Culture Magazine Thursday  01/12/2011 G Issue 354
فضاءات
الخميس 6 ,محرم 1433   العدد  354
 
سقراط في كلية القانون
عبدالله العودة

في عام 446 قبل الميلاد.. ألّف الكاتب المسرحي وأحد أقدم كتاب المسرح في التاريخ «أرستوفينيس» مسرحيته الهزلية «الغيوم» (the Clouds) إبان حياة الفيلسوف الكبير سقراط.. وكانت هذه الرواية هي إحدى القرائن والوقائع التي قادت لمحاكمة سقراط وإعدامه في أثينا باليونان.

في هذه المسرحية.. يتحدث أرستوفينيس عن علاقة ابن بوالده.. حين كان الوالد يريد أن يرى ابنه الوحيد ذكياً متعلماً.. متفوقاً.. غير أن هذا الولد كان عصي القياد.. صلف الطباع.. شديد العناد.. فكان الوالد يرغد على هذا الابن المدلل ويستلف المال لأجل راحة ابنه.. حتى لاحقه الدائنون وصارت تطلبه المحكمة للحضور.. فأراد لابنه أن يتعلم وأن يكون حجته في المحكمة وأن يكون محاميه.. وبحث عمن يعلمه ذلك.. فسمع مرة عن معهد وأكاديمية للتعليم يتدارس فيها الفلاسفة.. وأن شيخهم هو سقراط.. فذهب الوالد لسقراط فوجده غير معتنٍ بنفسه.. غير أنه طيب الحديث ذكي القلب.. ولاحظ قوة حجته وصلابة رأيه فأعجبه ذلك وأصرّ على ولده أن يذهب لسقراط فأبى الابن إلا أن مسرحية مضحكة قدّمها سقراط جذبت هذا الابن وجعلته ضمن هذا المعهد الفلسفي وأحد تلاميذه.

وبعد طول مراس فلسفي ، تعلّم الابن أسس الجدل وطرائق الحجاج.. لكنه تعلم مع ذلك كله التمرد على تقاليد المجتمع وعاداته.. بل ودينه فانقلب على والده.. وصار يكفر بكل مايقوله له.. وذات يوم ضرب والده.. فحنق الوالد على أكاديمية الفلسفة التي يديرها سقراط تلك.. وذهب إليها حاملاً كرهه وغضبه وفأسه حتى أشعل تلك الأكاديمية ناراً وأحرقها ومزقها كل ممزق..جزاءً لها على مايتعبره إفساداً لعقول الشباب وتغييراً للدين. هذا هو سقراط -حسب هذه المسرحية الأقدم-.. فيلسوف يعلم طرائق الحجاج والجدل.. بل وبإمكانه أن يقلب الباطل حقاً والحق باطلاً عبر الحجة والبرهان.. فهو تجاه كل مسألة له حجتان: معارضة وموافقة.. وتجاه كل قضية له طريقتان للجدل: سلبية وإيجابية.

سقراط.. الذي حسب هذه المسرحية الأقدم كانت حججه وبراهينه وطرائقه في الاستدلال تستخدم لأجل الوقوف أمام المحكمة وهزيمة الدائنين بالحجة.. هو نفسه الذي تسمى به الطريقة التعليمية للقانون في أغلب الجامعات الأمريكية «المنهج السقراطي» (Socratic Method ).

طريقة سقراط في الحجاج والنقاش هي نفسها الذي تدار به الجامعات الأمريكية اليوم.. فالمعلم حينما يدخل القاعة فهو لايستعد لطرح الأجوبة..بل لصناعة الأسئلة فالطالب بإعداده وعمله ومذاكرته هو من يتحدث في الأعم الأغلب.. وفي كل درس يستعد مجموعة مختارة مسبقاً أو اعتباطياً للإجابة على مجموعة من الأسئلة الحجاجية حول قضية معينة معروفة أو مفترضة والنقاش حولها.

القضايا القانونية الحقيقة والسوابق القضائية التي قضت فيها المحكمة هي في الغالب محور الجدل والنقاش ليطور الطالب آلياته في الحجاج والنقاش والاستدلال من خلال التعمق في فهم القضية ومسبباتها وعلل الحكم فيها.. ومن هذا النقاش يدرك الطالب القاعدة القانونية التي تحكم مناطق القانون المختلفة من خلال القضايا.. فتعليم القانون هنا يتم عبر القضايا أولاً.. وليس عبر المواد القانونية ابتداءً.. وهذا بالتحديد هو مايختلف فيه منهج القانون المعتمد على السوابق القضائية كبريطانيا وأمريكا وتوابعهما.. عن القانون المعتمد على المواد المحددة الدقيقة كألمانيا وفرنسا وتوابعهما.

المعلم في قاعة كلية القانون.. -حسب التعليم الأمريكي- قد يكون محامي الشيطان في الدرس فقط لكي يكتشف الثغرات في كل حجة يقدمها الطالب.. ويبحث عن نقاط الضعف..ليهز استدلال المتحدث.. وقد يفعل ذلك لكي يعتاد الطالب على الحجة وضدها.. والرأي ونقيضه.

منذ يدخل المعلم القاعة إلى أن يخرج و90% من الحديث هو للطلاب ونقاشاتهم والمعلم هو فقط من يدير الحديث ويلد الأسئلة ويرتب النقاش.. ويصحح مسار الحديث وربما يفسح المجال لنقد الحكم في القشية برمته ليقدم الطالب بديلاً أكثر عدلاً وانسجاماً مع السوابق الأخرى والقواعد القانونية الحاكمة.

ومنذ ذلك العهد الذي قدم سقراط فيه قدراته العقلية والفلسفية والاستدلالية في المعهد والأكاديمية في أثينا.. دخل المنهج السقراطي للمحكمة والقانون.. ومنذ تأسيس الجامعات الأمريكية الأبكر والأعرق... ومنهج سقراط الحجاجي يستخدم في قاعة الدرس القانوني بأمريكا ليتم إعداد طالب القانون للمحكمة.. كما كان يعد سقراط تلاميذه ومريدوه.

aalodah@hotmail.com أمريكا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة