Culture Magazine Thursday  30/06/2011 G Issue 348
فضاءات
الخميس 28 ,رجب 1432   العدد  348
 
«العلي» واهتماماته الفكرية 2/2
علي الدميني
-

الديمقراطية:

تأتي الديمقراطية على رأس قائمة من المفاهيم والآليات الحضارية والإنسانية، التي تحققت بأشكالها النسبية المتعددة في دول العالم المتقدمة، كاستجابة موضوعية لتشوفات الناس ونضالاتهم من أجل إرساء دعائم قيم: الحرية، والعدالة، والمساواة، والتعددية، وحقوق الإنسان.

وإذ غدت تلك العناوين خبزاً ثقافياً وممارسة اجتماعية يومية في الكثير من دول العالم، إلا أنها ما زالت غائبة ومغيبة عن عالمنا العربي، حيث لا نعرف عنها ومنها إلا مسمياتها الإعلامية.

وفي رسالته إلى السيدة «الديمقراطية» يتساءل: «كيف دخلتِ إلى اللغة العربية... من أي طريق، وعلى ضوء أي مصباح؟

(...)

يقولون إن البلدان التي ضربت فيها أطنابك، ناضلت طويلاً، وضحّت بدماء غزيرة، حتى وصلت إلى رؤية وجهك القمري.

هل هذا صحيح؟

إذا كان ذلك صحيحاً، فلماذا أتيت إلى اللغة العربية، وهي بلدان تريد الشهد، دون أبر النحل..؟» (العلي شاعراً ومفكراً - 126)

وفي نفس الصحيفة (الحياة ) نشر مقالة أخرى يصف فيها تحالف قوى اجتماعية محافظة، مع مواقف سياسية أشد محافظة ومكراً، للوقوف في وجه الديمقراطية أو للعبث بها، فيقول:» لقد أرادت الديمقراطية، كمفهوم حضاري وإنساني وأخلاقي... أن تعبر الحدود، فأوقفها الضابط المسئول عن المخفر اللغوي، والفكري، وراح يمطرها بالأسئلة: ما اسمك/ من أين أتيت/ ما الغرض من مجيئك/ ..الخ (....) وعادت إلى بلادها .. وهنا تنادى العقلاء العرب، وفكروا في خلق دمية خشبية كبيرة، وبعد ذلك البسوها ثياب الديمقراطية، ونشرت جميع الصحف من المحيط إلى الخليج صورتها، لإسكات تلك الأصوات..»!!( العلي شاعراً ومفكراً – ص 135).

(نعم.. ذلك ما كان يحدث في تلك المرحلة، ولكن هبة الشعوب العربية الجديدة مزّقت تلك الدمى الخشبية وصانعيها أيضاً، وبدأت أولى خطواتها نحو تعبيد طريق الديمقراطية، رغم كل الصعاب الممكنة!)

- الحرية:

«الحرية» كان عنوان مقالة نشرها في جريدة الرياض، ضمّنها صوراً متعددة لهذا المفهوم، بدأها بكلمة (أبو حيان التوحيدي) « الحرية إرادة تقدّمها رويّة مع تمييز». ورأى أنه بقليل من الخيال يمكن أن نجد في هذه المقولة جذرا للعديد من الصيغ الفلسفية عن الحرية، مثل:الحرية هي أن تتحرر من أفكارك أولاً (فاعلية النسيان)، والحرية هي أن تعترف بحريات الآخرين، وأن الحرية طور اجتماعي لذا فهي نسبية .الخ.( العلي شاعراً ومفكراً – ص 193).

وكما نعرف أن تاريخنا وتراثنا قد غيّب مثل هذه الفكرة عن معنى الحرية وسواها، وذهب لتأبيد ما أشار إليه د. زكي نجيب محمود من أن الحرية في تراثنا تُعرف بالمقابلة بين الحر والعبد؟

واتكاءً على ذلك يوجه «العلي» رسالة إلى «السيدة الحرية» في مقالة أخرى في جريدة الحياة، يقول فيها: «ألهذا يا سيدتي يصرّ الحكام العرب على الوقوف عند معناك ( الأصيل) العريق ذي الحسب والنسب؟ معتبرين أن ما يزخر فيك من المعاني والدلالات الكثيرة، ما هو إلا بضاعة مستوردة لا تعجب إلا الضالين:

حسناً:

لماذا نتفاخر باستيراد السيارات والقطار والطائرة وآلاف الأشياء الأخرى.. فإذا وصل الأمر إليك مدت الأصالة أعناقها؟!»( العلي شاعراً ومفكراً- ص 129).

ونأتي إلى المقالة الثالثة التي استوفت شروط الوقوف أمام هذا المحور، وعنوانها « الصراع الأبدي»، حيث كانت أكثر وضوحاً وتركيزاً على تطور المعنى التاريخي لمفهوم «الحرية» إزاء ما يجابهها من عقبات وتحديات.

وفيها، يبدأ بالمقولة المعروفة «الحرية وعي الضرورة»، والتي « لم يعرفها الإنسان إلا بعد أن راح وعيه يتوكأ على عصى أسمها الفلسفة..»

ثم يواصل: والحرية إذن « لم تكن ثمرة ناضجة يقطفها الإنسان كيف شاء... بل هي معاناة أزلية وأبدية.

والحرية تعني انعدام أي إكراه «خارجي»، ويوضح بعد ذلك أن «الإكراه لا يلتفت إلى الطبيعة، ولا إلى الإكراه الذاتي للإنسان، ولكنه يأتي من أنواع أخرى:

الشاعر يصارع اللغة..

والعالم يصارع القوانين الطبيعية..

والفيلسوف يصارع غياب المعنى..

وهذه الصراعات على عنفها.. تنتقل بالإنسان إلى الصعود على السلم الطويل من التطور.. إنها وعي الضرورة حقاً والتحرر منها على مهل.. ولكن هناك نوعاً من الإكراه يوقف هذا التطور عن الصعود.. ذلك لأن: السياسي يصارع تغير الناس (...) ويعمل على محاربة الوعي» (منبر الحوار والإبداع -مقالات خاصة- 18-9-2009م).

وبعد هذه الخلاصة لمقالاته تحت عنوان «الحرية»، يمكن لنا النظر من جانب آخر إلى دلالتين هامتين: أولاهما تؤكد أن تسلسل وتطور مضامين هذه المقالات هو أبلغ دليل على التحقق من صحة المفهوم الفلسفي «الحرية هي وعي الضرورة»، حيث إن الكاتب قد حاول تكييف حرية وعيه لاستي عاب شروط الضرورة القسرية، فعبر في الأولى المنشورة في جريدة الرياض بأسلوب التلميح والمواربة، وحين رأى سقف الحرية الأعلى في جريدة الحياة قام برفع درجة التحديد والتوضيح، رغم أن الجريدتين تصدران بتمويل رأسمال سعودي، ولكن المكان يحكم سقف حرية كل منهما!

أما المقالة الثالثة فهي الدلالة الساطعة على سطوة الإكراه الفوقية، حين تم منع نشرها في صحيفته الأثيرة «اليوم»، لأن كلماته كانت أكثر تحديدا وتوضيحاً لذلك المفهوم، وهذا ما يعبر عن دلالات تدخل المسئول الصحفي (كوكيل عن السياسي) في تقييد إمكانية تطور وعي الناس، ومحاربة ما يمكن أن يصلهم من كتابات تعبر عن ذلك الوعي.

- الحداثة:

أشرنا في الجزء الأول من هذه القراءة إلى أن العلي مثقف يصدر في كل كتاباته وإبداعه عن موقف تقدمي وحداثي واضح، ولكنه لم يكتب عن «الحداثة»: مفهومها، ومرتكزاتها، وغاياتها، وموقفه الواضح منها، بشكل يشفي الغليل (للأسباب التي أوردناها في فصل سابق)، ولكنه يتعرض لها في بعض حواراته الصحفية، أو مقالاته القصيرة، ومن ذلك ما أشرنا إليه آنفاً، وما عبّر عنه في ثنايا مقالات عديدة ومتباعدة أخرى.

وحول عصاب «الخوف من الحداثة» الذي اعتور طريق الكثيرين منا، يوضح في مقالتين متباعدتين بأن الجذور المكونة لمفهوم الحداثة ترتكز على العقلانية والترابط السببي بين الأحداث والظواهر ومسبباتها، وأن أجمل الإضاءات في تراثنا هي التي انبثقت من ذلك الجذر.

ففي الأولى التي عنونها بـ»البعبع» يعرض لبعض أشكال محاربة الحداثة في مجتمعنا بحجج كثيرة، منها أنها ضد العقيدة، ومنها أنها تقليد للغرب، ومنها أنها ضد التراث، ليرد على الذين يتبنون ذلك الرأي، بأنهم لا يعرفون حقيقة الحداثة، بل أنهم «لا يعرفون التاريخ ولا التراث، فالحداثة اشتقاق تراثي تاريخي يحمل كثيراً من المعاني المضيئة التي عرفها القدماء قبل قرون عديدة، فالحداثة بكل مفاهيمها (هي)أروع ما في تراثنا من إضاءات»..

لماذا؟

لأنها: «ليست ضد أي عقيدة، ولا تراث ما، إنها طريقة في التفكير ترفض التقليد، ولا تقبل شيئاً أو تتركه إلا بالتعليل» (العلي مفكراً وشاعراً - ص 19،20).

أما مقالته الثانية فكانت بعنوان «الخوف» حيث وجه خطابه فيها للخائفين من الحداثة قائلاً: «الذين يعتبرون الحداثة رجساً من عمل الشيطان، أولا ً لا يفهمون منها إلا جانباً واحداً، وثانياً لأنها ركضت في كل الحقول وتركتهم خارج التاريخ، ينظرون دائماً إلى الوراء..، وثالثاً لأنهم يعيشون تحت ظلالها، ويرتعون في ثمارها الناضجة وهم لا يشعرون، لأنها من صنع غيرهم»؟؟ (كلمات مائية – ص 432).

- حقوق الإنسان:

يحضر مفهوم حقوق الإنسان بما يحمله من مضامين عامة، كالحرية (الرأي والضمير) والعدالة والمساواة، والقبول بالتعددية..الخ، في الكثير من مقالاته، ولكنه لا يُعنى بالتركيز على تمظهراتها الحقوقية اليومية، كمطلب أو شعار، وإنما يشتغل عليها في أبعادها الثقافية العميقة.

ففي مقالته بعنوان «الحفر النفسية»، يعبر عن ابتهاجه لمساندة هيئة حقوق الإنسان في المملكة لمواطن طالب إحدى الشركات بتعويضه عما لحق به من أضرار نتجت عن سقوطه في حفرة أحدثتها تلك الشركة.

ثم يتكئ على ذلك الحدث لطرح هذا السؤال الشائك:» إذا كان علاج ما تسببه الحفر الأرضية سهلاً، وذلك بإلزام من يتسبب فيها.. بما يعادل الأضرار الناجمة عنها..فكيف علاج ما تسببه الحفر النفسية التي يقع فيها المواطن في كل ميدان من ميادين العمل وكل حقل من حقول النشاط الذهني؟»

(كلمات مائية- ص 29)

وفي ثلاث مقالات متتابعة بعنوان «لنفترض» يعالج هذا الموضوع من زوايا عديدة، لغوياً وثقافياً وفلسفياً، حيث يرى أن أهم نقاط الاختلاف حول مفهوم (حقوق الإنسان) بيننا وبين الغرب تكمن في أننا «نفهم أي مفهوم نقتبسه فهماً لغوياً في حين أنه مفهوم ثقافي وتطوري، أنتقل عن معناه اللغوي بمسافات». ويضرب مثلا ًبالتالي: «حرية التعبير وحق التعبير، لا نرى لها ظلالاً في ثقافاتنا.. ما نراه فيها يقتصر على حقلين: الحقل الفقهي الذي يوضح الأحكام المتعلقة بالحر، وتلك المتعلقة بالعبد!.. والحقل الآخر هو الحقل الكلامي، المعتزلي بالذات، الذي يعتبر أن الإنسان حر في أفعاله».

ويناقش قول الدكتور القرضاوي بأن حرية التعبير تدخل في باب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وما يردده آخرون من أن الإسلام قد سبق الديانات والحضارات الأخرى في تبني مفهوم حقوق الإنسان، بقوله: «لا شك إن الإسلام قد كان سباقاً على تأكيد كرامة الإنسان. ولكن الاختلاف ليس في السبق أو التأخر.. الخلاف في أن مفهوم الحقوق ليس مفهوماً ثابتاً.. إنه مفهوم يتطور بتطور النمو المعرفي والقانوني.. فهل تطور هذا المفهوم في ثقافتنا؟».

وقبل أن يحدد الإجابة عن ذلك يطرح سؤالاً آخر: «هل هذه الحقوق طبقت، وتحولت إلى أسلوب حياة في مجتمعنا طوال تاريخه؟

الجواب هو لا.. باستثناء فترة الرسالة والخلافة الأولى.. أما ما عدا هذه الفترة القصيرة فنرى سحقاً مطّرداً لهذه الحقوق.. وإذاً فذلك المفهوم لم يتطور، لأنه لم يطبق.»(كلمات مائية - ص 544). أما في مقالته «شروط الوجود» فإنه يحلل البعد الفلسفي والحضاري لمفهوم حقوق الإنسان، قائلاً: «قضت الفلسفة قروناً طويلة، وهي تبحث عن الوجود وفي الوجود، وكانت كلما حاولت اصطياد فكرة تطمئن إليها أصطدم رأسها بجدار الميتافيزيقيا.. وحين نضجت الحداثة قليلاً، قليلاً.. أخرجت الفلسفة - بحسب أنطون مقدسي - من نفق البحث في الوجود إلى البحث عن (شروط الوجود) وهذه نقلة مهمة في الفكر البشري والوعي الإنساني».

ويشير بعد ذلك إلى أن هذا التطور في العالم، قد جعل من الحداثة باباً لقفزة كبرى في سبيل توجيه الوعي إلى شروط الوجود، التي انعقد إجماع المجتمع الدولي على أن « حقوق الإنسان» أحد أبرز شروط الوجود، ومضى إلى التصديق والالتزام بتطبيق بنود ميثاقها الذي يبدأ بهذه العبارة: «يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وُهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء».

(كلمات مائية – ص 217)

- التعددية:

بعد أن يستشهد في هذه المقالة بتعريف القاموس الحديث بأنها: نزعة فلسفية ترمي إلى تفسير الوجود والسلوك والمعرفة في ضوء مبادئ متعددة، وتقابل «الواحدية» في الرأي، يتوقف أمام الفقيه الفيلسوف «ابن رشد» الذي اعتبره أول من طرح مفهوم التعددية طرحاً عقلانياً لأنه انطلق «من نقطة واضحة هي أنه ما دام ( التأويل) أي تعدد القراءات للنص مشروعاً، فكل ما يفضي إليه من تعدد الوصول إلى معناه، فهو مشروع كذلك.. ومعنى هذا أن جميع الاختلافات مشروعة، ولا يجوز لأحد أن يعتبر فهمه الخاص هو الصواب، والآخر على خطأ» (كلمات مائية - ص 221).

وكما نعلم، فإن هذا الرأي الذي ينتمي إلى جذور المعرفة العقلانية في تراثنا قد حورب في حواضره العربية والإسلامية، بينما استقبل بالترحاب في محاضن الثقافة الأوروبية، وغدا أحد مرتكزات ثقافة التنوير والنهضة فيها، أما نحن فقد بقينا أجيالاً خلف أجيال نتقاتل حول هوامش التأويلات والاجتهادات التي كان ينبغي علينا قبول تنوعها وتعدديتها كآراء فردية مدنية لا تلزم إلا من أراد الأخذ بها لنفسه، دون إكراه للآخرين على قبولها، وهو ما كان يمكن أن يصبح عامل إثراء للثقافة وللفكر الإسلامي.

ويختتم «العلي» مقالته -كعادته- في استثمار دلالات الأسئلة الساخرة والحارقة معاً: «التعددية ببساطة هي الحرية.

والذين يعادون الحرية كثيرون

فهل أنت منهم؟؟»

-

* الدمام

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة