Culture Magazine Thursday  12/01/2012 G Issue 360
فضاءات
الخميس 18 ,صفر 1433   العدد  360
 
الطريقُ إلى الإِسلامَانيِّة (1)
نهاية الصراع الغربي مع الإسلام السياسي؟
ياسر حجازي

 

(أ) ليست (الإسلامانية: الإسلام العلماني) مصطلحاً آنيّاً فرضته قراءات الانتفاضات العربيّة، بل هي قراءة فكريّة للممارسات السياسيّة في صدر الإسلام الأوّل، بما تضمّن ما يمكن تقاطعه مع المبدأ العلماني العام، بل كان متقدّماً عن الديانات القديمة بالحدّ من سلطات الكهنوت والإكليروس في إدارة شؤون الإمارة؛ أي أنّه يأتي ممارسة لقراءة لا ترى في الإسلام نفسه تعارضاً مع (مبدأ الفصل بين السياسة والدين)، فالآية الكريمة: {وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُم}، تؤوّل لدى بعض المفكّرين أنّها تأكيدٌ من النص المقدّس بعدم إلزام أتباعه بشكل معيّن من أشكال الإمارة، بل ألزمهم بالتشاور فيما بينهم لإيجاد أيّ شكلّ دنيويّ يرتضونه وفق ظروفهم وتوافقهم. وقد ناقش الإسلام العلماني العديد من مفكّري العرب، أمثال علي عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، ود. فرج فودة في كتابه (الحقيقة الغائبة)؛ فثمة فرق بين (الإسلام العلماني، وبين علمنة الإسلام السياسي): فالأوّل رؤية مفادها أنّ الإسلام سياسيّاً يقدر أن يتحمّل العلمانيّة في نصوصه وممارساته، أمّا المصطلح الآخر فهو معاصرٌ يفضي بإعادة تأهيل خطاب الإسلام السياسي الرافض للعلمنة، ليبدأ بالاعتماد على (الإسلام العلماني) لأجل التقارب مع النخب العلمانيّة العربيّة، تمهيداً لوصوله السلطة، والالتزام باستحقاقاتها الكبرى التي يعوّل عليها الناخب، الذي منحه ثقته وصوته، وحفاظاً على العلاقات الغربيّة التي ساندته بإضفاء الشرعيّة الدوليّة عليه.

ويوماً بعد آخر، تزداد تداولات مصطلح الإسلام السياسيّ العربيّ (ومشتقّاته)، فلئن كانت غلبة الطروحات السابقة إمّا انتصاراً بعيداً عن الموضوعيّة يندرج تحت خانة الدعوة من كَتبةٍ محسوبين على تيّاره، وكذا حال الطروحات المضادّة: إذ كانت تكشف عن مخاوفها من الإسلام السياسي، بسبب التطرّف والخشية من الدولة الدينيّة، التي كانت نماذجها كارثيّة في العقود الثلاثة الأخيرة: فلقد رجحت الغلبة للإسلام السياسيّ الثوري:

(الخمينيّة، النميرية، ثم البشيريّة السودانيّة، الطالبانيّة القاعديّة، الحمساويّة الفلسطينية). لكن على صعيد آخر: هناك نموذجان مغايران، النموذج الماليزي (د. محاضير أحمد)، والنموذج التركي: (الأردوغانيّة)، وبقيت القراءات الموضوعيّة شحيحة، ذلك أنّ الإقصائيّة علّة التيارات جميعاً.

لكنّ اليوم، فإنّ قراءة الإسلام السياسي تحظَى بجدّية، وبالابتعاد عن الإسقاطات والآراء الجاهزة، فجدّيةُ التداول والغَلبةُ القيّمة فيما نطّلع عليه لا يرتكز على (الإسلاموفوبيا)، بل ينطلق من الأسئلة اللازمة لفهم طبيعة المجتمعات العربيّة المختلفة، أعرافها، احتياجاتها، مدى علاقة الإسلام السياسيّ بالشارع، وتحت أيّ وعود سوّق نفسه للناخب العربي، ما هي فرصه للوصول إلى السلطة تحت رعاية الممارسات الديمقراطيّة؟

ولعلّ حزب النهضة الإسلامي التونسي نال النصيب الأكبر، ذلك أنّه الحزب الذي حسم الانتخابات التونسيّة، وشرع في ممارسة السلطة، إذّاك كثرت القراءات والمقارنات بينه وبين الأُردُغانيّة، وكذا حال حزب العدالة والحريّة المنبثق عن الإخوان المسلمين المصريّة، وإن كانت الواقعتين غير متشابهتين، فثمّة فرق بين مرجعيّة تونس العلمانيّة، وبين مرجعيّة مصر العسكرية.

إضافة لواقعة غلبة الإسلام السياسيّ جماهيريّا، فإنّ الانتفاضات العربيّة بيّنت عدم تشابه المخزون الشعبي للإسلام السياسيّ في المجتمعات العربيّة، فثمّة اختلافات بين طفيفة إلى عميقة: فإن بدا في تونس بحلّة معصرنة تتوخّى علمنة تيّاراته بتوافقيّة، إلاّ أنّ هذا النموذج لا يمكن أنّ نتوقّعه في ليبيا، التي لم تصل بعد إلى مفهوم الدولة والمؤسّسات بعد أربعين سنة من التشويه، وكذا الحال في مصر العسكريّة.

(ب) فجأةً، بعد خيبات، مشاريع نهضويّة متعثّرة، نهضَ المارد العربيّ الإسلاميّ من قُمقُمهِ، لم يُخطّط له أحد سوى القهر، الظلم، الفقر، الاستبداد- حتّى يمتحن فرضيّة التغيير الإيجابيّ التنويريّ ويقلّبها بين احتماليّات وحتميّات. وهذا النهوض بدّل من استراتيجيات الغرب، الذي ما انفكّت أجهزته الإعلاميّة وجيوشه تشنّ حروباً ضدّ الإسلام والعرب كلّفته عثرات باتت تهدّد قوّته الاقتصادية؛ بيد أنّه يسعى الآن لمدّ الجسور مع الإسلام السياسي، وإعادة قراءة خطابه تبريراً للرأي العام. أمّا أنّها اللعبة نفسها، تتكرّر دائماً: ألم يتحالف الأمريكان مع الإسلام الثوري، بل لعلّهم ساهموا في تكوينه لخوض حربهم في أفغانستان، فأعلنت الحرب المقدّسة؛ حتّى انهيار السوفيت، فصار الحليف عدّواً. واليوم، لا بأس به يعود حليفاً، لطالما آلت الأزمات الاقتصاديّة لتصبح هي الخطر الحقيقي على الرأسماليّة الغربيّة.

هل يجوز أن أتساءل –شكّاً لا يقيناً- إن كان ثمّة علاقة بين الأزمات الاقتصاديّة الرأسماليّة وبين الدعم الغربيّ للانتفاضات العربيّة، غير آبهين بحلفائهم، غير مكترثين بما صدّروا له في العقد الأخير –عقد الإرهاب وصراع الحضارات- إنّه عدوهم الأوّل؟ هل يأتي الإعلان عن مقتل زعيم القاعدة (أسامة بن لادن) ضمن سياق التمهيد لتقارب أمريكي مع الإسلام السياسيّ؟ أو بصيغة أخرى: هل يقبل الرأي العام الغربيّ هذا التقارب بينما زعيم القاعدة ما زال حيّاً؟ ماذا يمكن أن نفهم من تصريح نائب الرئيس الأمريكي مؤخّراً: (إن طالبان لم تعد عدوّاً)، هل هذا إعلان عن نهاية عقد الإرهاب، نهاية صراع الحضارات.

هكذا أجبرت الأزمة الاقتصادية: (البطالة، الديون، نقص السيولة، تباطؤ النمو..) بتعديل مسار السياسة الخارجيّة الغربيّة لوضع سيناريوهات التقارب مع المنطقة العربيّة بعد سقوط الديكتاتوريات، بحثاً عن عقود إعادة الإعمار، وعن حصص نفطيّة، فالتقارب والتحالف هو الضامن الأكبر خشية من تغيرات توشك أن تغدو حتميّة وفق السيناريو الأسوأ –أمريكيّا بالطبع- في استراتيجاتهم لإدارة الأزمات الدوليّة. هذه التغيرات العربيّة إن لم نتبيّن شكلها ومآلها بشكل مطمئنّ بعد، فيبقى للإسلام السياسيّ نصيباً كبيراً في سيناريوهات ما بعد الخريف/الربيع العربي. لكنّ السؤال الذي يشغل بال الساسة والمراقبين: أيّ إسلام سياسيّ سوف تكون له الغلبة؟ ما شكله؟ ما موقفه من المعاهدات والاتفاقات الدوليّة؟ ما حدود اقترابه من (الإسلام العلماني)، من المفاهيم المعاصرة التي تحكم علاقات بلاده مع الدول الأخرى؟ ما مصداقيّة إعادة تأهيل خطابه السياسيّ بما يتناسب مع السطح وليس الظل/ مع السلطة وليس المعارضة؟

لقد بات واضحاً أنّ خرافة صراع الحضارات قد آلت إلى زوال، حيث انتهى وتراجع زمن الإرهاب، فلعل كُبرى حسنات الخريف/الربيع العربيّ التي انبلجت على السطح أنّها أوجدت معادلات جديدة في الصراع، مفادها أنّ الإسلام السياسي ليس عدوّاً للحضارة الغربيّة، فالأزمة العالميّة الاقتصاديّة هي الخطر الأعظم، وهي خصمٌ داخليّ كورم سرطانيّ؛ وعلى الساسة العرب الجُدد أن يدركوا جيّداً أنّ بإمكانهم اليوم أن يحسّنوا من شروط أي تفاوض، حيث إنّ هذا التقارب المتسارع، ليس إلا استغاثة لصراع اقتصاديّ داخليّ يكاد يعصف بالحضارة الغربيّة، ونحن ما زلنا في فصوله الأوّلى، إن لم تعد تلك الحضارة إلى رشدها السياسيّ في التوازن الدوليّ؛ وهذا ما تسعى من وراء تقاربها مع الساسة الجُدد/الإسلام السياسي، الذي له غلبة المصالحة والتفاوض بقدر ابتعاده عن خطابه الإقصائي، واعتماده على مفاهيم الإسلامانيّة.

جدة Yaser.hejazi@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة