Culture Magazine Thursday  08/03/2012 G Issue 366
فضاءات
الخميس 15 ,ربيع الآخر 1433   العدد  366
 
مساقات
شِعريّة البناء الموسيقيّ-12 (آثار وأطوار)
أ.د.عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

-1-

تطرّقتُ في المساقات السابقة إلى بعض الملحوظات العَروضيّة التي أبداها (شوقي بزيع) على مجموعة (محمود درويش) الشعريّة الأخيرة، التي نُشرت بعد وفاته، بعنوان «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي». ومن ذلك ما يسجِّله بزيع حول قول درويش، في قصيدة «كلمات»: «كلمات كلمات.

.

تسقط الأوراق/ أوراق البتولا شاحبات/ ووحيدات على خاصرة الشارع/ ذلك الشارع المهجور منذ انتهت الحرب/ ونام القرويّون الودودون على أرصفة المدن الكبرى».

إذ يعلِّق بزيع بقوله: «ثَمّة خللٌ عَروضيّ قائم عند نهاية النص حيث يرد بعد (ن على أر)، المعادلة لتفعيلة (فاعلاتن)، (صفتل مدنل كبرى)، وهو خروج واضح على تفعيلة الرَّمَل ينبغي التحقّق منه في المخطوط.

« (1) وأقولُ: لسنا في حاجة مخطوطٍ؛ فالراجح أن كلمةً ساقطة، وهي حرف الجرّ «في»، من عبارة: «على أرصفةٍ في المدن الكبرى».

ومهما يكن من شيء، فدرويش أكبر من تلك الهنات التي تَحْدُث في مطبوعات دواوين الأحياء، ناهيك عن الأموات.

ولقد تبرّأ (رياض الريّس) ممّا حَدَثَ، ملقيًا التبعة على (إلياس خوري)، ولجنة أصدقاء الشاعر، الذين لم يسمحوا بالاطّلاع على مخطوطة ديوان درويش.

إلاّ أننا لا نتّفق مع (الريّس) فيما ذهب إليه من أن ما أشير إليه من أخطاء حروفيّة «تسيء إلى سمعة الشاعر، وتُعَدّ معيبة في حقّه»؛ إذ لو كانت مثل تلك الملحوظات تسيء إلى سمعة الشعراء، لسقط الشعراء جميعًا؛ ولا سيما أن بعضها- كما رأينا- أخطاء مطبعيّة، أو لسَقْطٍ محتمل، أو لعدم ضبطٍ بالشكل.

غير أن ممّا قاله الريّس أيضًا، ويبعث على التوقّف، قوله: إن «ليس في الديوان الأخير المنشور أيّ خطأ لغويّ أو طباعيّ أو ما شابه ذلك.

.

وقد يتساءل القارئ لماذا لم يتعرّض أيّ ديوان من دواوين محمود درويش السابقة، التي نُشرت حتى الآن، إلى هذا الكمّ من الأخطاء؟ الجواب أن الشاعر الراحل كان يرسل لنا مخطوطاته بخطّ يده (المجموعة الكاملة موجودة لدينا)، وكنّا نتبادل الآراء بشأن العديد من الأمور اللغويّة التي كانت تَرِد في النصّ الأصليّ، وكان الشاعر الكبير يتقبّل ذلك بكلّ تواضع ورحابة صدر.

بعكس ما حصل بعد رحيله من قِبَل من تولَّى مسؤوليّة التحرير والتبويب والإعداد (..) ستقوم (شركة رياض الريس للكتب والنشر) بإعادة طباعة ديوان محمود درويش الأخير في طبعةٍ جديدةٍ بعد إعادة النظر في نصوصه، بناءً على خبرتها في كتابات الشاعر وملاحظات الشعراء والنقاد.

«(2) هكذا قال.

وهنا نقطتان محلّ نظر: الأولى، القول بأن المنشور لا أخطاء فيه.

وهو ما قد يُفهم على أساس أن المنشور مطابقٌ لما وَرَد إلى دار النشر، لا على أساس خلوّه من الأخطاء.

أمّا النقطة الأخرى المُلْبِسَة، فالقول: «إن الشاعر كان يرسل مخطوطاته، وكان ودار النشر يتبادلان الآراء بشأن العديد من الأمور اللغويّة، التي كانت تَرِد في النصّ الأصلي، وكان الشاعر الكبير يتقبّل ذلك بكلّ تواضع ورحابة صدر!» وتبدو في هذا إساءة أشدّ إلى الشاعر؛ حين يُقال إن دار النشر كانت تتفاوض معه بشأن العديد من الأمور اللغويّة الواردة في نصّه، وكان يتقبّل ذلك بكلّ تواضع ورحابة صدر! فمن يقوم إذن على عمل الشاعر، وينقِّحه، ويتحمّل مسؤوليّة كلّ ما يَرِد فيه؟ أ الشاعر، أم الناشر، أم بالتعاون؟! في كلّ حال، ما وددنا الخلوص إليه، من هذا العرض النموذجيّ لما يمكن أن تقع فيه أعمال الشعراء من تشوّهات عَروضيّة، هو أن الشاعر الحديث لا يُعفَى في تقاعسه عن الإحاطة بعِلم يتعلّق بأدوات فنّه، من عَروضٍ وغير عَروض، بدعوى التعويل على سليقته الجبّارة، وموهبته الخارقة للعادة، وإحساسه بالسيطرة على فنّه.

كما لا ينبغي له أيضًا أن يعوِّل على طابعٍ أو ناشرٍ للقيام على إبداعه، وإلاّ بات في مهبّ بعض الناشرين، ممَّن لا يعنيهم من شأن اللغة والأدب إلاّ التسويق والمتاجرة باسمهما، ولو على حسابهما.

ولا أُعمّم.

-2- وبعد، فلقد مرّت الآداب في العالم بطَوْرَين، طَوْر الشِّعر- والشِّعرُ هنا يعني أن يكون النصّ مُمَوْسَقًا موزونًا- فيه كانت تُنْظَم الترانيم الدِّينيّة، والمسرحيّات الشِّعريّة، والملاحم البطوليّة، والتأمّلات الفلسفيّة، والخطابات التعليميّة.

.

كلّها كانت تُنْظَم شِعرًا، أو قُل تُنْظَم نَظْمًا.

ثم خَلَّى الشِّعرُ بين تلك الأغراض والنثر، وصار غنائيًّا ذاتيًّا صِرفًا.

وصارت لغة العِلْم والفلسفة والسرد هي لغة النثر، لا لغة الشِّعر، طبيعةً ووظيفةً.

وذلك هو الطَّور الآخير في التجربة الأدبيّة الإنسانيّة عمومًا.

هذه رحلةٌ إنسانيّةٌ عامّةٌ اتّجهتْ من الموضوعيّة إلى الغنائيّة في الشِّعر.

ولذا، فليس صحيحًا ما يتصوّره بعضٌ من أن غنائيّة الشِّعر عربيّة فقط، ولا أنها هي التي فرضت الوزن والقافية؛ فقد كانت الأوزان والقوافي والموسيقى الشِّعرية جزءًا لا ينفصل عن الشِّعر منذ كان، موضوعيًّا وذاتيًّا، لدَى العرب ولدَى غيرهم، عبر التاريخ.

وليس السبب في ذلك حصرًا لتكون المنظومة بمضامينها أسهل للحفظ - فهذا محض تبسيطٍ، وتذرّعٍ للقول بانتفاء ضرورة الموسيقى الشِّعريّة اليوم- بل كانت الموسيقى الشِّعريّة لعلّةٍ وظيفيّة بنائيّة، تتعلّق بالدَّور البلاغيّ للموسيقى الشِّعريّة، وهي وظيفةٌ استمرّت في الثقافات الشفاهيّة والكتابيّة.

وبقي الشِّعر بصفته تلك يؤدّي وظيفته، بطرائقه، ووَفق طبيعته التعبيريّة المستقلّة عن النثر.

لذلك قلنا: إن قصيدة النثر لا تُعدّ جديدةً على النثر العربيّ، وليست اليوم من التجديد للشِّعر في شيء، لكنها رِدّة مشوّهة إلى الماضي.

غير أننا، عادةً، نختزل تاريخنا، ونبتسره، ونزدريه، قافزين من (سوق عكاظ) إلى (ستينيات القرن العشرين)، فما قبل قصيدة النثر جاهليّة- بحسب تصوّر الغُلاة ممّن لا يعرفون من الشِّعر سوى تلك القصيدة- وقصيدة النثر هي: الشِّعر، جاءت لتجبَّ ما قبلها من سَفَه! إنها بالأحرى رجعيّةٌ إلى عصرٍ تجاوزه العربُ منذ مئات السنين- عصر النثر الشاعر، أو الأقاويل الشِّعريّة- ولكن بعد تسمية النثر شِعرًا.

لا لشيء إلّا لمحاكاة الآخَر، الحبيب الغريب.

وهذه انتكاسة أدبيّة، تاريخيّة، ومعرفيّة، وحضاريّة في آن.

ذلك أن العرب لا يُبدعون اليوم، ولا يجدِّدون، في حقيقة الأمر، بل هم يقلِّدون آخَرهم، ويتّبعون سننه، عُميانًا يقودهم عُميانُ! لأن معنى التجديد: أن تُجدِّد تراثك، وأن تطوِّره إلى خيرٍ منه وأرقَى.

فهل نحن حقًّا كذلك نفعل؟ أم هو الغرام الذي وصفه (ابن خلدون)، والذي يَهْوِيْ بفؤاد المغلوب إلى قبضة الغالب، في استخذاء وصَغار؟ تلك هي حكايتنا، بعيدًا عن الغمغمة واللفّ والدوران على الحقائق، كي نَخْصِف عليها من وَرَق الجَنَّة.

فلا نحن طوّرنا وجوه شِعرنا، ولا نحن طوّرنا أيادي نثرنا، ولا كان أمرنا بين ذلك قوامًا.

*مع أن الشِّعر العربيّ تراثٌ إنسانيٌّ عريقٌ، وتأسيسيٌّ في العالم أجمع، هَجَرَه أهله مؤخَّرًا، واتّجهوا إلى ثرثرات الوجبات الأدبيّة السهلة والسريعة، والتهموا المعلّبات المستوردة، صالحةً ومنتهيةَ الصلاحيّة! للبحث بقيّة

* شُرْفَةٌ أخرى: سأرحلُ نحوَ المدارِ البعيد وأترك خلْفي هوى الشَّخْصَنَةْ سأعبر بحر الحروف العميق وأنفض عني لظَى الألسنةْ سأحثو على الحانقين الغبار وأتركهم في شجا الأمكنةْ!.

من قصيدة «السماء الثامنة»، للشاعر صالح سعيد الهنيدي، من مجموعته الشِّعريّة «قراءة في أبجديات مغتربة»، (القاهر: سندباد للنشر والإعلام، 2009).

والشاعر من مواليد (الباحة)، 1393هـ= 1973م.

صدرت له مجموعتان شعريّتان أخريان: «مرافئ الوجدان»، 1422هـ؛ «وطني ومشاعر قلب»، 1427هـ.

وقد كان من كوكبة الشعراء الشباب الذين قدّمهم مهرجان الشِّعر العربي، 1432هـ، الذي نظمه نادي الباحة الأدبي.

هذا إلى جملة دراسات أدبيّة للهنيدي، منها: «أدب د. زكي مبارك»، و»عوامل هدم اللغة العربيّة».

والأخيرة تذكّرني بما خضتُ فيه منذ سنواتٍ حول تلك العوامل.

تحيّة للشاعر، الذي ظلّ يزاوج في نصوصه الشِّعريّة بين التفعيلة والبيت، محتفيًا بالمسؤولية والشِّعرية في آن، بتمكّن لغويّ وأدائيّ ظاهر.

وما ذاك بغريب على تلك الجبال، التي آلت إلّا أن تنبت بالشِّعر والشعراء، كأنها طُور سَيْنَاء، وكأنهم شَجَرتها المباركة، التي «يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ، وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَار».

(1) صحيفة «الحياة»، الجمعة 3/ 4/ 2009، ص24.

(2) م.

ن.

p.

alfaify@gmail.com http://khayma.com/faify الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة