثقافة وإلى الفنون وتلك قضية أخرى.

إن الجسارة والجرأة شرطان من شروط كتابة السيرة وإلاّ أضحت تلاعباً بالألفاظ وتخفياً وراء الاستعارة كيلا يكون الكاتب موضوعاً للنقد وللحكم من لدن القارئ. والباحث آل مريع لا ينفي تلك الشروط ولكن يحاول إلباسهما اللبوس الإسلامي الذي يعشق الفضيلة ويحيي الندم على الإثم ما يشبه ضرباً من جلد الذات الذي هو المقابل المفهومي لتعرية الذات في الاعترافات الأدبية الغربية وكلاهما في تقديرنا يسلب أدبية السيرة من أجل نموذج أخلاقي رفيع أو من أجل تخليص الذات من شوائب عالقة في اللاوعي.

* وأبديولوجيا *غير ربط الفكر بالمرجعيات وبالقيم* ولكن هذه المقاربة يمكن أن تخرج عن السيرة نصوصاً نعدّها اليوم وبمقاييس النقد نماذج رفيعة من التخييل الذاتي ونصوصاً اختار فيها أصحابها الصدق الجارح على التمسك الوهمي والمنافق بالفضيلة. ففي سيرته المؤثرة «في غير موضعه» يتحدث أدوار سعيد عن الاستمناء والمتع الجنسية غير السوية. ونحن لحظة قراءتنا لذلك لا ينبغي أن نأسر أنفسنا في أحكام نصدرها على الكاتب بل بالتأويل والتحليل في أن ذلك لم يكن مبرراً إلا لأن للكاتب أزمة في التواصل مع الأنثى أو في غياب الأنثى من المشهد الاجتماعي والتواصلي في المشرق العربي سواء كانت مسلمة أو مسيحية. وفي تونس تحدث كاتب بجسارة لا مثيل لها عن نسبه في كتاب «محاكمة كلب» حيث يعلن وبوضح أنه مجهول النسب وأن رحلته نحو البحث عن الأب قد أدّت به إلى أن يلعن كل الآباء على وجه الأرض. وقد كان لكلامه وقعاً خاصاً على كل من قرأ كتابه وهناك من تعاطف معه ودعاه إلى النسيان وهناك من لعن الكتاب وصاحب الكتاب في ذات اللّحظة.

إن الإضافة المهمة التي تستدعي في التطوير والإغناء تتمثل في الفصل السادس الذي يحمل عنواناً «الصدق وكاتب السيرة الذاتية المسلم» حيث تميّز الفصل بجرعة من الأخلاق ولكننا نرى أن للأخلاق في السيرة تأثيراً سيئاً إذ يمكن أن تمثل القناع الذي يدّعى الكاتب السيري إسقاطه أو أنها يمكن أن تحوّل النص إلى وعظ وتنبيه من الوقوع في المطبات والسقطات وذلك ما يحوّل الكاتب إلى صاحب سلطة على القارئ لأنه هو الأعرف منه والأكثر خبرة.

إننا نعتقد أن أفضل الحلول الممكنة لتجنب الاعترافات الفاضحة والتعري الزّائد يتمثل في تأصيل الشعرية في صميم العمل الأوتوبيرغرافي، فالحقيقة التي يسعى الكاتب السيري إلى بلوغها هي حقيقة عصيّة عن الإدراك في ذات الوقت إذ إنه يحاول أن يمسك بأكثر العناصر لزوجة وانسيابية وهو عنصر الزمن، ويحاول -عبثا- أن يمسك باللحظة الهاربة لكي يعيد موضعتها في صميم عملية الإنتاج والكتابة وهذا عمل لا يخلو من عنف ومشقة.

إذن نحن في الأصل أمام نص سردي ولكنّه قدّ يروح الشعر وبقلق الشاعر، ونعني بالشعرية أيضاً أن ننفذ إلى روح الكاتب، وبقدر ما يتجاسر على التعبير عن فكرة خفية أو واقعة غير تقليدية بقدر ما يعتوره الرّعب لحظة كتابتها، ولحظة مراجعتها حتى بعد مدّة من الزمن. إنها تبدو غريبة وغرابتها هي مصدر طرافتها، ولأجل ذلك نقرّ بأصالتها وهذا ينطبق حقاً على سيرة الكاتب السعودي الشيخ أبو عبدالرّحمن بن عقيل الذي حاول الباحث آل مريع استجلاء مواطن الجدّة والطرافة في كتابه.

إن كتابة السير الذاتية في حدّ ذاتها هي عملية تخييل، وبالكتابة يكشف الكاتب السير الذاتي مناطق قصية في تجربته وفي وعيه. إنه يكتشف -نعم- ولكنه لا يتعرى وهذا هي الإضافة التي سعى آل مريع إلى إغناء نظرية الأوتوبوغرافيا بها.

إن اللغة - في هذا الصعيد- ينبغي أن تكون شعرية فتنوس بين الغموض وبين الشفافية، كما أن هناك حركة ذهاب وإياب من الأنا المتراكمة في النص إلى الآخر الذي سيقرؤه وسيصدر حكمه. حقا إنه كاتب صادق أو إنه كاتب مراوغ آثر الخفاء والكتمان بل والنفاق بديلاً عن الشفافية والصراحة.

إن ما يمكن أن نثني عليه في كتاب آل مريع هو تأكيده على هاجس البحث عن المعنى في الحياة في كتب السيرة الذاتية ففي كتاب ابن عقيل نرى المعنى قائماً على الإحساس بالذنب وبالتوبة والإنكار على الذات انهماكها في الملذات بل وجلد الذات إلى حدّ يصل به إلى ضرب من البكائيات لكن يجب التمييز في المعنى بحسب البيئة والمقام فابن عقيل ينظر إلى شبابه بوعي رجل ستيني أو سبعيني هذا في تقديرنا إسراف في الجلد لا يقبله منصف.

. إن ذلك سيكون حتماً إيذاناً بزلزال قيمي لن يتحمله أحد خاصة في المجتمعات الدينية والبيئات المحافظة.

وفي خاتمة هذه القراءة لكاتب الباحث السعودي آل مريع، لا بد وأن يشير إلى الجهد النظري والمفهومي الذي قدمه والذي يفضي به وبنا إلى دروب جديدة في مبحث الأوتوبيوغرافيا وتنزيله في الفضاء الإسلامي للكاتب وللكتابة على حدّ سواء.

إننا نقر بالإضافة المهمة وبالإنتاجية المثمرة لبعض المفاهيم التي استنها واشتغل عليها لكن نحشى أن تكون لتلك الأدوات والمفاهيم سلطة إقصائية غير عادلة إزاء النصوص السيرية كما نخشى أن تحلّ الأحكام القيمية على الكاتب محل الأحكام الجمالية على الأثر نفسه، إذ إن في ذلك فتحاً لخلافات لا أوّل لها ولا آخر.

إن الباحث يتعاطى مع الأوتوبيرغرافيا تعاطياً نقدياً. وهذا هو اختياره الذي لا مشاحة فيه، ولكننا كنا نفضل لو أنه أنهى بحثه القيّم بوضع حدّ لمفهوم الكتابة السيرية انطلاقا من التصورات المفهومية والمنهجية التي اشتغل عليها ومن داخل الفضاء الإسلامي للكتابة وهذا الحدّ هو في تقديرنا كما يلي: «نمط من الكتابة تكون الذات محورها ومدارها بأسلوب المكاشفة من أجل إحياء قيم الفضيلة أو التطهير من أخطاء ماضية». و نضيف أيضا بين قوسين «نمط من الكتابة فيه تحرّر وخلاص وتطهير لدى الرجل فيما هو لدى المرأة حكم بالتأثيم والنفي».

إن هذا المبحث يفتح الأبواب أمام كل السجالات الممكنة سواء فيما يتصل بالكاتب أو بعملية الكتابة ذاتها وبالإيديولوجيا التي يدعو إليها صاحب السيرة أو يتخفى وراءها.

485

تونس Kolsi_abk@yahoo.fr
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة