Culture Magazine Thursday  17/11/2011 G Issue 352
فضاءات
الخميس 21 ,ذو الحجة 1432   العدد  352
 
الحنبلية المبكرة في الدراسات الاستشراقية -2-
د. سعود السرحان

شهدت أوائل الأربعينيات من القرن الماضي تغيراً إيجابياً في موقف المستشرقين من المذهب الحنبلي الأمر الذي أدى إلى حدوث «ثورة في الدراسات الحنبلية» كما يصفها المستشرق مرلين سوارتز. ويعود الفضل الأكبر في تطور الرؤية الاستشراقية السلبية إلى الحنابلة إلى أعمال مستشرقين كبيرين هما هنري لاووست (ت. 1983) وتلميذه جورج مقدسي (ت. 2007) اللذين قدما خدمات جليلة للدراسات الحنبلية. وقد توسعت جهودهما في هذا السياق لتشمل أربعة محاور. فأولاً: نشرا الكثير من الدراسات المهمة عن المذهب الحنبلي وعن علمائه. وثانياً: حققا بعض المخطوطات الحنبلية المهمة وقدماها للقراء للمرة الأولى، مثل: «الشرح والإبانة» لابن بطة، و»الفنون» لابن عقيل، و»الواضح في أصول الفقه» له أيضاً، والجزء الموجود من تاريخ ابن البناء وغيرها كثير. ثالثاً: دافعا عن المذهب الحنبلي في مواجهة النظرة السلبية التي كانت سائدة بين المستشرقين تجاهه، حيث سعيا إلى إبراز الجانب «العقلاني» للمذهب وجادلا بأن الحنابلة لم يكونوا معادين لعلم الكلام وللتصوف، بل على العكس من ذلك فقد استوعبت الحنبلية في داخله عناصر كلامية وصوفية، ويظهر هذا الدفاع جلياً في الدراسة الشهيرة لمقدسي «الإسلام الحنبلي» ودراسة لاووست عن الحنابلة في بغداد التي سيأتي الحديث عنها في هذه المقالة. رابعاً: حثَّ العالمان تلاميذهما على دراسة المذهب الحنبلي وعلمائه؛ الأمر الذي أدى إلى تقدم الدراسات الحنبلية بشكل كبير وحقيقي.

إلا أنه وفي سبيل سعيهما إلى البحث عن «حنبلية عقلانية»؛ فإن لاووست ومقدسي وتلاميذهما اهتموا بدراسة الحنابلة المتأخرين، ولم يولوا أحمد بن حنبل وأتباعه المبكرين من الاهتمام إلا قليلاً. الاستثناء الأبرز كان هنري لاووست، فمع أن أطروحته للدكتوراه كانت عن ابن تيمية، فإنه كتب وحقق بعض النصوص المرتبطة بالحنابلة المبكرين. فمن ذلك تحقيقه لكتاب ابن بطة العكبري «الشرح والإبانة»، كما كتب دراسة (نشرت سنة 1959) عن «الحنابلة تحت الخلافة في بغداد من عام 241 هـ وحتى 656 هـ»، أي من سنة وفاة الإمام أحمد بن حنبل وحتى سقوط بغداد. وقد قسم دراسته هذه ثمانية أقسام. الأربعة الأولى اهتمت بالحنبلية المبكرة ما بين عامي 241-403 هـ، والأقسام الأربعة الباقية اهتمت بالحنابلة في بغداد بين عامي 404- 656 هـ. أفرد لاووست القسم الأول من الدراسة للحديث عن الإمام أحمد ومؤلفاته، مؤكداً على أنه كان فقيهاً محدثاً، وليس محدثاً فقط كما يرى بعض الفقهاء مثل الإمام الطبري. كما سعى لاووست أيضاً إلى محاولة إثبات أن موقف الإمام أحمد والمدرسة السنية بشكل عام من التصوف كان إيجابياً. نعم، أحمد، كما يرى لاووست، انتقد بعض التعاليم الصوفية المحدثة التي دعا إليها أشخاص محددون من الصوفية ولم يكن نقده شاملاً للتصوف ورجالاته بشكل عام. أما القسم الثاني فقد خصصه لاووست لتلاميذ أحمد حتى وفاة عبد الله بن أحمد في 290 هـ. ويرجح لاووست أن المذهب الحنبلي كانت نتاج عمل جماعي لتلاميذ أحمد، فنشوء المذهب كان على يدي هؤلاء التلاميذ. أما القسم الثالث فخصصه لاووست لما سماه مرحلة انتشار المذهب الحنبلي، وهي مرحلة تمتد من سنة 290 هـ وحتى سنة 334 هـ. أما القسم الرابع فيتحدث عن الحنابلة في بغداد تحت الحكم البويهي ويمتد من سنة 335 هـ وحتى سنة 403 هـ وهي سنة وفاة الإمام الحنبلي أبي عبدالله الحسن بن حامد، التي تؤرخ لنهاية ما يسمى بالحنابلة المتقدمين. والأقسام المتبقية من دراسة لاووست تهتم بالحنبلية المتأخرة. اعتمد لاووست في دراسته هذه وبشكل كبير على كتب التراجم والسير ولم يعتمد على المصادر الأولية؛ ومع ذلك فهي تعتبر دراسة متقدمة قياساً إلى الزمن الذي نشرت فيه.

كما كتب لاووست عدة مقالات تتعلق بالحنبلية المبكرة في الطبعة الثانية من موسوعة الإسلام، ومن ذلك: «أحمد بن حنبل»، «حنبلية»، «البربهاري»، «الخلال»، «غلام الخلال»، «ابن حامد»، «الخرقي» و»المروزي» (المراد به أبو بكر المروذي، لكن لاووست أخطأ في كتابة اسمه). إن الملاحظ على دراسات لاووست ومقدسي عن الحنابلة هو اعتمادها منهجاً لا تاريخياً، حيث تجاهلوا التطور الذي مرّ به المذهب، ووجود تيارات مختلفة داخل المذهب. بل إن مقدسي انتقد غولدزيهر عندما أشار إلى وجود «حركات حنبلية».

وكما سبقت إلإشارة إليه في أول هذه المقالة، أن هذه الثورة في الدراسات الحنبلية لم تهتم بالحنبلية المبكرة إلا قليلاً. لاووست ومقدسي وتلاميذهما كانوا متحمسين للتأكيد على كون «العقلانية» جزءاً رئيساً في المذهب الحنبلي، ولهذا السبب فإنهم اهتموا بالعقلانيين وأشباه العقلانيين من الحنابلة من أمثال أبي يعلى ابن الفراء، وابن عقيل الحنبلي، وابن الجوزي، وابن تيمية. إلا أن المستشرق الأمريكي الشهير كريستوفر ميلتشرت (أستاذ الدراسات ال إسلامية في جامعة أوكسفورد) أوضح سبباً آخر يفسر قلة الدراسات الاستشراقية حول أهل الحديث والحنابلة المبكرين، فهذا التجاهل يرجع، حسب ميلتشرت، إلى طبيعة ومنهج كتب أهل الحديث، مقارناً بينها وبين الكتب المتسقة منهجياً مثل كتاب «الرسالة» للشافعي مثلاً. فالرسالة كتاب جذاب ومترابط منهجياً، لذا فإن العلماء لا يُلامون إذا أنفقوا وقتاً طويلاً في دراسته. كما أن المذاق الذي يقدمه كتاب «الرسالة» قد يكون عائقاً أمام دراسة كتاب غير مترابط منهجياً مثل «العلل ومعرفة الرجال» لعبد الله بن أحمد بن حنبل. إلا أن العلماء، كما يستدرك ميلتشرت، يجب أن لا ينشغلوا بقراءة كتاب «الرسالة» وأمثاله من الكتب الجذابة عن قراءة كتاب «العلل» ومؤلفات أهل الحديث الأخرى ويروا أنها غير مهمة. وهذه مهمة حملها ميلتشرت على عاتقه، كما سيتضح في المقالة القادمة.

* بريطانيا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة