Culture Magazine Thursday  29/12/2011 G Issue 358
ترجمات
الخميس 4 ,صفر 1433   العدد  358
 
رحيل أول أديب قاد ثورة وأصبح رئيساً لدولة في القرن العشرين
كيف ودع فاتسلاف هافيل السياسة وعاد للثقافة
ترجمة وتعليق: حمد العيسى

تقديم: توفي قبل أيام (18 ديسمبر 2011) بعد صراع طويل مع مرض السرطان الكاتب المسرحي والشاعر والمنشق التشيكوسلوفاكي السابق فاتسلاف هافيل عن عمر يناهز الخامسة والسبعين. ويعتبر هافيل مهندس إسقاط الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا السابقة إبان «الثورة المخملية» في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1989. وهو أول أديب يصبح رئيسا لدولة في القرن العشرين حيث تولى الرئاسة في تشيكوسلوفاكيا من 29 ديسمبر 1989 حتى 20 يوليو 1992 ثم رئاسة جمهورية التشيك من 2 فبراير 1993 حتى 2 فبراير 2003. وحاز الرئيس التشيكي السابق فاتسلاف هافيل على جائزة غاندي للسلام الرفيعة وتم اختيار هافيل لهذه الجائرة نظرا لإسهاماته حيال السلام العالمي والتزامه بحقوق الإنسان في أصعب المواقف من خلال انتهاجه لأساليب الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي. وبعد تقاعده من السياسة أسس «منتدى 2000» وهو مؤتمر عالمي سنوي يبحث في القضايا الرئيسة التي تهدد الحضارة المعاصرة ويستكشف طرقا لمنع تفاقم النزاعات العالمية التي يسببها الدين أو العرق أو الثقافة، وهو ما أهله بالتالي ليكون مرشحا لنيل جائزة نوبل للسلام. كما حصل هافيل على المركز الرابع في استبيان مجلة بروسبكت البريطانية عام 2005 في قائمة أهم 100 مفكر في العالم.

سيرة موجزة لهافيل

ولد الكاتب المسرحي فاتسلاف هافيل في براغ عام 1936. عُرضت مسرحيته الأولى «حفل الحديقة»، التي سخر فيها من النظام الشيوعي الشمولي، في 1963. منعه القادة الشيوعيون عام 1969 من ممارسة عمله كاتباً ومحرراً بعد قمع إصلاحات ربيع براغ عام 1968، واضطُر للعمل عاملاً يدوياً في مصنع بيرة. قاد حركة سلميّة عُرفت بالثورة المخملية ضد الحزب الشيوعي، وسجن عدة سنوات.

انتخب رئيساً لتشيكوسلوفاكيا في 1989 بعد انهيار النظام الشيوعي رغم أنه لم يكن سياسياً مخضرماً بل رجل أدب وفن. وبعد تقسيم تشيكوسلوفاكيا، انتخب رئيساً لجمهورية تشيكيا في 1993، وأُعيد انتخابه مرة أخرى في 1998. انتهت مدة رئاسته الثانية والأخيرة في فبراير 2003، ليتقاعد عن العمل السياسي. كتب العديد من المسرحيات والأعمال الأدبية قبل انتخابه رئيساً، كما حصل على تسع الثقافة الرقمية دكتوراه فخرية.

ألقى فاتسلاف هافيل الخطبة التالية وهي بعنوان «وداعا للسياسة» A Farewell to Politics في نيويورك في سبتمبر 2002 بمناسبة آخر زيارة له للولايات المتحدة الأمريكية بصفته رئيساً لجمهورية تشيكيا، ونشرت في «مجلة نيويورك لمراجعة الكتب» العريقة في 24 أكتوبر 2002.

صدر لهافيل 6 دواوين شعرية و22 مسرحية و9 كتب فكرية كان أولها «قوة الضعفاء» في عام 1985. كما صدرت مذكراته بالإنكليزية في عام 2007 بعنوان «إلى القلعة والعودة منها». وصدرت آخر مسرحية لهافيل عام 2009 بعنوان «الخنزير أو سعي هافيل لصيد خنزير». ومنذ عام 2004، ساند هافيل حزب الخضر التشيكي.

وفي الحقيقة كنت قد ترجمت ونشرت خطبة «وداعا للسياسة» قبل سنوات ولكنني وجدت من اللائق بعد وفاة هافيل إعادة نشرها كنوع من التأبين لهذا الأديب الكبير والسياسي العظيم. إنها خطبة جميلة، فيها الكثير من ما يندر وجوده مع رجال السياسة والأدب مثل: الصراحة العميقة والمكاشفة الجريئة والشجاعة الأدبية التي تكشف العيوب ونقد الذات، ودّع فيها هافيل السياسة ليعود إلى مهنته الحقيقية: الثقافة.

الخطبة: وداعاً للسياسة

لا أزال أذكر جيداً الحفل التكريمي الذي أقيم لدى وصولي إلى نيويورك في فبراير 1990 بصفتي رئيسَ تشيكوسلوفاكيا المنتخبَ حديثاً آنذاك. بالطبع، لم يكن ذلك الحفل لتكريم شخصي فقط، ولكنه كان تكريماً - من خلالي - لكل المواطنين في بلدي الذين تمكنوا بثورة سلمية من إسقاط نظام حكم مستبد، وكان تكريماً لكل الذين قاوموا معي أو قبلي هذا النظام بوسائل سلميّة. الكثير من محبي الحرية في العالم اعتبروا انتصار الثورة المخملية التشيكوسلوفاكية أملاً رائداً من أجل عالم أكثر إنسانيّة.. عالم يمكن أن يكون للشعراء فيه صوت مسموع مثل صوت أصحاب البنوك.

اجتماعنا اليوم، الذي لا يقل حميميّةً، يقودني إلى تساؤل منطقي: هل تغيرتُ بسبب الرئاسة خلال ثلاثة عشر عاماً تقريباً؟ وهل غيرتني التجارب الهائلة التي عشتها خلال فترة رئاستي التي تزامنت مع اضطرابات عالمية كبرى؟

وعند محاولة الإجابة على هذا التساؤل اكتشفتُ شيئاً مذهلاً. رغم أنه من المتوقع أن تكون هذه التجربة الغنية قد أعطتني الكثير من الثقة بالنفس، فإن العكس هو الصحيح. في فترة رئاستي هذه، أصبحتُ أقلَّ ثقةً في نفسي بصورة كبيرة، ومتواضعاً أكثر من ذي قبل. قد لا تصدقون ذلك، ولكن كل يوم يمر كنت أعاني من رهبة الجماهير، كل يوم أصبحُ أكثر خوفاً ألا أكون أهلاً لعملي، أو أنني سوف أشوِّهُ صورة الرئاسة. كل يوم تصبح ُ كتابة خُطَبي أكثر صعوبة، وعندما أكتبها أكون خائفاً جداً من تَكرار نفسي. كنت خائفاً من الإخفاق الذريع في تحقيق التوقعات، ومن أن أكشف عدم وجود خبرة لديَّ للرئاسة، ومن أنني - رغم نيتي الحسنة - سوف أرتكب أخطاء لا مثيل لها، ومن أن أصبح غير جدير بالثقة، وبالتالي أفقد الحق في ممارسة الرئاسة.

وبينما يبتهج الرؤساء الآخرون في كل فرصة يقابلون بعضهم أو أشخاصاً آخرين مهمين، أو يظهرون في التلفاز، أو يلقون خطباً.. فإن كل هذه الأمور كانت تجعلني أكثر خوفاً. في بعض الأحيان.. كنت أتفادى عمداً ذات الفرصة التي ينبغي أن أرحب بها بسبب الخوف غير المنطقي من أني سوف أُفسد هذه الفرصة، وربما أُضِرُّ القضية التي أسعى من أجلها. باختصار: أصبحت متردداً أكثر وأكثر.. حتى في أموري الشخصية. وكلما زاد عدد أعدائي.. أصبحت - داخل عقلي - في صفهم أكثر، وبذلك.. أصبحت أسوأ عدو لنفسي.

كيف يمكن أن أشرح هذا التغير، الذي لم يكن محتملاً، في شخصيتي؟ ربما أفكر في الجواب بعمق أكثر عندما لا أصبح رئيساً، وهذا سيحدث في فبراير 2003، عندما يكون عندي وقت بعد انسحابي وابتعادي عن السياسة والحياة العامة، وأصبح - مرةً أخرى - إنساناً حراً تماماً. عندها.. سأكتب شيئاً غير الخطب السياسية.

أما الآن، فاسمحوا لي أن أقترح سبباً من أسباب عديدة لهذا التغير في شخصيتي. عندما تقدمت في العمر، وأصبحت أكثر نضجاً، واكتسبت خبرة وفكراً أعمق، بدأت أفهم تدريجياً مقدار مسؤوليتي والالتزامات الغريبة المصاحبة للعمل الذي قبلته. وكذلك.. فإن الوقت يقترب دونَ رحمة من اللحظة التي لا يقوم فيها العالم والذين حولي - والأسوأ: ضميري - بسؤالي عن أهدافي ومبادئي، وماذا أريد أن أحقق، وكيف أريد أن يتغير العالم.. بل سيبدأون بسؤالي: ماذا فعلتُ عملياً؟! وماذا حققتُ من خططي؟! وماذا كانت النتائج؟! وماذا أريد أن يكون ميراثي السياسي؟! وما طبيعة العالم الذي سأتركه خلفي؟! وهكذا أجد الاضطراب الروحي والفكري نفسَه، الذي أجبرني على تحدي النظام الشمولي السابق ودخول السجن، يتسبب في أن تكون عندي شكوك قوية في قيمة عملي الذاتي، أو إنجازات الأشخاص الذين عينتهم وجعلت لهم نفوذاً.

كنت عندما أستلم الثقافة الرقمية الدكتواره الفخرية في الماضي، وأستمع إلى الخطب التي تمجدني في هذه المناسبات، أضحك داخل نفسي على كوني في أكثر هذه المناسبات أصبحت مثل بطل قصة أسطوريّة، مثل شاب يَضرب - باسم الحق والخير - برأسه حائطَ قلعة يسكن فيها ملك شرير حتى يسقط الحائط ويصبح هو بدوره ملكاً عادلاً سنواتٍ طويلة. لست أستهين بهذه المناسبات.. فأنا أقدِّر جميع الثقافة الرقمية الدكتوراه الفخرية التي حصلت عليها، وشعرت بتأثرٍ شديدٍ في كل مناسبة.

وإنما ذكرت هذا التشبيه، الطريفَ نوعاً ما، لهذه الأشياء؛ لأني بدأت أفهم الآن كيف أن كل شيء كان فخاً شيطانياً نصبه القدر لي! لقد نُقلتُ بين يوم وليلة إلى عالم الأساطير، ثم في السنوات التي تلت ذلك اضطررت للعودة إلى الواقع، وإلى فضيلة معرفة أن عالم الأساطير هو مجرد وهم إنساني، وأن العالم ليس مشيَّداً على نمطها. وهكذا، ومن غير أن أحاول أن أكون مَلِكاً أسطورياً، وبالرغم من أني وجدت نفسي مجبراً عملياً على منصبي من خلال مصادفة تاريخية كتلك.. لم أُمنح أية حصانة دبلوماسية من السقوط الموجع على أرض الواقع الصُّلْب.. سقطت من عالم المتعة الثورية الأسطوري إلى عالم الرتابة «البيروقراطية» الواقعي!

أرجو أن تفهموني جيداً! أنا لا أعني مطلقاً أنني خسرت المعركة، وأن كل شيء كان عقيماً. على العكس، العالم والإنسانية والحضارة يمران في أهم تقاطع في تاريخهما. لدينا فرصة أكبر من أي وقت مضى لفهم وضعنا وتناقضاتنا، وأخذ قرار في مصلحة العقل والسلام والعدل.. وليس لمصلحة تدمير أنفسنا.

لكي نسير في طريق العقل والسلام والعدل.. نحتاج إلى الكثير من التأمل، والمعرفة، والعمل الشاق، وإنكار الذات، والصبر، والاستعداد لمخاطرة سوء الفهم من الآخرين. وفي نفس الوقت نحتاج أن يعرف كل شخص طاقته ويعمل بمقتضاها، متوقعاً أن قوته ستزيد أو تنقص بموجب المهام الجديدة التي وضعها لنفسه. بعبارة أخرى: لن يكون هناك اعتماد على الأساطير، ولن يكون هناك اعتماد على مصادفات التاريخ التي ترفع الشعراء إلى أماكن إمبراطوريات وجيوش سقطت وزالت. أصوات الشعراء التحذيرية ينبغي أن يُصغَى إليها بعناية وجديّة.. ربما بجديّة أكبر من أصوات أصحاب البنوك وسماسرة الأسهم! لكن، وفي نفس الوقت، يجب ألاَّ نتوقع أن العالم عندما يحكمه الشعراء سوف يتحول إلى قصيدة!

ورغم كل ما ذكرته.. فإن هناك شيئاً واحداً أنا متأكد منه دونَ ريب: بغض النظر عن أدائي الدور الذي أُعطي لي، وبغض النظر عن كوني أُريده في المقام الأول - أو حتى أستحقه أم لا -، وبغض النظر عن مقدار رضاي الشخصي، أنا أعتقد أن رئاستي كانت هِبَةً رائعة من القدر. على الأقل حصلت على فرصة لأساهم في أحداث تاريخية خلال متغيرات عالمية كبرى. وهذه الفرصة العظيمة كانت - دونَ شك – تستحق كل الفِخَاخ المنصوبة خِفْيةً داخلَها.

والآن.. اسمحوا لي أن أحاول أن أبتعد عن نفسي، وأن أقدم صياغة لثلاثٍ من يقينياتي القديمة التي تأكدتُ منها خلال فترة رئاستي:

أولاً: لكي تنجوَ الإنسانية، وتتجنبَ كوارثَ جديدة.. فإن النظام السياسي العالمي يجب أن يصاحبه احترام صادق ومتبادل بين جميع الحضارات والثقافات والدول، وأن تصاحبه جهود صادقة من الجميع للبحث عن - والعثور على - المبادئ الأخلاقية الأساسية المشتركة، وبالتالي.. مزجها في قواعد عامة تحكم تعايشهم في هذا العالم الوثيق الاتصال.

ثانياً: تجب مواجهة الشر في مهده، ويجب استعمال القوة إذا لم يكن هناك خيار آخر. وإذا كان لا بد من استعمال الأسلحة المتطورة والمكلفة جداً؛ فيجب أن تستعمل بطريقة لا تضر بالسكان المدنيين. وإذا كان ذلك غير ممكن؛ فإن المليارات التي صرفت على هذه الأسلحة تكون قد ضاعت هَدَراً.

ثالثاً: إذا فحصنا كل المشاكل التي تواجه العالم اليوم، سواءٌ أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم بيئية أم حضارية؛ فإننا سوف نواجه - شئنا أم أبينا - إشكاليةً تتعلق بالعمل الواجب اتخاذُه: أهو مناسبٌ ومسئولٌ، من وجهة النظر العالميّة البعيدة المدى، أم لا؟

للجواب عن هذا السؤال.. لا بد من مراعاة المحاور الأساسيّة والعالميّة التالية: النظام الأخلاقي، وحقوق الإنسان، والضمير الإنساني، والفكر المنبثق عن هذه المحاور والذي لا يمكن إخفاؤه خلف ستار من الكلمات المنمّقة والنبيلة.

أصدقائي الأعزاء.. عندما أنظر حولي وأرى أشخاصاً كثيرين مشهورين، يبدون وكأنهم هبطوا من مكان ما في السماء العالية، لا أستطيع مقاومة الشعور أني في نهاية سقوطي الطويل من عالم قصة أسطوريّة إلى الواقع الصُّلْب أجد نفسي مرة أخرى داخل قصة أسطوريّة! ربما الفارق الوحيد هو أنني الآن أدرك هذا الشعور أكثر مما كنت أقدر عليه في ظروف مشابهة قبل ثلاثة عشر عاماً!

المغرب Hamad.aleisa@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة