Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
شعلة فلسطينية في الجبين المهاجر
فريال جبوري غزول

 

إن سلمى أكثر من المرأة- الشاعرة أو المرأة- الناقدة أو المرأة- الباحثة أو المرأة- الأستاذة. إنها المرأة- الظاهرة، فقد حققت هذه المرأة العربية بذكائها وإرادتها وموهبتها ما عجزت عنه المؤسسات الثقافية ووزارات الإعلام على كثرتها في هذا الوطن الكبير: لقد قامت سلمى بتغيير خارطة الثقافة العالمية لصالح الأدب والإبداع العربي. فبعد أن كانت الثقافة العربية غير واردة في الخطاب العالمي السائد أو واردة في حضور جزئي ومستلب، مهمش ومشوه في الغيتو الاستشراقي، قامت سلمى بمشروع طموح لكسر حاجز الحصار والتغييب وإضاءة الروائع الإبداعية العربية للعالم.

فمن المعروف أن النقد والتنظير الأدبي في بعده العالمي لم يأخذ بنظر الاعتبار الإنجاز العربي في ثرائه المتواصل. إن المركز الفكري-سواء رضينا أم أبينا- متواجد في الغرب، ولأسباب نحن في غنى عن استعراضها- حيث قام بتحليلها إدوارد سعيد في كتاباته الغزيرة والعميقة- حدثت قطيعة بين الحضارة العربية والمعرفة في الغرب. فقد تم الفصل بين كل ما هو عربي وشرقي وإسلامي عن المجالات المعرفية وتخصصاتها، وأُفرد قسم خاص يطلق عليه الدراسات الاستشراقية أو الشرق أوسطية أو الإسلامية لدراسة ما هو غير أوروبي في الجامعات الغربية.

فمن العجيب مثلاً أن ابن رشد، فيلسوف العرب الذي كان له أكبر الأثر على الثقافة الأوروبية في العصر الوسيط وفي عصر النهضة، لا يدرس في قسم الفلسفة بل في قسم الدراسات الشرقية. وأما «ألف ليلة وليلة» التي شكلت جماليات الحداثة في الغرب فقد استملكها الغربيون واعتبروها «رائعة أدبية غربية» لا عربية، مستخدمين منطقاً متهافتاً ومغالطاً ومتعالياً. وأما عرب القرن العشرين وإنجازاتهم الأدبية، فقد أُغفلت بزعم أن الحضارة العربية ليست إلا ظاهرة تاريخية وخبراً لكان.

في هذا الجو المتحيز ضد العرب كانت الترجمة والتعريف بالأدب العربي عامة والحديث منه خاصة محاولات فردية متفرقة، تُحمد في ذاتها، ولكنها لا تشكل «مشروعاً» متكاملاً. وهذا ما أدركته سلمى الخضراء الجيوسي: فالمطلوب عمل متكامل ومتقن ومستمر لخرق هذا الحظر على الثقافة العربية. لقد اختارت سلمى أن تقيم على أرض المعركة وتواجه المشككين بإنجازات قيّمة وبأدوات حِرَفية مرهفة حتى أثبتت للجميع إمكانياتها وقدراتها على العمل الجماعي وتعبئة كافة المواهب من أجل رسالة فنية ووطنية.

بدأت سلمى بالإشراف على ترجمة أنطولوجيات أدبية أي مجموعة من المختارات الأدبية العربية المعاصرة ( الشعر،القص، المسرح). ثم تناولت في الترجمة منتخبات تجمع بين الأجناس المختلفة وتقتصر على ركن من أركان الوطن العربي الكبير. فقامت بالإشراف على ترجمة «أنطولوجيا أدب الجزيرة العربية (1988)» وترجمة «أنطواوجيا الأدب الفلسطيني المعاصر» (1992). ومن ثم أشرفت على ترجمات لأعمال مؤلف واحد. وتعزيزاً لنقل الإبداع ونشره، قامت أيضاً بالإشراف على كتب متعددة في الحضارة العربية. ومما يجدر بنا أن نذكره أن كل الكتب المذكورة قامت بنشرها دور نشر متميزة وجامعية.*

تقوم سلمى الخضراء الجيوسي بكل هذا من شقتها الصغيرة في ضاحية من ضواحي مدينة بوسطن مستعينة بشبكة من الأصدقاء والصديقات المؤمنين بقيمة العمل وبجدوى هذا المشروع الذي أطلقت عليه صاحبته مؤسسة بروتاPROTA أي «مشروع الترجمة من العربية». ما هو السر في نجاح هذه الترجمات؟ عوامل عديدة تتداخل لتجعل هذه الترجمات مقبولة ومقروءة في الغرب، أولها حس سلمى الإبداعي وإطلاعها الثقافي الواسع مما يؤهلها لالتقاط الأحسن والأنسب للترجمة. وبعدها تسلّم النص المنتخب لمتخصص في الأدب العربي وتحديداً في المادة المطلوبة ترجمتها، على أن يكون أيضاً متمكناً تمكناً تاماً من اللغة الإنجليزية التي يتم النقل إليها. في المرحلة الثانية من الترجمة يسلّم النص المترجم إلى شاعر أو أديب أو مسرحي معروف باللغة الإنجليزية( إنجليزي، أميركي، إيرلندي، إلخ...) ليقوم بمراجعة الترجمة وصياغتها أدبياً دون المساس بمعناها الأصلي. وأخيراً تقوم المشرفة سلمى على مراجعة النص الأخير لتتأكد من دقته الدلالية ورهافته الإبداعية. وعندما تنتهي مجموعة من هذه المجموعات تقوم بكتابة مقدمة واسعة وتحليل مسهب لها. وأحياناً تطلب من ناقد لامع أن يقدم لمجموعة ما لتخصصه في الموضوع.

إن الظاهرة التي تمثلها سلمى هي معجزة الإرادة، فاستكتاب كل هؤلاء المترجمين ومراجعة ترجماتهم والاتصال بدور النشر التي لا ترضى بطبع كتاب إلا بعد أن تتأكد عبر محكمين متخصصين من تميز العمل، بالإضافة الى إقناع الأفراد والمؤسسات بمناصرة المشروع معنوياً ومادياً، لهو أمر يحتاج إلى حيوات عديدة. لهذا أصبحت سلمى أسطورة يتحدث عن طاقاتها كل من اطّلع على أعمالها، فقائمة إنجازها تفوق كل تصّور.. كيف تمّ بناء هذه الشخصية الفذة على هذه الأرض الخراب وفي هذا الزمن الرديء؟

الجامعة الأمريكية – القاهرة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة