Culture Magazine Thursday  23/06/2011 G Issue 347
أقواس
الخميس 21 ,رجب 1432   العدد  347
 
حَمَام بريدة .. ويَمَام تونس
يوسف المحيميد
-

كأننا نقف أمامكم بحمامنا، بطوقه وأجنحته القصيرة، لنقول لكم شكراً أن منحتمونا هذا الحب، كأنها أشارت لي نحو ناشرها، المركز الثقافي العربي، فتبعتها مأخوذاً بهما، وكأنني أشرت لها صوب حمامي الذي لا يطير، فأبرقت بحمامها ذي الطوق، الذي أغوت بجماله «أبو ظبي» ففازت، وأغويت بحمامي الذي لا يطير أهل تونس، فأطلقوه مع يمامهم الحرِّ في شارع الحبيب بو رقيبة. كأننا، رجاء وأنا، نسير على ضفتي نهر السرد العظيم، ثالثنا الأبهى عبده خال، كل واحد يتنبه إلى سرِّه ويخفيه عن الآخرين، يخفي ما في شبكته من لؤلؤ وصيد، أحدنا يخرج من شباكه الأساطير، والآخر يأسر النهر بالحكايات والشعر، والثالث يرمي في النهر كنوز متصوفة العالم، كأننا نشترك في كشف جمال القبح، حتى يغدو القبيح جميلاً، كأننا نوشوش النهر إذ يسترخي كرجل عجوز كي يبقى، نهمس له عن مكة العتيقة، ووجل جدة، وغموض الرياض، عن المدن والتاريخ، كأنما نسير معاً ونلتفت كل فينة خلفاً لنرى ما إذا أعشب الربيع حول آثار خطواتنا.

معالي الوزير، سعادة الوكيل

لا أعرف ما الذي يفعله المحتفى به ولا ما يقوله في مساء كهذا، هل عليه أن يشكركما باسم زميلته واسمه، وباسم المبدعين في حقل الرواية في هذا الوطن، أن جعلتما المكان ينصت، ولو قليلاً، إلى السرد؟ أم أن يكون أنانياً قليلاً، ويشكر باسمه كل من وضعه على الطريق؟ فيعود إلى الوراء أسبوعاً واحداً، ليشكر وزير الثقافة التونسي ورئيس جائزة أبي القاسم الشابي للرواية ولجنة تحكيمها، التي جعلتني هنا أمامكم؟ أم عليه أن يعود مسافة أطول قليلا، مسافة ربع قرن مذ صدرت مجموعته القصصية الأولى؟ كي يشكر زوجته التي شاركته مراجعة المخطوطة في أسبوعها الأول من الحب؟ أم يعود أبعد قليلاً، حيث الطفل الذي لم يقرأ ويكتب بعد، مضطجعاً يتابع بقلبه الرفراف وبعينيه اليقظتين شفتي أخته الكبرى وهي تدفع الجيوش وتدير الحرب بمهارة وتلوِّح بالسيوف في سيرة عنترة العبسي؟ أم أخته الصغرى التي تقتني له كلَّ أسبوع كتاباً مستعملاً من مكتبة قرب البيت في حي الشميسي الجديد؟ أم أمه التي تدَّخر مالاً قليلاً كي يتسلى بكتاب شبه تالف خلال سنوات المرض الطويلة؟

ماذا يفعل المحتفى به في ليل كهذا، غير أن يضع يده على صدره ويقول لكم: شكراً. ولكن هل يكفي أن يشكر الأشخاص الذين أحاطوا نصّه بمحبة غامرة؟ أم يزيد فيشكر الأماكن أيضاً والطرقات، كالمكتبة العربية قبالة بوابة مستشفى الشميسي المركزي، ومكتبة مدرسية في حي المربع اقتحمها متلهِّفاً ذات صيف، ومكتبة عامة في شارع الوزير تقوده إليها حافلات خط البلدة الرخيصة، وجسر الملك فهد وهو يقوده كأفعى ناعمة ومتدربة إلى شارع المعارض بالمنامة، حيث ذخائر المكتبة الوطنية والأيام؟

ماذا يفعل المحتفى به في ليل كهذا، غير أن يهز رأسه ممتناً لكم ويقول: شكراً. شكراً لكل من مرّ أمامي وابتسم، لكل من أمسك بيدي وهمس في أذني باسم كتاب أو تفاصيل حكاية، لصديقي الطفل مشعل في الابتدائية أن خصّص دفتراً تعلمنا فيه شعر الرد الشعبي، لمعلم العربي الذي أجبرني مراراً أن أقف أمام زملائي كي أقرأ قصة لي منشورة في صحيفة، فأتلعثم وارتبك كثيراً، وتتقطّع أنفاسي، فيصفِّق لي كي أتماسك وأقرأ، شكراً للصحفي الذي دعاني في ردود القراء إلى أن أزور الجريدة، فأضع قدمي لأول مرة في حياتي داخل صحيفة، وأجلس أمام قلقه الكبير، فيسألني الجالس صالح الأشقر في مكتبه في الجزيرة: قهوة أم شاي؟ شكراً للذي نصحني بأن أقتني مجموعة «أحزان عشبة برِّية» من مكتبة خالد، كما لو كان يمنحني وصفة طبيب، وشكراً له أن قام الدوسري سعداً فصفَّق لقصتي الأولى «الظل» ورأى أن ينشرها في عكاظ، كي يكتب معها رأيه. شكراً للذي اخترع ميداناً فسيحاً لي ولجيلي، أسماه «أصوات» وتأمل ركضنا الجامح وهو يكتب على أوراقه في مجلة اليمامة شمال ميدان الفروسية بالملز، ويستلذ بقهوته المرَّة وسيجارته ويكتب «بين الصمت والجنون» ثم يوقِّع افتتاحيته باسم: محمد جبر الحربي. شكراً للذي ورَّطني ذات شغف في الصورة والشعر معاً، ومنح صفحة ملوّنة في خميس «الرياض» لعدستي وقلمي، باسم «فضاء البصر»، وقال له اذهب عميقاً في الضوء والظل، فكان أن راقت لسعد الحميدين اللعبة، وابتهج ذات خميس وهو يتلصص على أسرار «القارورة».

ما الذي يفعله المحتفى به في مساء كهذا، غير أن يبحث في الوجوه الكثيرة التي أشارت إلى الطريق، ليقول لها وهو يسلكه: شكراً. للذي قرأ مخطوطة «فخاخ الرائحة» وهاتفه ليلاً من لندن كي يخبره أنها رواية غير عادية، ويقترح أن يرسلها إلى رياض الريس في بيروت، وهو على ثقة بأنه سيرحب بنشرها، فلم يخب ظن عبدالله الناصر آنذاك، ولم يكن ثمة حلم أكبر من ذلك، أن تنتظر في قائمة النشر ثمانية أشهر، وتصدر بغلافها الجميل، دون أن يظن الواقف أمامكم، ولو مجرَّد ظنّ عابر، أن تطير بها الريح إلى نيويورك وباريس وروما، فذلك أغرب من حلم، وأوسع من نافذة.

كيف يمكن لمثله أن يقول شكراً للذي غامر مع نصه، وقضى سنة ونصف ينقله إلى لغة شكسبير، دون أن يضمن ناشراً أو وكيلاً، فاندهشا معاً ذات ليل وقد تهافت عليه ناشران، وكان موطنه الأبهى نيويورك، وأصبح البدوي طراد والسوداني توفيق واللقيط ناصر يطوفون بحكاياتهم الغريبة في أمريكا وأوربا، فبأي لغة أقول شكراً لمترجمي المغامر الأول أنتوني كالدربانك، وللمترجمين الذين جاءوا من بعده؟.

وهل تكفي شكراً لكل الذين احتفوا بنسخته الإنجليزية الأولى، حنان الشيخ وأوزو دينما وديانا أبو جابر ونورالدين فرح، كيف تطير شكراً بأجنحة من ذهب إلى الصومالي النبيل نورالدين فرح، وقد أخفى عنه ترشيح هذه الرواية إلى جائزة سويسرية مهمة، حاملاً ثقة كبيرة إلى أنها ستحصدها بجدارة، وكادت أن تفعل وقد بلغت القائمة النهائية، وحلَّت ثانياً، فابتسم الرجل الأسمر النحيل وهو يتأمل الطريق الشجري الطويل من مقعده بقطار بين نيويورك وبوسطن.

وربما لا تكفي شكراً أيضًا لمحرري في بنغوين السيد جون سيسليانو، أن تأبط مخطوطة «الفخاخ» من دار «آنكور بوكس» ونصبها في إمبراطورية «بنغوين» حتى اصطادت شغفهم، وشكراً له أن تأمل النص مراراً، ذلك القديس الشاب الذي لا يعرف من صخب نيويورك غير شقة صغيرة لا يوجد فيها تلفزيون ولا إنترنت، شكراً للحظة التي جمعتني بوعيه الحاد، وهو يطوِّح بيديه في حديقة عامة متبرماً من تلكم الثقافة السطحية المجانية. وهل من شكرٍ إلى وكيلي الأدبي السيد توماس، وقد قضيت معه ثلاث سنوات جميلة، اختلفنا واتفقنا، تعلمت خلالها أن الكتابة ليست لعبة، وأن النشر ليس مطابع الشريف في شارع الظهران بمدينة الرياض، تلك المطابع الصغيرة التي احتضنت مجموعتي القصصية الأولى «ظهيرة لا مشاة لها»، بل أن النشر عالم ضخم ملئ بالجواهر والحيتان، وحين تدلف عالماً هائلاً في شارع هيدسن، كهذه الدار الضخمة، عليك أن تعرف أن كل شيء فيك يُباع ويشترى، منذ كلمات نصّك المكتوب، وحتى صورتك الشخصية، مروراً بحواراتك ومحاضراتك، إلى الحد الذي تشعر فيه بأن ابتسامتك لها ثمن في عالمهم العجيب.

شكراً لكل ابتسامة أرخيتها على محيا قارئ عابر، ولكل مسحة حزن عبرت خفيفة على وجنات قارئة ما، ولكل غضب جاش في صدر، سواء مني أو من شخصياتي، فالمهم أن ثمّة ردة فعل تركتها هناك، في قلب كل منكم، بسمة أو حزناً أو غيظاً، ولعل الشكر يصبح واجباً لكل ناقد أو دارس عثر فيما نكتب ما يستحق الإشادة أو الانتقاص، فكل نص يحرِّض على الكتابة والجدل هو نصٌ حيّ، ولعلي أزعم بأنني أتلف ما يولد ميتاً من نصوصي قبل أن أجعلكم تتفرجون على ملامح جثته..

معالي الوزير، سعادة الوكيل.. أيها الحضور

اشكر حضوركم، ومنحي فرصة أن أتحدث باسم هذا الفن، الذي قد يقول لكم نيابة عنا، بأن الجوائز والتكريم له، ذات نكهة جديدة، حينما تأتي من الداخل، ولعل حضور سردنا في المحافل العربية والأجنبية يحرِّضكم على إقرار كل ما يدعم هذه الفنون، سواء في السرد أو في الشعر أو في مختلف الفنون المكتوبة والبصرية المختلفة.

* الكلمة التي قُدمت في حفل تكريم المحيميد الذي شرفه الوزير خوجة والوكيل الحجيلان في نادي جدة الأدبي.

-


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة