Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
سلمى والحديث الصعب
عبدالله بن محمد الناصر

 

الحديث عن الدكتورة سلمى الجيوسي صعب، ومتعب، لأنك لا تدري عن أي جانب في شخصية هذه المرأة النادرة أن تتحدث.. وكيف لك وأنت تريد أن يكون حديثك علمياً صادقاً أن تبدأ؛ وهكذا يكون الحديث عن المبدعين، والخلاقين والرواد، فبقدر ما تختزنه ذاكرتك من معرفة عنهم إلا أنها تختلط أمامك أو بالأصح تتجاذبك عناصر الانتقاء والاختيار.. ولهذا السبب فإني سأتحدث عن هذه المرأة (الكبيرة) حديثاً شاملاً وعاماً ولن أدخل في تفاصيل جهودها الجبارة في مضمار الثقافة، والحضارة العربية.

تعرفت على الدكتورة سلمى عن كثب وقرب منذ أكثر من عشرين عاماً، وكلما مرت السنون والأيام ازددت بهذه المرأة الصامدة والمحاربة إعجاباً وتقديراً؛ فهي امرأة لا هاجس لها، ولا هم لها إلا الثقافة العربية والتاريخ العربي والحضارة الإسلامية، كأنها رهنت ذاتها وعمرها لهذا المشروع العظيم، مشروع تسليط الضوء على ما أنجزته العقلية العربية والإسلامية عبر العصور وتقديمه إلى الغرب، بلا مبالغة ولا مجاملة.. وهي بفرديتها العملية تمثل فريقاً كاملاً في هذا المجال، أو في هذا المشروع، وتخيلوا كم هو متعب ومنهك وثقيل مثل هذا العمل على مؤسسة بكل ما فيها من موارد مادية وموارد بشرية.. ومع هذا تحمل هذا الهم وحيدة على عاتقها، متحدية التعب، والرهق والمرض، وتقدم السن.. ما جلسنا يوماً إلا وكان حديثها عن مشاريعها العظيمة التي تريد أن تقدمها ليقرأها الغرب.. الغرب الذي لا يرى في تاريخنا إلا العبث والنساء والسياف مسرور.. وحاضرنا الذي لا يرى فيه إلا آبار النفط، والبهلوانية أو الإرهاب؛ فأرادت أن تغير هذه الصورة النمطية فكتبت عن الحضارة الإسلامية في الأندلس مؤلفاً عظيماً أصبح اليوم مرجعاً مهماً يعتمد عليه الغرب في بحوثه، وألفت عن المدينة الإسلامية كتاباً رائعاً برهن للعالم الغربي أن العرب تقدموا عليهم منذ مئات السنين في فن العمارة العربية، وكتبت عن السرديات العربية: عن الحكاية، والقصة، والأسطورة مما جعل الغرب يثق بأن العرب منتجون للأدب الراقي الرفيع قبل أن يعرف الغرب فن الكتابة، وكتبت عن الإنسانية في الإسلام، قبل أن يعرف العالم حقوق الإنسان.. وقد ساهمت في العديد من الترجمات والموسوعات الشعرية، والروائية، والقصصية المختارة، والتي تقدم للغرب كنتاج عربي متميز.. ولديها الكثير من المنجزات ومن المشروعات التي تحت الإجراء والتنفيذ فتراها تركض هنا وتلهث هناك من أجل أن تجد من يتبنى هذا المشروع ويكمل ذاك.. والدكتورة سلمى لديها حساسية مفرطة حول من ينالون من الثقافة العربية وتراثها لا لأنها متعصبة، أو لأنها لا ترى عيباً أو مثلباً في تلك الثقافة، كلا فهي شديدة التمحيص؛ تنتقد بجرأة ووضوح ولكنها تغضب إلى حد الغليان عندما ترى أولئك الذين يتخذون من شتم الثقافة العربية والإسلامية مجالاً وصولياً ونوعاً من استجداء الرضا الغربي؛ إنها تمقت أولئك وتنظر إليهم بازدراء، وتسخر من تفاهتهم، وسفاهتهم.

****

لقد عملنا سوية في مناشط مختلفة وهموم مختلفة، وكنت أستغرب صلابتها وديناميكيتها، وأعجب لهذه القدرة في مثل هذه السن.. وكم كنت أحزن لحزنها عندما تصدم بردود فعل ممن كانت تعول عليهم فيخذلونها أو من أولئك الذين يحاولون عرقلة مشروعها أو إدخاله في دهاليز البروقراطية فتشعر برداءة الأشياء حولها لأن حماستها وعنفوان ونبالة مقصدها فوق صغائر المادة.. ولأن المادة العربية تخفق ويهدر الكثير منها في أمور صغيرة وبائسة، وهي ترى أن المأساة العربية مأساة شمولية ولكنها لا تصدق أن المأساة والعطب وصلا إلى حد عدم الاكتراث بأمور الفكر والثقافة.. وللشهادة والتاريخ أعرف رجلاً واحداً هو الدكتور خالد العنقري وزير التعليم العالي في المملكة العربية السعودية، الذي وقف بجانبها وقوف المثقف الشهم الذي يملك حس الثقافة والمعرفة، وهو بذلك إنما يسدي يداً بيضاء للثقافة العربية والإسلامية.. وقليلون بكل أسف هم أولئك الذين يملكون مثل هذه الحماسة وهذه الغيرة.. والدكتورة سلمى تعرف فضل الرجل وتجله وتثني عليه بما هو أهله؛ فهي في عملها لا تبخس الناس أشياءهم وبعقلية العالم المنصف المحايد وبعاطفة المحب لمن يقدر جهدها فإنها في كل مشاريعها تضم أسماء أولئك في أوائل صفحات كتبها.

****

قلت لكم في البداية إن حديثي سوف يكون عاماً ولن أدخل في تفاصيل وثنايا جهد هذه المرأة الرائعة، والتي أجزم أنها بمثابة الهبة للثقافة العربية والحضارة العربية الإسلامية في زمن تجرد كثير من الناس فيه عن هويتهم وزيهم الثقافي.. إن الذين يتحدثون عن المرأة العربية، وقدرتها واستطاعتها أن تمثل نفسها وأمتها باقتدار ومهنية سيجدون في الدكتورة سلمى نموذجاً رائعاً وفريداً للمرأة العربية المكافحة، والتي لا تنتظر من يأخذ بيدها ويقدمها إلى الحياة والناس، وإنما هي بجهدها وكفاحها وصبرها جعلت الناس ينظرون إليها بإعجاب وتقدير ويصفقون لها كثيراً في منتدياتهم الفكرية والثقافية الدولية؛ فالدكتورة سلمى امرأة جسور لا تخاف الظلمة، ولا تتهيب الطريق الوعر، وإنما تسلكه بتحدٍّ ويقين، وتصعد القمة بهمة النمر البري.. هذه المرأة التي أخرجها الاحتلال اليهودي من أرضها اتخذت من أرض الثقافة ميداناً للكفاح في جانب آخر.. وإذا كانت مهمة المحتل هي التدمير والقتل فإن مهمة هذه المرأة كانت البناء والإعمار والنداء في قاعات المعرفة فتلقت علومها في أهم الجامعات الغربية، ونالت إعجاب كل الذين أشرفوا على بحوثها وتحصيلها العلمي، وهي اليوم تدرس في أهم الجامعات الأمريكية، لا تكل ولا تمل، وكأن قدرها أن تظل صوتاً مستمر الحضور والديمومة في قاعات المعرفة، ومنتديات ومهرجانات الأدب، والتي أثقلت صدرها بالنياشين كقائدة دائمة الانتصار في ساحات الثقافة والإبداع.

أرجو للدكتورة سلمى طول العمر، كي ترى مشروعاتها تتحقق، وآمالها تزهر وتزدهر.. وكم تمنت أنها في ميدانها لا تزال جذعة تخب فيه وتضع كما قال الشاعر القديم دريد بن الصمّة.. وستظل الدكتورة سلمى صمةً وقمةً ثقافية دائمة الحضور والتواجد.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة