Culture Magazine Thursday  17/11/2011 G Issue 352
تشكيل
الخميس 21 ,ذو الحجة 1432   العدد  352
 
الحقيبة تشكيلية
قال سلطان بن سلمان إنه علامة بارزة
الفنان عثمان الخزيم تعلَّم فنون الغرب وأخلص لتراث وطنه
إعداد: محمد المنيف

عرفته عن قرب، وسعدت بصحبته مشاركاً في بناء الساحة التشكيلية، واكتشفتُ في أول لحظة التقيته فيها أنني أمام مؤسسة فنية متكاملة العناصر، لا ينقصها سوى الدعم والتفعيل والاستفادة من عطائه الذي لا يقف عند حدود، أو يتراجع أمام أي مصاعب. فنان بمعنى الكلمة، التي يمثلها رقي التعامل، ديناميكي في مجاله، موهوب في الكثير من الفنون شعراً وكتابة، متمكن من تطويع قدراته لكل مجال ينضوي تحت مظلة الثقافة والفكر والعطاء الإنساني، متسامح إلى حد الابتعاد عما ينغص نظرته لجمال الحياة، تحمَّل الكثير من الصدمات في طريق محفوف بالمنافسات البعيدة عن الهدف الأسمى نحو أحقاد وضغائن، لا يسمح لأي منها أن يسكن وجدانه، أو أن يغير من مبدئه بأن الحياة عطاء قبل أن تكون أخذاً، وتسامح قبل أن تكون عداءُ أو تفريق شمل. مَنْ يقترب منه يجد مثالية الفنان الحقيقي والإنسان المسكون بحب الحياة بكل ما فيها، يملأ فراغ الروح بمشاعر الإخاء عند أي حوار، وعندما يتحدث في مجالات إبداعه يكسب الإعجاب. لديه مخزون ثقافي لا يصدأ، بقدر ما يزدان لمعاناً كلما أثير فيه أي موضوع أو قضية تلامس الفن والشعر وغيرها من منظومة الفنون والثقافة. يكفي أن قال عنه الأمير سلطان بن سلمان إنه علامة بارزة في الفن التشكيلي السعودي. ذلك هو الزميل الفنان عثمان الخزيم، الذي يمتلك زمام الخط العربي، ويعشق اللوحة، ويتنفس القصائد وكتابة المقال.. يمارس عشقه المباح فيها جميعاً. يسعدنا أن نمعن النظر في إبداعه الذي أعاده إلينا بعد توقف كاد يُفقد الساحة شيئاً من وهج تجربته، معتقاً من خلال معرضه الحالي في أتيليه جدة الحرية لمجموعة من لوحاته التي قال إنها تحمل جديداً في تجربته التشكيلية مع ما أضافه لها من بهارات في أمسية شعرية من قصائده.

بين الخط العربي واللوحة التشكيلية

يمتلك الفنان عثمان الخزيم قدرة كبيرة في تطويع الحرف العربي على أصوله وقواعده. برزت هذه القدرات خلال مراحل دراسته الأولية إلى أن وصل إلى معهد التربية الفنية؛ ليبدأ مرحلة أخرى من اكتشاف مواهبه الكثيرة؛ فكان له من العلاقة مع اللوحة الشيء الكثير، تلقى لها واكتسب سُبُل التنفيذ والمعالجة من معلمين فنانين، استطاع من خلالهم، وبما لديه من استعداد، أن يتفوق على ذاته، ويتجاوز مرحلة البدايات إلى ما هو أبعد، نحو إثبات الذات والحضور في المعارض والمشاركات التي تُقام خلال دراسته في المعهد.

العالم الجديد والثبات على الأصل

لم يستمر الفنان عثمان الخزيم على مهنة التعليم بعد تخرجه من المعهد؛ حيث فتح له نافذة على عالم الفنون الحقيقي وهو في مقتبل العمر شاباً يحمل الكثير من الطموح، وفي مجال انتهت بعد تخرجه من المعهد أي فرص لتطويره؛ فكان له أن انتقل إلى الإعلام مهندساً للديكور، سافر من أجله إلى إيطاليا، وحصل على دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة بفلورنسا 1980م. له سجل حافل من المشاركات وتمثيل المملكة في العديد من المناسبات الثقافية والتشكيلية. رأس لجنة الفنون التشكيلية بجمعية الثقافة والفنون (المركز الرئيسي) عام 1985م.

هذا التحول تجاه الغرب، وفي مهد الفنون، لم يغير في الفنان الخزيم علاقته بوطنه وهويته التي يستخلصها من قيم ومبادئ وتراث عريق وأصالة لا حدود لها؛ عاد بمكتسبات تقنية وثقافة واسعة الاطلاع، جعلها سنداً لإبداعه نحو المعاصرة والتجديد.

لوحات يتجلى فيها الخيال

لا شك أن من يشاهد لوحات الفنان عثمان الخزيم يطرح تساؤلاً حول الكيفية التي يتعامل بها مع إبداعه، وهو خريج أكاديمية في إيطاليا، عُرفت بالأعمال المشهورة في عصر النهضة وبفنانيها الواقعيين. قد يجد المحللون لأعماله الأكاديميون نقصاً في التكوين وضعفاً في معالجة الشكل، لكن الجميع يعود بقناعات كبيرة أن الفنان الخزيم قد جمع في مختزله البصري مختلف مشاهد الحياة بكل قياساتها ومقاييس الجمال المعتاد فيها، ثم تجاوزها بعد صهرها في أتون ثقافته ووعيه الفني إلى ما هو أبعد من زمن كان عليه الكثير من التشكيليين الذين بدؤوا معه في صناعة الساحة المحلية، غالبيتهم كانوا أقرب إلى المدارس التسجيلية منها إلى الوجه الآخر من معنى الفن وجماليات اللوحة المعاصرة.

مَنْ يدنُ أكثر من الفنان الخزيم يجده متعلقاً جداً بروح الطفولة التي ترى بعينَيْن أكثر اتساعاً، مستوعباً بها ما بعد المشهد في بيئته؛ ليحيلها إلى حالة تتناسب مع زمن الفن الحديث بما أضفاه عليها في إيطاليا من مشاهد أكثر دقة وحرفية أغنى بها وجدانه؛ فقدَّم إبداعاً لا زيف أو خداع. جعل من فرشاته نحلة تتنقل بكل هدوء على (بالتة) ألوانه دون ابتذال؛ لتنقل إلى اللوحة رحيقاً مزج مكوناته بخبرة محترف، وكأنه يردد مقولة فنسنت فان كوخ “الليل أكثر حياة وغني بالألوان من النهار”؛ فجاءت تلك اللوحات مفعمة بالألوان مثقلة بالخيال، تارة تضج وتلفت الأنظار، وتارة تخرج كمعزوفة ناي تشعرك بالارتياح وتجبرك على الوقوف احتراماً.

حضور محترم للمرأة في أعمال الخزيم

المرأة في أعماله لها مكوناتها وشخصيتها وكينونتها؛ يأخذ من المرأة الحقيقية، روحها ووجدانها، ويخرج لنا بنسائه هو، نساء يحملن أكثر من معنى، وأكثر من تعبير سيكولوجي، يصنع منها نافذة لما هو أعمق في مفهومنا للمرأة، أبعد من نظرة الإغراء أو الجاذبية. تارة يضفي شيئاً من الزينة تلميحاً وليس تصريحاً، وأحياناً أكثر غموضاً وتساؤلاً، يبعث الحيرة ويدفعنا للبحث بين ثناياها عن الإجابة. تأخذنا خطوطه اللينة إلى مسارات متعددة كرمال النفود، أو خصلات شعر مهرة تواجه الريح. لقد كان لخروج الفنان الخزيم من قيود العمل الفني الأكاديمي إلى عالم تشكيل اللوحة بإحساسه الحُرّ وخياله السابح في بحر من المعاني أن أوجد لديه مساحة من الاختيار خاض خلالها الكثير من التجارب، لكنه لم يغير من شخصيته التي عرفناها منذ أن لامست أنامله اللوحة؛ فهو لا يخون مشاعره، ولا يعاند أحاسيسه، بقدر ما يمنحها الفرصة للبوح وبصوت عال دون تردد؛ فأجبر النقاد على احترام مسيرته التي منحته البحث في إبداع يخصه، بروح شرقية، جمع فيها أضلاع ذاكرته من الطفولة والماضي القريب والحاضر، لا يمكن أن تفصل جزءاً عن الآخر؛ لهذا يجد المشاهد للوحات الخزيم عالماً من أنماط استعادة المواقف والمشهد؛ ليجمعها في شكل لا يتصل بالواقع تسجيلاً بل رموزاً وإيحاءات.

عفوية لا تخلو من الإتقان

المتابع لإبداعات الفنان عثمان الخزيم يكتشف أنه يتعامل مع اللوحة باصطياد اللحظة التي تتراءى فيها الفكرة دون سابق تكلف أو مخاض يمتد عند البعض فترات طويلة، لكنها لحظة الانتشاء وتلبية نداء القماش الأبيض، بتحريض من وميض مسرحية بزغت شخوصها من ثنايا الذاكرة، أو من رد فعل بعد مشهد مباشر، أو جملة عابرة من صديق، أتت طيفاً عبر الهاتف، أو في حديث ودي؛ ليجد نفسه بعدها وقد استسلم لسبل وأدوات تعبيره؛ ليتحول ساعتها إلى حالة من العلاقة الحميمة بينه وبين اللوحة، تنتهي بعمل يثير لديه إعجاباً، يدفعه لطرح التساؤل (كيف حدث هذا؟)، سؤال ينقلنا إلى تفسير هذه الحالة عن الفنان عثمان وأمثاله الصادقين مع إبداعهم دون تكلف أو تصنع، لا يعيرون اهتمامهم إلا لمن يعي مثل هذا المخاض.

حالات تنشأ بين الوعي واللاوعي، بين الحقيقة المتمثلة في اللوحة والفرشاة والألوان والفكرة التي حطت رحاله دون استئذان إلا من مرورها ببوابات العقل والوجدان .

هذا هو الفنان عثمان الخزيم كما عرفته وأعرفه ويعرفه الكثير غيري, عفوي العلاقة والإبداع، لكنه متقن لكل ما يقوم به عبر اللوحة، أو من خلال علاقاته مع الآخرين.

monif@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة