Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
ذكريات شخصية
تريفور ليجاسيكْ

 

من النادر أنْ يلتقي المرء بشخص يكتشف فيه سريعاً أنه ذو قدرات وصفات رائعة. هذا كان انطباعي المبكر يوم عرفتُ سلمى، ومنذ ذلك الحين لم يزل انطباعي هذا يتعزز باستمرار. تعود صداقتي مع سلمى لسنين طويلة خلت، لعلها حقيقةً تزيد على نصف قرن، منذ كنا تلميذين على مقاعد الدراسة معا في منتصف خمسينيات القرن العشرين في برنامج دراسات اللغة العربية في مدرسة العلوم الشرقية والأفريقية، جامعة لندن. في ذلك الحين، كانت سلمى قد نشرت عددا طيبا من قصائدها. وكانت يومها زوجة لدبلُوماسيٍّ أردني، وأماً لثلاثة أطفال، وتلميذةً في الدراسات العليا، بينما لم أكن، أنا، قد تخرجتُ من الجامعة، بل كنت في بداية دراستي للغة العربية، عائداً للتو من الخدمة العسكرية الإلزامية في البحرية الملكية البريطانية. وبالرغم من تفوقها ومن صغر سني نسبيا وقلة خبرتي، فقد صبرتْ عليّ وقتا وجهدا في مساعدتي في دراستي للغة العربية. كانت قراءاتُها الجميلةُ لي من الشعراء الجاهليين الذين كنا ندرسُ عنهم دافعا لي على حبِّ اللغة العربية. ولولا ذلك ما كان لي أن أبلغَ ما بلغت. كان ذلك الزمنُ زمنَ توترٍ وأزمةٍ بين بريطانيا العظمى والعالم العربي، وكان، بلا شك، عاملَ ضغطٍ هائلٍ على سلمى، المثقفة العربية المعروفة، زوجة الدبلوماسي. وكان بروز جمال عبد الناصر بين القياديين العرب من خلال تأميمه الجريء لقناة السويس قد خلق جوا شديد التفجر. أما التآمر المفضوح بين بريطانيا وفرنسا في حثِّ إسرائيل على مهاجمة مصر وتدمير جيشها في سيناء، وتمترس قواتها قريبا من القناة، فقد أتى بأزمة كبيرة، أزمة شعرنا بها أكثر من موقعنا في لندن، محور الوضع الدولي السياسي المعقد. كان في ذينك الوقت وفي ذلك الجو أن سلمى أصبحت أول فلسطينية عرفتُها جيدا؛ ومنها أساسا تعرفتُ على الفاجعةِ الإنسانية في الصراع المرعب الذي شهدته سلمى على مدى أيام شبابها. وبطبيعة الحال، أُضيفَ إلى هذه الفاجعةِ المحلية والعربية عموما أبعادٌ على أهمية كبيرة للعالم بكامله. بعد انتهاء دراستنا في الجامعة، قلَّتْ فرصُ اللقاء بيني وبين سلمى، ولكنني كنت أسمع عن أطروحتها الجامعة المانعة للدكتوراه عن الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث. إن هذا السِّفرَ المكوّن من جزئين اثنين، الناتج عن سنوات طويلة من الدراسة، والدالَّ على فهمها المتميّز للأدب وإحساسها الفني الدقيق، لهو أفضل عمل ظهر حول الموضوع في أية لغةٍ أوربية حتى وقتنا هذا. وفي السنوات الأخيرة، بعد فترة تدريسها في الولايات المتحدة، أصبحت الدكتورة سلمى الطاقة الرئيسية التي تقدم الثقافة الأدبية العربية للعالم الغربي. عام 1980، انضمت إلى جامعة مِتشِغَن حيث دعوناها لأخذ زمالة سنة أكاديمية لدراسةٍ غير محدودة، فنتج عنها بدؤها في مشروع بروتا (مشروع الترجمة من اللغة العربية). وقد كان في تلك السنة أننا، هي وأنا، صرفنا عدة أشهر في ترجمة رواية إميل حبيبي، الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، وهو العمل الرائع الذي ألقى الضوء على حقيقة الحياة في فلسطين المحتلة لمن بقي من أهلها العرب الذين فُرضت عليهم شبه «مواطنة». وهي رواية متميزة بروحها التهكمية الساخرة المرة، وببطلها الأبله الساذج الذي لا يملك المرء إلا أن يُحبّه. وقد حظيت هذه الرواية باهتمام دولي وعدد كبير من القراء، مقارنة بأي عمل أدبي عربي حديث مترجم. انطلاقاً من هذا النجاح، مضت سلمى قُدُماً للبدء بمشروع «بروتا»، ولتتبنى من خلاله موجة من تراجم أعمال عربية إلى اللغة الإنكليزية لمختلف المؤلفين والبلدان، طالبة لهذا العمل تعاون الكثرة من الباحثين والمترجمين الموهوبين، ومنهم بعض أعضاء أسرتها الأقربين. وقد تبدى سحر شخصيتها وقدرتها على الإقناع في مهارتها في إقناع الكثيرين للتعاون معها في تمويل تلك الأعمال ونشرها. وتتميز كل هذه الأعمال بلغة إنكليزية راقية، وهو نتيجة العناية في انتقائها النصوص ومترجميها، وفي الجهد التي تبذله للتأكد من دقة الترجمة وحسنها ومن دقة التحرير والعرض. أما معاييرها، فقاسية جدا؛ ذلك أنها مصممة على ألا يرتبط اسمها إلا بالأعمال الراقية. أضف إلى ذلك أنّ سلمى كرّست بصدقٍ حياتها كلها لتنمية معرفتها للأدب العالمي. وإن هذا الاتساع المعرفي لديها، وذكاءها وتميز ذوقها، هو ما أتاح لها أن تتحرك بمصداقيةٍ في الدوائر الأدبية والأكاديمية الغربية العليا. وما من شك في أن اللجنة الإسكندنافية وأعني اللجنة الفنية في أكاديمية نوبلْ اعتمدت كثيراً على خبرتها وذوقها في جائزة الأدب التي منحتها لنجيب محفوظ عام 1988. أما الناشرون الغربيون الكبار، فقد ضمنت شخصيتُها المحببةُ، وثقتُها بنفسها، وصفاتُها الفكريةُ رغبتهم في التعاون معها في إنتاج أعمال بحثية حقيقية، وأخرى مترجمة. منها ذلك السِّفرُ الذي تولّت تحريره وإعداده عن إسبانيا المسلمة الذي جاء في 1100 صفحة واحتوى على إسهامات راقية في مواضيعَ مختلفة واسعة. إنه لسِفرُ رائعٌ جداً، مليءٌ بالدراسات العميقة التي كتبها باحثون عالميون محترمون. وقد أسهمت فيه بدراستين مسهبتين عن الشعر العربي في الأندلس، بالإضافة إلى المقدمة ذات المستوى الرفيع. لقد لقيت إنجازاتُ سلمى حديثاً اعترافاً بالفضل من لدن العالم العربي كله لتكريس نفسها تكريسا لا يني لتقديم الحضارة العربية للقراء في العالم. وإنّ إنجازاتها في هذا السياق لا منافس لها حقا. ولا ريب في أن هذا الالتزام المتجرد لقضية فلسطين والأدب العربي ينبع في الأصل مما يكمنُ في نفسها من اعتزاز وحب لآبائها وأبنائها وموروثها الحضاري القومي. أما ما هو أقلُّ اشتهارا، فنجاحُها على المستوى الإنساني والشخصي. إن في ذاتها ما يوحي بالمحبة الحقيقية لمن حظي بمعرفتها حقّ المعرفة. فالاعتزاز والمحبة لدى أولادها وأحفادها نابعان من فرحها بهم فرحاً يعكسه اهتمامها بهم وتضحيتها لهم. بيد أن تقدير سلمى ومحبتها للآخرين تجوز أسرتها وأمتها فتعكسهما صداقتُها الصدوقُ لأناس في جميع أنحاء العالم. فكما هي عربيةٌ ملتزمةٌ بقضايا العرب، إنها حقا «عالمية». وبطبيعة الحال، إنه لامتيازٌ عظيمٌ لي أن أستطيع اعتبارَ نفسي وأسرتي من بين أصدقائها الأقربين لسنوات طويلة خلت.

أستاذ كرسي اللغة العربية، جامعة مِيتشغَان

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة