Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
المرأة التي تحمل عشر بطيخات بيدٍ واحدة
د. إليزابث هُودْجْكينْ

 

كتبت سلمى تقول، «أحمل عددا غير قليل من البطيخات بيد واحدة، وهو ما يرعب غيري، لكنني لا أبالي، بل على العكس، أستمتع به وأحبه» في رسالة إلكترونية كتبتها لي في يناير 2010م.

إن ذكرياتي الغنية عنها ليست بالنسبة لعملها الكبير تبلغ حجم بطيخة واحدة، إنها ببساطة شريحة صغيرة من بطيخة واحدة في الفترة ما بين 1970 و1973، حين كنا، سلمى وأنا، أستاذتين نحاضر في جامعة الخرطوم. أظنها كانت في ذلك الوقت تحمل ثلاث بطيخات بيد واحدة: التدريس والكتابة والناس - الأسرة والأصدقاء والتلاميذ. ومنذ ذلك الحين، ازدادت البطيخات عددا كبيرا بتأسيس «بروتا» في ثمانينات القرن الماضي. أحيانا (ذات يوم عددتها) كانت تستطيع موازنة 13 بطيخة بيد واحدة - ولم تكن تلك بطيخات صغيرة، بل كبيرة: كتب عن إسبانيا، وعن الشعر، والمسرح، والمدينة، كتب تغير الفكر والرؤى. مع هذا، ما أشده من إهمال مؤسف، وما أسوأها من جريمة أقرها تواضعها الذي جعل هذه الشاعرة تُشيح بوجهها عن إصدار شعرها في سبيل التعريف الأوسع بالحضارة العربية، كما هي في كتابات الشعراء والكتاب الكبار الآخرين... ذات يوم في ممرات جامعة الخرطوم، وذلك قبل أن رأيتها، سمعت أعضاء التدريس في الدائرة العربية يتكلمون عن تلك الشاعرة والكاتبة الفلسطينية المشهورة التي جاءت للتدريس في الجامعة. يا له من مكسب! ثم رأيتها في مكتبها تعمل، لكنني، طبعا، شعرت بالحرج أن أقدم نفسي إليها، حتى بادرتني هي، بأريحيتها الطبيعية، بأن عرفتني بنفسها. هكذا بكل بساطة. في الخرطوم، كانت دائما محاطة بأشهر البحاثة والشعراء. وبطبيعة الحال، كان التلاميذ الفلسطينيون والسودانيون جميعا يعبدونها حبا. لكنها كانت انتقائية في صداقاتها، كذلك كانت، في الوقت نفسه، وبقلبها المفعم بالخير، صديقة الجميع، مهما كانوا فقراء ومهما كانوا مهمشين. بعينيها المتألقتين، تراها تغوص في الحديث حول الحياة والشعر وغيرهما مع كل من جاء جديدا، أكان رجلا أم امرأة، وبغض النظر عن المكان الذي ينتمي إليه. كما تراها تستمع إلى قصص حياة السودانيين الشماليين والجنوبيين، والأساتذة الأجانب، والنشطاء السياسيين الأفارقة الفقراء من الكاميرون والكونغو، وتناقش مشاكلهم ومشاكل إفريقيا، وترحب بهم، وتستضيفهم، وتساعدهم - ثم يصبحون هم أيضا أصدقاء مخلصين لها. وكما قال أحد الأصدقاء: إن الشاعر والمترجم يعبر الحدود بروح تنصت لكل كلمة وكل لغة وكل صمت. على أثر مظاهرة حاشدة يوم التاسع عشر من تموز 1971، دعما لانقلاب يساري في السودان، أعقبتها بعد بضع ساعات مصفحات تدعم انقلابا مضادا للنميري، اجتمعنا في شقة سلمى وكأنما تدفعنا حاجة متبادلة إليها. هناك جلسنا وقد أقعدنا اليأس إذ تكلمنا عما رأينا - جنود يخلعون بززهم العسكرية ويهربون بملابسهم الداخلية، ومصفحات تجري في الشوارع - وتساءلنا عما يكون عليه مستقبل البلاد ومستقبل أصدقائنا. أذكر، من بين مجموعتنا الدولية، من محاضرين وتلاميذ ولاجئين مهمشين، أنْ كان هناك ملاكم كنغولي منفي رتبت معه سلمى أن يعطي دروسا مجانية في الدفاع عن النفس، وربما في الهجوم أيضا، للتلاميذ الفلسطينيين. كان علينا أن نجتمع على ضفاف النيل الرملية - جئت أنا أيضا لأتعلم، وجاءت كذلك سلمى، ولكن لكي تشاهد وتشجع. كان هذا الملاكم الكنغولي طويلا، عريض المنكبين، لطيفا جدا. وحين اشترك في مباراة في السودان، ذهبنا كلنا بحماس للمشاهدة. لا أذكر أنه قام بأكثر من ضربتين اثنتين، ولكنه كان رائعا في تجنب الضربات، وكان يراوغ برشاقة، مائلا إلى الخلف، وإلى الأمام، وإلى الجانبين....

لقد علمتني سلمى العربية - كما علمت الجنوبيين الذي كانوا يدرسون الأدب العربي الحديث - باللغة الإنكليزية في مجموعة منتقاة. كان كتابها قد أصبح مرجعا وكانت كلماتها واضحة لي وضوحها حين تتكلم. لكن تأسيس «بروتا» حدث بعد عملها في السودان - يا له من إنتاج عظيم للعين وللقراءة. قال صديق إذ كان يقرأ إحدى القصائد، «لا بد لي من القول إن الترجمة أحسن من الأصل.» وهي الحقيقة.

كنا نحن مجموعة الأصدقاء من كل حدب وصوب ننعم بالدعوة إلى الطعام اللبناني الفلسطيني اللذيذ - قال أحد الإثيوبيين بعد أن أكل المجدرة، «منذ الآن لن أحتاج إلى أكل اللحم ثانية.» كانت جلسات الأكل والدردشة مسلية جدا، تتخللها ابتسامة ماكرة من سلمى حين تطلق إحدى فكاهاتها. وبالرغم من المآسي والمشاكل السياسية والشخصية والأدبية، فإن البهجة أفضل ما توصف بها سلمى وحياتها - بهجة الشعر وبهجة الأصدقاء وبهجة عمل عظيم بدا محالا إنجازه، ولكنها أنجزته بنجاح مذهل، ولا تزال تنجز بلا كلل ولا ملل، متغلبة على مشاكل الصحة والمكان والزمان والوسيلة.

أستاذة جامعية سابقة وعاملة ناشطة في حقوق الإنسان - لندن

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة