Culture Magazine Thursday  23/06/2011 G Issue 347
فضاءات
الخميس 21 ,رجب 1432   العدد  347
 
قلق المعرفة
عبدالله السعوي
-

تظل بنية الوعي - عندما يتعمق مستوى حساسيتها - مشغوفة بنهم تساؤلي لا يهدأ بريقه، وتظللها حالات من الحراك المفعم بالاستفسارات التائقة لاكتشاف المجاهيل وارتياد الآفاق السامقة التي يتعذر سبر أغوارها من غير قدح زناد الوعي وإذكاء أوار القدرة التحليلية وإشعال فتيلها. الذات المتوثبة تأبى الانصياع لسكونية اللحظة الحضارية؛ فهي تعيش حالة دائمة من الاستنفار المحفز لتناسل الأسئلة وبشكل تتابعي لا يتوقف لحظة إلا لكي يعاود هوايته المفضلة كرّة أخرى. هذا السلوك الإشكالي لا يَكلّ من حب الاستطلاع الفضولي - وهو فضول محمود لطبيعته المعرفية - الذي لا يخضع للإجابات المعلبة المصمتة بقدر ما يشتغل على مشاغبتها على نحو يبرهن على طبيعتها النسبية. الفضول المعرفي يوسع إطار المَلَكة التساؤلية، ويبث في العضلة الذهنية شعوراً متزايداً بالنشاط؛ فلا تسأم ولا ينتابها الفتور ولا يدب في أوصالها الملل، ولاغرو فقلق المعرفة يستبد بها, يسيطر على مساحتها, إنه قلق يعمق مستوى المحاكمة للأشياء، ويحمل على الرفض للركون إلى كل ما يتناهى إلى المَسمَع فلا يؤخذ الخبر/ الحكم بعلاته وبقضه وقضيضه وإنما يُعمل فيه مبضع الجراح فيجري شرحه وتفكيك مكوناته والنفاذ نحو ما ورائياته والوقوف - وعن كثب - على عالمه الميتافيزيقي. الكينونة القلقة لا يشفي غليلها أية جواب، ولا يُروي ظمأها أية تنظير، ولا يقضي على تطلعها أية حجة، إنها كينونة صعبة المراس، تتأبى على الترويض، وتتمنع على الانقياد إلا للحقيقة التي كثيراً ما تفرض على المرء تجشم ضروب من العناء للظفر بالقبض على ملامحها. الأجوبة لا تحدوها نحو الصمت بقدر ما تحملها على التفتق عن حزم من الأسئلة الحفرية التي تنم عن عمق توتر الوعي الذي لا يرضى إلا بالحضور الاستقلالي. ثمة ذوات مبرمجة على أولوية التماهي المطلق والانصياع الحرفي البالغ الإمعية؛ فهي تابعة لا تستقل برأي؛ إنها نتيجة لضعف الشخصية الثقافية، لا تتقن غير التكرار، ولا تجيد سوى الاجترار؛ فهي تُسلّم ولا تناقش، تنقاد ولا تعارض, تؤمّن على ما يُقال دون أن يكون لديها ما تقول، ولاشك أن مثل تلك الأجواء هي الأرض الخصبة لتنامي منطق التصنيم وتعاظم لغة التقديس. إن التربية القمعية هي التي تفرز مثل تلك الألوان التسليمية التي تُفقد الفرد فردانيته وتجعل منه مجرد مقلد مغرم بمنطق التماثل فيضمر لديه حس المقارنة، ولا ترد على ذهنه تساؤلات، ولا يخطر في بله أي صورة من صور النقد الذي لا يصدر إلا عن بنية مفعمة بالحيوية والامتلاء الثقافي.

إن من الملاحظ أن الثقافة الشعبية تتعاطى مع الأسئلة بحسبها تمظهراً ينم عن جهل كسيح وعن شح في المعرفة وتصحر ثقافي يحدو المتلبس به لإنشاء الأسئلة التي توفر إجاباتها تضئيلاً لمساحة الجهل وقضاء على جملة من عناصره، ونتيجة لتلك الرؤية العامة بات يتشكل انطباع سلبي عن كل نشء بادر بسؤال أو أفصح عن استفهام، فبقدر استفهاماته يكون جهله، ومن ثم تدني مرتبته في السلم الاجتماعي!

إن تلك الأدبيات اللامنطقية تفرض علينا الجنوح نحو تدشين أدبيات مضادة تحفز على صناعة الأسئلة العميقة وصياغة الاستفسارات التفكيكية؛ حيث يُفترض أن يُربَّى النشء على قدر من الشك الحادي نحو المعاينة الحفرية التي تخترق الكُنه وتنفذ نحو اللب، تتجاوز العرَض صوب المرض, لديها جهاز فلترة يغربل المعطيات ويحلل مكوناتها بعيداً عن ذلك القالب التربوي الذي لا يورث إلا لوناً من البنى المترعة بعناصر الانكسار والمفعمة بأشكال من ذلك السلوك الذي يستدبر الفعل مصطفياً الانفعال الدافع باتجاه السقوط في مستنقعات التكلس.

إن التساؤل الذي يجري إنشاؤه باستمرار وعلى نحو نوعي يطول جذور الأشياء ويبث الإضاءة في أغوارها لهو مؤشر جلي على نشاط ذهني خلاق، وعلى حراك ذاتي بالغ الفعالية.

إن التمعن في البنية العربية يسفر عن بنية تعاني كسلاً معرفياً حاداً؛ حيث يخيم عليها ضرب من الخمول الحائل بينها وبين إفراز الأسئلة على نحو توالدي؛ ما وسّع من مساحة المسلَّمات التي لا تملك أي رصيد من الصوابية, وضاعف من حضور عناصر العرف اللاموضوعي التي أخذت راحتها فخلا لها الجو, وبدأت تصول وتجول في ظل غياب السؤال كأداة كاشفة تهتك الاستار وتطيح بالتقاليد وتكسر المعهود الخرافي.

الفتور التساؤلي ضارب بأطنابه؛ فالمعاناة الثقافية ليست خياراً موجوداً، والإجابات النهائية المغلقة هي القالب المفضَّل لدى معظم الحالات الأُسَرية بل والأنظمة التعليمية؛ الأمر الذي قلل من صور التمحيص وآل إلى شيوع وضعيات من ضمور الحس التساؤلي الذي لا يحتفي بإلقاء الأحجار الراكدة بقدر ما يحفل بالمحافظة على الاتساق المصطنع والفاقد لما يبرره من معطيات.

كثير من الذوات هي عبارة عن نسخ كربونية مكررة؛ فالأفكار واحدة، وطريقة التفكير واحدة، وطريقة التعاطي مع المشكلات هي ذاتها يجري توارثها بطريقة آلية، ومن هنا لمّا يتحلى فرد مّا بفرادته فيروم التغريد خارج تلك الفضاءات فإن النسيج العام يتذمر, ينفر, ويعبر عن قدر كبير من الرفض, لماذا؟ لأن العادة جرت بالتماثل ووحدة النمط والخضوع لعوامل التنميط كافة!

الأجواء الجمعية في الغالب تضيق ذرعاً بمن يروم الانعتاق من برمجة الواقع وأَسْر مقتضياته وبمن يتمنع على التشكل والقولبة ويتعذر أن يحظى الفرد بكثير من القبول ما لم يكن مضارعاً للمحيطين به فيلتزم بمقتضيات المناخ السائد ويرتدي الزي التفكيري العام.

وحاصل القول: إن التساؤل كقيمة ذهنية تملي بواعث الحراك النهضوي لا بد من إعلاء سوية وتيرتها وجمهرة التلبس بها، وخصوصا في الأوساط التعليمية التي يخلق بها أن يكون التحفيز للتساؤل هو المَعْلم البارز في منظومتها؛ حيث يجدر أن تتخلص الأجواء التربوية من كل ما يمثل حالات الانطفاء التي يمثلها ذلك الطالب الذي يفغر فاه فيتلقف كل ما يُلقَى إليه؛ فهو مسالم لا يتقن سوى المصانعة, وفي المقابل يجب أن نعلي من قيمة ذلك الطالب المتسم بالمشاغبة المعرفية، ونحتفي بتلك الأسئلة الحادية لمراجعة معطياتنا والتمحيص في عباراتنا؛ فهذا اللون هو الذي يقدِّم إضافة معرفية بنائية ويستدرك علينا فيما تجاوزناه.

إن ذيوع مثل تلك الوضعيات هو الذي يكفل للأمة مغادرة الهامش نحو المتن؛ وبالتالي علو المكانة في ترتيب السلم الأممي.

-

+ Abdalla_2015@hotmail - بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة