Culture Magazine Thursday  30/06/2011 G Issue 348
فضاءات
الخميس 28 ,رجب 1432   العدد  348
 
المقالة بين الهواية والحرفة والسلعة
د. شاهر النهاري
-

والمقالة هي ابنة شرعية للصحافة نشأت معها، وتربت بين أحضانها، وترعرعت وازدهرت وسادت في زمن طغيان الفن الصحافي، وسيطرته على الذائقة والمفهوم العام في معظم المجتمعات المتحضرة.

وهي تنقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسة الأول، هو المقالة الذاتية: وهي التي تكون عبارة عن مقطوعة نثرية تحتوي على أدب وجمالية من نوع مخصوص، ببديع وجناس وطباق ومقابلة وخيال وصور، وبما يزيد عن ذلك من معلومات بسيطة يتم جمعها وتجسيدها بذكاء ومشاعر وفهم كاتب المقالة، ونفسيته، تعبيراً عن ذاته، وتكون مرتبطة به وبتراثه ومعتقداته، وتمثل وجهة نظره الخاصة.

وقد يكون هذا النوع من المقالات في عصرنا هو البديل المناسب للمقطوعات الشعرية الروحية المعبرة عن الذات، والتي كانت سائدة في الماضي، لكونها تؤدي نفس الغرض منها مثل بث الحماسة بين الشعوب، والفخر، والمديح، والهجاء، والتأسي، والبكاء على الأطلال، والغزل، والوصف، والرثاء والحكمة، والاعتذار، وغيرها.

والنوع الثاني، هو المقالة الموضوعية: وهي، التي تكون جادة فيما ترمي إليه، قليلة المشاعر، وتكتب برصانة وموضوعية حيث يعتمد فيها الكاتب على استقراء بعض علوم وتجارب وتاريخ ومعارف الآخرين، ويكون بمقالته مجرد ناقل للحدث بدقائقه ومعطياته وتداعياته، مضفياً عليه وجهة نظر قد لا تكون ملزمة. وهذا لا يُعتبر بحثاً علمياً، لأن البحث يتطلب ويلتزم بما هو أكثر من ذلك بكثير، من جهد ومعلومات وعمق، وإحصاءات، وتجارب، قد تطول، وتتشعب وتختلف وتتباين نتائجها.

فنجد أن كاتب المقال الموضوعي قد يكتب لنا عن نتائج بحث علمي استمر لعدة سنوات، وهو بفهمه العام وبقدرته على الاستيعاب والتلخيص، وتميزه في النقل، يتمكن من عرض البحث على القارئ، وإيصال ملخص الفكرة ونتائجها من خلال مقالة بسيطة. وكذلك الحال حين يقوم بسرد تاريخ معين، أو أحداث عسكرية بشكل غير محقق.

وعلى ذلك فالمقالة الموضوعية، تحتوي على ما لا يمكن أن تحتويه المقالة الأدبية الذاتية من أدبيات، ولا ما نتوقع أن تحتويه القصيدة أو القصة أو المسرحية، من أدوات ومعلومات وأرقام ومصطلحات ومعطيات مختلفة، ولكنها ورغم صعوبة محتواها تصل إلى ذهن المتلقي ككبسولة مركزة، أو جرعة ثقافية مبسطة دون عناء يذكر، وهي بنفس الوقت لا تحتاج من القارئ إلى طقوس مختلفة، ولا إلى قدرات معينة لاستيعاب الفكرة والذائقة ومحتواها النظري العلمي، ويمكن له أن يقرأ المقالة، ويستوعب ما فيها من معلومات حتى أثناء انتظاره في محطة الحافلات.

وبعض من هذه المقالات تكون علمية رصينة، ومحققة، ببعض المراجع، وقد يستشهد بها علمياً ومرجعياً.

والنوع الثالث، هو: المقالة العلمية البحتة، وهي التي تتحدث بلغة علمية جادة، وبمصطلحات علمية، ولا يقرأها إلا المختصون في هذا النوع من العلوم، ولها شروط عديدة، ومسارات دقيقة، لا تحتمل الشكوك أو الأمنيات.

وقد يظن البعض أن المقالة تكتب كيفما أتفق وبدون منهجية وترتيب، ولكن عكس ذلك هو الواقع، فمن الضروري أن يكون للمقالة مقدمة تمهيدية مبسطة يتمكن الكاتب خلالها من تهيئة القارئ لاستيعاب ما سيكون في متنها، وهو الوسط حيث يتم شرح نقاط الفكرة الرئيسة للمقالة، ثم يختتم بالنهاية، التي لا تخلو من عملية تركيز للمعاني، وتلخيص، وسرد للنتائج، وإبراز للحبكة الرئيسة بشكل قريب لفهم القارئ.

وكثير من الكُتّاب الصحفيين يتعامل مع المقالة الذاتية أو الموضوعية على أنها واجب ومهنة يومية، وهنا تقع المعضلة في إمكانية ذلك، واستمراريته، وجدواه على المدى البعيد، فيُجبر الكاتب فيها على استنطاق الحروف، والبحث جاهداً عن منطقة مثيرة للانتباه ينتقيها من بين الأحداث الآنية والأخبار والمشاهدات، ويُركز عليها، ويثريها بالبحث، ويجعلها محوراً لمقالته، ويحاول ببديع بيانه وفكره إقناع القارئ بأهميتها العظيمة، والتي قد لا تكون موجودة بالضرورة، مما يجعل المهنية، والحرفية تسيطر على روح المقال، وتظهر المحتوى بشكل صلد لا روح فيه ولا طعم، كما أن الأمر حينها لن يخلو من كثير من التناقضات، والكثير من الهفوات، وقد يشوبها الكثير من النقص والتحوير والتشويه، حسب فهم وثقافة ونفسية الكاتب، وحسب نوعية الضغوط العملية، التي يرضخ لها.

ومما هو معلوم أن الكثير من الكُتّاب الصحفيين يتعامل مع المقالة كمهنة يقوم من خلالها بتبني أفكار مؤسسته وتوجهاتها مهما تطرفت دينياً أو سياسياً أو فكرياً أو اجتماعياً، والدفاع عن عوجها مهما كانت غير مقنعة لذاته، فيعود بذاكرتنا إلى ما يشابه نوعية قصائد شعراء المديح، الذين عرفوا على مدى التاريخ بالكذب العيان البيان، وبلي أعناق الأفكار، وبعبادة الدينار، وبأنهم ممن يتمكنون بملامح جامدة من تمجيد من أقرعوا في تجريحهم بالأمس، بكلمات لا تعرف الحياء، ولا التعقل والمنطق.

بينما نجد على الجانب الآخر الكاتب الحر الهاوي، وغير المجبر على تمرير مقالة في شكل أو حجم أو زمن معين على قدر كبير من الإقناع، والجدية، والعقلانية، والتمازج مع روح المقال حيث نشعر بلمساته وذات روحه تنطق من خلال حروفه، وأنه يشعرنا بأنه قد أثَّر فينا أيما تأثير، وأننا قادرون على تمييز أمانة صدقه وقرب مشاعره بعفوية وصدق وتمكن.

وبزيادة نسبة التعليم من حولنا، وتبعاً للنهضة الصحافية المصاحبة للطفرة الاقتصادية، وبناء على تيسير وسهولة أدوات مراجعة النصوص يدوياً وإلكترونياً، وتعديل عوجها وتشكيلها، فقد تكاثر كُتّاب المقالة في الآونة الأخيرة، حتى أصبحوا ينافسون الشعراء الشعبيين عدداً وتواجداً، وهذا إن نظرنا له من الناحية الإيجابية فإنما يدل على ارتفاع نسبة المعرفة والثقافة، وتنامي الحرية الشخصية والقدرة على التعبير، ولكنه في نفس الوقت يدخل القارئ في حيرة التحقق والانتقاء، والمتابعة. وما من شك في أن الزمن، والذائقة، والثقافة لدى القارئ كفيلة بمساعدته على تنقية هذا الكم الهائل من كُتّاب المقالة، وتحديد التميز بينهم فيما يكتبون، وفيما يحاولون إيصاله من ذواتهم للمجتمع المحيط بهم، وفي مدى مصداقيتهم، أو كذبهم، وماهية الضغوط، التي يقبعون تحتها.

والكتابة بشكل عام شيء يدعو للتفاؤل، فمن يكتب لا بد أنه قد مر بمرحلة القراءة والجمع، وأنه على قدر كبير من الثقافة، وهو بلا شك يسعى لتطوير ذاته، وأنه يمتلك الشجاعة لأن يبوح بما يجول في خاطره، ويعبر عن شريحة أو أكثر من شرائح المجتمع، ولكن الخوف كل الخوف أن يصيب المقالة ما أصاب الشعر الشعبي في زمننا الحالي، من هبوط معنوي وإسفاف، ومن تدنٍ وإقلال في القدر، نظراً لطغيان المادة والحرفية على تلك المهنة، وبناء على تبدل نظرة المجتمع لقدر ومكانة الشاعر، ولهجوم أصحاب رؤوس الأموال على هذه المهن للبحث عن الظهور الاجتماعي المُجمل ببريق الثقافة والبروز، ولنيل مزيد من الشهرة الزائفة والنجومية المكذوبة، فتصبح المقالات تُباع وتُشترى، وربما تتغنى بها الحناجر، لمجرد وضع الاسم الذهبي عليها، وسد عين الكاتب الفقير بحفنة من الدنانير.

فلا نعود نعرف في سوق النخاسة مَن يكتب ومَن يبيع.

-

* الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة