Culture Magazine Thursday  17/02/2011 G Issue 332
قراءات
الخميس 14 ,ربيع الاول 1432   العدد  332
 
قصة قصيدة..!
أحمد عثمان البسام

«مِهيار الديلَمي» شاعر من أصل فارسي، متعصب لفارسيته، يتكلم العربية كأهلها، ويقرض الشعر كأبلغ شعرائها، ورغم اعتناقه الإسلام بعد هجرة أبيه به وبعائلته إلى «بغداد»، واتخاذها وطنا لهم، إلا أن «مهيار» الشاعر طالما استعان بلغته العربية ودينه الجديد للإشادة بقومه الفرس، وفخره بهم، وزهوه بالانتماء إليهم!

حدث مرة أن كان حاضراً حفلاً، من بين الحضور فيه فتاة عربية حسناء، لَفِتَ «مهيارُ» نظرها بسلوكه الرصين وأدبه الجم، مع ما في مظهره وملبسه من تباين طفيف عن سائر الحضور، فدفعها الفضول للتعرف عليه وسؤاله عن شأنه، فما كان منه إلا أن أجابها على تساؤلها شعراً بقصيدة بليغة، أفصح فيها عن حبه لقومه واعتزازه بهم، سَمِعتُ المطرب «محمد عبدالوهاب» يغنيها قبل نيِفٍ وخمسين عاماً، فأعجبني منها كلماتها، لا أفكارُها، وكان «عبدالوهاب» يتذوق الشعر الجيد، فيختار أبياتاً تعجبه من أية قصيدة يسمعها أو يقرؤها لشعراءِ زمانه المعروفين، مثل أحمد شوقي، وبدوي الجبل، وإبراهيم ناجي، ومحمود حسن إسماعيل، وغيرهم، فيلحنها، ويغنيها، وقد أعجبته قصيدة «مهيار» هذه فلحنها وغناها، فزادَها لحنهُ وغناؤُه لها جمالاً على جمال نظمِها، وبلاغةِ معانيها، ولكن يبدو أن «عبدالوهاب» لم يُوَفق في الاختيار هذه المرة، فمثلما ظهرت القصيدة المغناة فجأةً فقد اختفت فجأة كذلك، وذلك بسبب ما شابَ كلماتِها من أفكارٍ اعتبرها سامعوها خَدشاً لعقيدتِهم الدينية، وذائقتِهم القومية، فأوقفوا إذاعتها!

والآن، إليك أخي القارئ القصيدةَ المقصودة بهذا المقال، وتعليقي عليها:

أُعْجِبَتْ بي بين نادي قومها

ذات حسن فمضت تسأل بي

سرها ما علمت من خلقي

فأرادت علمها ما حسبي؟

لا تخالي نسبا يخفض بي

أنا من يغنيك عند النسب:

قومي استولوا على الدهر فتى

ومشوا فوق رؤوس الحقب

عمموا بالشمس هاماتهم

وبنوا أبياتهم في الشهب

وأبي كسرى علا إيوانه

أين في الناس أب مثل أبي؟

قد قبست المجد عن خير أب

وقبست الدين عن خير نبي

فضممت الفخر من أطرافه

سُؤدد الفرس ودين العرب

هذه هي القصيدة التي أجاب بها «مهيار» الفتاة الحسناء على تساؤلها عنه، ولي تعليق على القصيدة عموماً، وعلى أبياتها الثلاثة الأخيرة خصوصاًً، هذه الأبيات التي سكب فيها الشاعر أرق مشاعره وهو يشيد بكسرى ويدعي أبوته، ويفتخر بقومه، ويتباهى بأمجادهم، ويزهو بانتمائه إليهم!

فليفخر «مهيار» بأبيه المزعوم ومجد قومه المهزوم، كما يشاء، ولكن ليس من حقه أن يقرن مجد أبيه المجوسي بمجد (محمد) عليه الصلاة والسلام، كما ليس من شأنه أن يقارن خير كسرى، إن كان له خير، بخير نبينا (محمد)، إذ لا وجه للمقارنة هنا، فأين الثرى من الثريا!

تمنيت لو أن الله هداه فاقتدى بالصحابي الجليل «سلمان الفارسي» الذي هجر قومه ودينهم، وأقبل من بعيد يسعى على وجهه الكريم ليلحق «محمداً» العربي، فيعتنق دينه، وينعم بصحبته المباركة، ويفوز بخيري الدنيا والآخرة، فهذا الصحابي الكريم هو الذي جمع الفخر من كل أطرافه حقاً وحقيقة»!

أو ليته اقتفى أثر أولئك الرجال الأفذاذ من الرعيل الأول ومن ذوي الأصول غير العربية الذين أسلموا فاستفادوا وأفادوا، وأنار الإسلام أبصارهم وبصائرهم، والذين أقبلوا على القرآن الكريم ينهلون من معينه الذي لا ينضب، فصار منهم علماءُ في الحديث والفقهِ والتفسير، ونَبغَ منهم آخرون في علوم اللغة: نحوِها وصرفِها وبيانها وبديعها، وآخرون في الطب والكيمياء والفيزياء والفلك، وغيرهم في الأدب والشعر والفلسفة والتاريخ، فألفوا في هذه العلوم الكتب والمجلدات وخلفوها للأجيال من بعدهم كنوزاً وذخائر نفيسة، ويتابيع رقراقة جارية، ينهلون منها ما ينفعهم في دينهم ودنياهم! وبعدُ، أخي القارئ الكريم، فهذا هو كلُّ ما أوحَت لي به قصيدة «مهيار» من خواطر وتعليقاتٍ.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة