Culture Magazine Thursday  17/02/2011 G Issue 332
فضاءات
الخميس 14 ,ربيع الاول 1432   العدد  332
 
افتراض واقعي.. شباب الفيسبوك المختَطَف
تركي محمد التركي

«شباب الفيسبوك» عبارة رددها الكثير إعلامياً واجتماعياً، كما أنه سأل عن أصحابها الكثير مؤخراً، من هم هؤلاء القادمون من عالم الافتراض لميادين الواقع، أين كانوا ولماذا هم هنا الآن؟ ماذا يريدون، بل وماذا فعلوا؟ وحتى من كان يعلم عنهم قبل ذلك كان يعتقد بيقين عزلتهم وسجون خيالاتهم الافتراضية البعيدة عن كل واقع، لذلك كان يستبعد فعلهم ولا يخشى غضبتهم، فأساء بذلك مرة أخرى التقدير وأثبت عزلته هو.

ما حصل مؤخراً من تسارع للأحداث ومن نتائج نوعية على أرض الواقع كشف عن عوالم تقاطعَ الافتراضي منها بالواقعي، وكشف عن ثورة رقمية واتصالاتية، من المعلوم مسبقاً بوجودها ولكن الآن فقط عُلم مقدار وحجم تأثيرها واقعاً لا افتراضاً. ومن جهة أخرى فقد اتضح أيضاً بأن دور النُخب بجميع أنواعها يبقى دوراً حاسماً بالنسبة لإنجاح وإتمام هذه التحركات الشعبية، ففي تونس تم احتواء الموقف لوجود نخبة سياسية بديلة كانت أكثر استعداداً فاستطاعت استيعاب هذه الغضبة واحتواء الموقف بشكل أسرع نسبياً، في وقت تأخرت فيه النخب السياسية في مصر في استيعاب ما حدث وما يجب فعله تجاه ما حدث مما أدى لأخطاء وصراعات نخبوية سياسية في أعلى الهرم انعكست على أرض الواقع فوضىً وعنفاً, لتتدارك هذه النخب أمرها بعد ذلك فتسيطر على الوضع وتشيد بدور هؤلاء الشباب وتشكرهم على ما اعتبرته تسريعاً لإيقاع وتيرة الإصلاح، كما أنها اعترفت بسلميتهم لتبرأهم من كل عنف رافق هذه الأحداث، بل واعتذرت لهم عن ما وجب الاعتذار بشأنه. نعم كان هناك الكثير من الأخطاء المروعة رافقت هذه الأحداث، وهو ما يعده بعض النخبويين التعبويين ضريبة طبيعية لكل ثورة أو انتفاضة، قد يكون ذلك صحيحاً بمفهوم وظروف الثورات التي شهدوها وعاصروها، ولكنه لا يجب أن يكون صحيحاً بمفهوم طلب الإصلاح والتغيير المدني.

وهنا لا بد من قراءة لوقائع الاختطاف النخبوي بنوعيه الثقافي والسياسي والتي حصلت لهذه التحركات الشبابية السلمية، بدءاً من قنوات ومؤسسات إعلامية مؤدلجة سلفاً، كانت تتابع الأحداث وتحذر من اختطاف ما أسمته «الثورة» من قبل أحزاب سياسية أو نُخب ثقافية، في وقت هي أول من مارس هذا الاختطاف علناً لتمرير الكثير من خطاباتها من خلال مكالمات أو لقاءات مباشرة مع السياسيين الموالين لها أو المثقفين المنظرّين لتوجهاتها، ومع ذلك لم يتنبه لذلك الكثير من شباب الإصلاح والتغيير أنفسهم الذين أمدوا هذه القنوات بالكثير من المواد الإعلامية الجاهزة ليخدموا بذلك ودون أن يعلموا توجهات ومصالح لا تقل في خطورة سياساتها الإخباريه الانتقائية وغير المعلنة عن توجهات وسياسات الأحزاب المعلنة، لينشق صف الشباب ذاتهم ما بين مؤيد لتلك القناة وداعم لها وما بين رافض لتوجه أخرى وناقم عليها. وهنا وفي غفلة من أمر شباب الإعلام الفردي الجديد وتحت إلحاح من ثقافة الضوء والصورة التلفزيونية التقليدية تحول الشباب من صانعين للأحداث ومقررين لمساراتها السلمية على أرض الافتراض والواقع لمختلفين وبحدة على أمرها. ولكن الأخطر أيضاً في أنهم كانوا وقوداً لهذه المؤسسات على أرض الواقع، إذ أصبحوا فقط مجرد مراسلين إخباريين لهذه القنوات دون أي تكلفة مادية، ودون أي مسئولية مهنية على عاتق القناة، مع استمرار النخبويين المؤدلجين ذاتهم الموجودين صباح مساء على هذه القنوات منذ إنشائها يمررون توجهاتهم ويصعدون من نزاعاتهم.

المستوى النخبوي الثقافي المستقل والذي يُطلب منه تقديم أفكار وتصورات أكثر حيادية وعقلانية في مثل هذه المواقف الصعبة تاه واحتار في عاطفته وفكره ما بين كرّ الثورات وحنينه إليها وما بين فرّ السياسات وغضبه منها، ما بين حاشد للجموع وما بين مفرق للجموع، وكأنه يبحث عن مكاسب شخصية سيوفرها له الرابح من هذه المواجهة. لا ننكر عليه هذه المكاسب، ولكن أيضاً لا نستطيع أن نُقرّها إذا ما كان الخاسر دائماً هو الموقف الواضح والصالح العام. أما المستوى الجماهيري العام (المُتلقي) فهو ما يزال في أغلب توجهاته لا يعدو عن كونه يردد فقط ما يطرحه هذا المستوى النخبوي (الجماهيري منه تحديداً)، حيث بات هناك توافق واضح على مستوى آليات التفكير والعاطفة، لذلك تتشابه مخرجاتنا المجتمعية فكرياً ونظل ندور في ذات الدائرة النهضوية الصحوية اليقظوية المفرغة. ولكن الآن ومع حدوث بعض التغييرات الإيجابية بقليل من الإلحاح السلمي ومع كثير من العنف غير المبرر من جميع الأطراف, هل لنا أن نتساءل عن الخاطِف والمختَطَف والمخطوف؟

الخاطف هو من اعتبر مطالب الإصلاح والتغيير من فرط عاطفته وحماسته الماضوية ثورة، متجاهلاً هذه المرة بالذات أن هؤلاء الشباب نواة هذه المطالب تحركوا نتيجة لتواصل اجتماعي افتراضي سلمي أدى لتراكم معرفي يطلب التغيير بعيداً عن أي تنظيمات عسكرية عنيفة أو تنظيمات حزبية سياسية انقلابية كانت هي النواة والمحرك للثورات قديماً. وهذا فرق جوهري لابد من الحفاظ على مزاياه السلمية والاجتماعية والفكرية. كما أن الخاطف هو أيضاً من برر وما زال يبرر العنف الحاصل بالضرورات الثورية حتى لو كان ذلك على حساب أرواح شابة يتم إزهاقها بلا حساب قرباناً لثقافة «التضحية بالفرد من أجل الجماعة»، والتي لا ينفك يهلل لها ويتبناها المجتمع الأبوي مع كثير من الطقوس الحماسية البدائية شعراً وغناءً، وهذا الخاطف هو أيضاً من كان ينظِّر للأحداث ويقرؤها من زاوية يتيمة تغذيها ثقافة السبب الواحد، حيث الطاغية وزمرته هم سبب كل بلاء ومعضلة، في زمن اختلف تماماً عن زمن الخلافات والإمبراطوريات، حيث تشابكت فيه المصالح القومية والقطرية وتعقدت سياسياً واقتصادياً وثقافياً، في زمن أصبح للإنسان الفرد قيمته وللشركات جنسيات متعددة مع بقاء جنسية واحدة ووحيدة للحكومات, في زمن السوق المُعولم والمفتوح هو الذي يحكم توجه المجتمعات أياً كان سلاطينها وليس العكس, سوق قد لا يعنيه استقرار دولة بأكملها كما يعنيه استقرار قناة كقناة السويس هي شريانه النابض الذي لا يتحمل هذا «السوق الديكتاتور» سماع أي خبر عن إمكانية انسداده لترتفع الحُمى (أسعار البترول) وليبدأ السياسيون في اتخاذ كل التدابير والتصاريح الممكنة وغير الممكنة, الشريفة وغير الشريفة، فقط لخفض هذه الحرارة. ومن المؤسف أن نقول إن الأخلاق هنا يصبح أمرها نسبياً بالنسبة للسياسي، حيث حياة هذا الشريان أولوية حتى لو استدعاه ذلك لعملية قسطرة (عنف داخلي أو حرب خارجية). ومع كل هذه التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحتاج إلى بعد نظر وأفق واسع نجد الخاطِف النخبوي المثقف لا تعنيه قراءات الاقتصاد السياسي ومآلاته إلا حين يُطالِب بحد أدنى للأجور أو بصرف بدلات للبطالة، لأن هذه فقط هي أدوات تسويقه الجيدة لحشد الأتباع والجماهير.

انتشر الخاطفون واختلطوا بالمختَطَفين الهاتفين والمرددين، وتم هذا الاختلاط الشرعي العابر في لحظة حاسمة وطقوسية بامتياز، هي لحظة الاحتشاد والتعبئة، لينتشروا على صفحات «الفيسبوك» و«تويتر» وعلى جميع القنوات الإعلامية التقليدية، عنف لفظي افتراضي يُحاكي ويجاري العنف الحاصل على أرض الواقع لنستعيد صوراً ثورية قديمة، حيث الالتفاف حول «الراديو» يصبح واجباً من واجبات الثورة الشعبية، ولكن هذه المرة مع اختلاف الأدوات، فعوضاً عن الراديو هناك الهواتف الذكية والكمبيوتر المحمول والتلفزيون، كما أننا لسنا بحاجة للتجمع والالتفاف حول نقطة مركزية واحدة تعطينا الصورة التي تريدها هي فقط؛ فهواتفنا النقالة ترافقنا لكل مكان وتوافينا بالأخبار أولاً بأول وبشكل شبكي لا متناه، لنبدأ في تناقل الإخبار والصور أو الأكاذيب والشائعات، لا فرق هنا فالاختلاط وارد جداً وجماهيري جداً في ظل وفرة معلوماتية لا تجد في المقابل تفكيراً نقدياً يمحصها ويحللها ويصنفها بقدر ما تجد عاطفة وحماسة تنتظرها بشغف، وبأحكام وقوالب جاهزة تضعها فيها ثم تبعث بها لأقصاها ودفعةً واحدة كطلقة في الهواء يشعر بعدها الخاطف والمختَطَف بالراحة والتفريغ لوهلة، ولكن هذه الطلقة بكل أسف لا تصيب هدفها وتعود لتسقط على الأرض فارغة من أي قوة ومن أي معنى ليس لأننا لم نحسن التسديد فقط ولكن لأن الهدف هو أيضاً ما يزال غير موجود.

الهدف هو ذلك المخطوف، الموضوع الذي خُطف قبل أن يُولد أو يُوجد من حيث هو قيم عالمية موحدة ومتعارف عليها، قضية الحرية الفردية والعدالة التي ما زالت كل جماعة (وما أكثرها جماعاتنا سياسياً وثقافياً ودينياً) تختطفها للتباهي بها فتُلبسها الزيّ الذي تريد، وتُقربها ممن تريد وتبعدها عمن تريد، حُرية لا تُحاكي واقعها العالمي الحقوقي بقدر ما تحاكي أحلامنا عنها وبها، أحلامنا المتعددة بتعدد مرجعياتنا وخصوماتنا، وبالتالي هي لا تُحاكي ذاتها لذاتها بل تجهل ذاتها كما تجهل ذوات الآخرين المحيطين بها اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، لذلك لا تجيد هذه الجماعات وبالذات السياسية منها لعبة المصالح والتفاوض الواقعية كما يجب أن تجيدها محلياً ودولياً، بقدر ما تجيد حَبك القصص التآمرية الخيالية للإبقاء على مصالحها فقط.

يبقى أنه لا أحد ينكر اليوم بأن عجلة الإصلاح وتتبع الفساد بدأت في الدوران بفضل هؤلاء الشباب، وليس للنخب المتصارعة سياسياً أو ثقافياً فضل في ذلك، فالشباب هم نواة كل ما حصل، ولكن يبقى الرهان على استمرار دوران هذه العجلة وجودة اتجاهاتها، لذلك كان لا بد بعد الشكر والتعاطف من النقد والمصارحة، فهذه الأحداث أثبتت هي أيضاً بأن الشباب المختَطَف يحتاجون هم أيضاً كأفراد أي مجتمع واع لإعادة النظر باستمرار في قضاياهم وأفكارهم ومدى نضجها، وهذا بالتأكيد سيساهم مع الوقت في خلق نُخب من داخل ذات المجتمع الافتراضي الواقعي يساهمون مستقبلاً مع ناشطيه الموجودين والفاعلين في بلورة مطالب وأفكار هؤلاء الشباب السلمية وجودة تقديمها ومشاركتها وتفعيلها بشكل أكثر احترافية وواقعية سياسياً واجتماعياً بما يتناسب وحداثة هذه العوالم الجديدة تقنياً ومدنياً وفكرياً، بعيداً عن أجواء ونزاعات نخبنا التاريخية الذين نكن لهم ولتجاربهم كل الاحترام والتقدير كتجارب يمكن الاستفادة من أخطائها قبل نجاحاتها، ولكن لا بد أيضاً من إدراكها وتجاوزها وعدم الوقوع مرة أخرى في فخ إعادة اجترار ثوراتها وتثويرها باستخدام صيغ أخرى وأدوات جديدة تحجب عنّا رؤيتها كما يجب أن نراها، فهي لا تتعدى كونها بعضاً من أحلام أبائنا الأولين والكثير الكثير من خصوماتهم.

alturki.tt@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة