Culture Magazine Thursday  08/03/2012 G Issue 366
فضاءات
الخميس 15 ,ربيع الآخر 1433   العدد  366
 
تقنيةُ (المفَارَقَة).. وَمَسَافَاتُ التوتُّر (2)
د.عمر بن عبد العزيز المحمود

 

ويرى Booth (بوث) أن على كل قارئ متمرس أن يمتلك -إلى جانب صفات أخرى- حساسية خاصة في اكتشاف وإعادة صياغة أو بناء معاني (المفارقة)، فهو ربما سيبتهج حين يتمكن من الوصول إلى تفسير أو تأويل (المفارقة) الموجودة، اعتمادًا على المؤلفين، متحاشيًا قراءة الكُتَّاب المتخصصين في المفارقة؛ لذا فهو يقدم لنا أربع خطوات لقراءة المفارقة، كما توضحها الشاعرة والباحثة المصرية نجاة علي.

الخطوة الأولى: ينبغي على القارئ أن يرفض المعنى الحرفي، وليس أمرًا كافيًا أن يرفض القارئ هذا المعنى لأنه لا يوافق عليه، وليس كافيًا أيضًا أن يقوم بإضافة معانٍ أخرى من عنده، فإذا كان القارئ يقرأ قراءة دقيقة، فإنه لن يستطيع تجاهل هذا التنافر أو التعارض بين الكلمات، وما يعرفه هو -أي القارئ-، وفي كل الأحوال، فإن السبيل إلى معانٍ جديدة يمر عبر اقتناع صامت لا يمكن أن يتوافق مع المعنى الحرفي.

وينبغي أن نلاحظ شيئين فيما يخص هذه الخطوة الأولى، وهما: رفض افتراض ما، لأننا ينبغي علينا أن نرفض هذا الافتراض الصامت أو غير الواضح، وهذا ليس أمراً غريباً على (المفارقة)، بل هو أمر أساسي وجوهري، مع وجود تضارب فيما يقال، وأحياناً ما تكون الجمل التي تتضمن (مفارقة) متناغمة ومتسقة مع نفسها.

كما ينبغي على القارئ أن يتمكن من الإمساك بما يعتبره البعض (مفاتيح خارجية)، إلا أن التمييز بين مفاتيح داخلية وخارجية -وهي التي تعتمد في الأساس على مفاهيم النقد الحديث- مسألة لا معنى لها، إذا كان المرء بصدد الحكم بأن الفقرة تتضمن (مفارقة) أو العكس.

الخطوة الثانية: يقترح القارئ تأويلات أو شروحًا بديلة، وسوف تكون كل هذه التأويلات متعارضة إلى حد ما مع المعنى السطحي الظاهر لما يقوله النص، ومن المحتمل أن تكون غير متوافقة، ولكنه بالتأكيد سوف يراجع نفسه، وربما يقول: إنها سقطة من الكاتب، أو أنه مجنون، أو قد مرَّ شيء في البداية لم ألاحظه، أو أن هذه قد تعني شيئًا لا علم لي به.

وهناك بديل آخر عادة ما يتبلور عندما يقنعنا هذا التعارض الموجود في موضع الشك إزاء النص، وهو أن هذا الكاتب نفسه به درجة من (الحمق)؛ حيث لا يستطيع أن يدرك أن كلامه لا يمكن تقبله بهذا الوضع الذي هو عليه، ونحن نتقبل هذا البديل فقط عندما لا نعثر على أية بدائل أخرى ترضينا.

الخطوة الثالثة: وبناء على الخطوتين السابقتين يجب أن نتخذ قرارًا بشأن معتقدات (الكاتب)، فعندما يقول كاتب مثلVoltaire ‏ (فولتير): (إنها تمطر)، فإن ثقتنا في أن فولتير كان يستخدم (المفارقة) تكون عظيمة لدرجة ترقى إلى مرتبة الحقيقة، ونعتمد على قناعتنا بأنه مثلنا، يرى ويرفض ما تتضمنه العبارة (كلا الجانبين يستطيع أن يكسب الحرب نفسها)، فهذا الحكم على معتقدات (الكاتب) يتماشى مع تأويل (المفارقة الثابتة) Stable Irony ، ولا يتم إدراك (المفارقة) الثابتة دون الوصول إلى هذا الحكم. ونلاحظ أن الخطوتين الأولى والثانية في حد ذاتيهما لا تستطيعان أن تقولا إن العبارة بها (مفارقة)، ولا يهم إلى أي مدى نكون مقتنعين اقتناعًا راسخًا بأن العبارة غير منطقية وغير معقولة، وأنها محض زيف واضح، ويجب علينا أن نقرر: هل الأمر الذي نرفضه مرفوض أيضًا من وجهة نظر الكاتب؟ وهل للكاتب سبب منطقي يجعله يتوقع أن نتفق معه؟ من البدهي أن الكاتب الذي يثير اهتمامنا به ليس إلا الشخص المبدع المسؤول عن الاختيارات التي صنعت العمل، وهو ما يسمى ب (المؤلف الضمني) Implied Author الموجود في العمل، والحديث عن (المغالطة المتعمدة) أو (المقصودة) حديث صحيح، لكنه لا يستطيع أن يحل مشكلاتنا النقدية، فنطلب (فولتير) على الهاتف ونسأله ماذا كان يقصد بعبارته حول الملوك المتنافسين! ولأجل بعض الأهداف النقدية، سوف يكون من المعقول أن نتحدث عن مقاصد (النص) وليس عن مقاصد (الكاتب)، ولكن التعامل مع (المفارقة) يجعلنا نشعر بأن الحكم -بشكل نهائي- على دعوتنا ما يزال متجسدًا في وعي (الكاتب) حينما نكون مدفوعين باتجاه التأويل الصحيح، وهنا ينبغي أن نقول إنه ليس من المنطقي أن يكون (الكاتب) قد وضع هذه الكلمات بهذا الترتيب دون أن يكون قد قصد هذه (المفارقة) الدقيقة.

الخطوة الرابعة: بعدما نكون قد اتخذنا قرارًا بشأن معرفة ومعتقدات (الكاتب) أو (المتحدث)، نستطيع في نهاية الأمر أن نختار معنى جديدا، أو نختار حزمة من المعاني التي نشعر معها بالاطمئنان، وعلى عكس الافتراض الأوليّ، فإن المعاني التي يعاد بناؤها يجب أن تكون متوافقة مع المعتقدات الخفية غير المعلن عنها التي قرر (الكاتب) أن يعزوها إلى (فولتير)، وهكذا فإن فعل إعادة البناء ينتهي إلى اعتقاد يمكن أن يوضح على النحو التالي: (في تناقض مع الكلام الذي يتظاهر (فولتير) بأنه صاحبه، الذي يتضمن معتقدات ليس بإمكاننا أن نؤمن بها، في الواقع هو يقول مثل مما يتفق مع ما أعرفه أنا أو ما أستطيع من خلاله أن أستدل على معتقداته ومقاصده).

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة