Culture Magazine Thursday  15/03/2012 G Issue 367
أوراق
الخميس 22 ,ربيع الآخر 1433   العدد  367
 
« شرق المتوسط» والخريف العربي !
محمد حمد البشيت

 

في روايته البديعة والمؤلمة معا « شرق المتوسط» جسد لنا - منيف - حياة المواطن العربي. في بلدان الانقلابات العسكرية, وما يحكمها من أيدلوجيات مسخت كرامة الإنسان فحولته خنوعا مطيعا, مسلوب الإرادة كالآلة الصدئة الصماء, لا يسمع لا يرى لا يتكلم, فاستأثرت السلطة بالإنابة عنه لتكون هي المفكر والمقرر في مصيره, وتعدت لما هو أكبر من ذلك برصد أنفاسه وملاحقته وكيل سبلا من الاتهامات, أضعفها تضليل الرأي العام, والتآمر ضد الدولة تهما باطلة أريد بها تدمير نفسية مواطنها, حتى لا يجرؤوا على الكلام، وإن نبس بكلمة فيزج به في غياهب سراديب السجون المظلمة الرطبة مرورا بوسائل التعذيب النفسية والجسدية, التي كثيرا ما راح ضحيتها أبرياء لأذنب لهم, في معظمها تقارير مخابراتية كيدية ملفقة كاذبة ومتجنية؛ لذلك جسدت الرواية لنا وصفا دقيقا لحقبة ملؤها القهر والتعسف, فيما كان يجري ببعض بلدان{ شرق المتوسط} التي قامت على الانقلابات العسكرية, والتي هي الأقرب لحزبي البعث السوري والعراقي, وإن لم يشر المؤلف لبلد بعينها, والذي عاش في بلدانها المؤلف لسنوات طويلة، نقل لنا عبر روايته الخالدة الوضع المأساوي التي عاشته شعوب هذه البلدان الواقعة على ضفاف المتوسط, وما نجم عنه من احتقان و معاناة طويلة من حكم العسكر!!

وكأن المنيف- يقرأ طالع الأيام بأنه لا بد من انبلاج نهار شمس مشرقة ستبدد ظلام وإضلال, حكم الاستبداد؛ فقد عرى بروايته حكام دول الرعب والخوف.. فدوام الحال من المحال, فلا بد لكل طاغية من زوال, وهو ما يحصل الآن ليعيد الزمن تصحيح مساره, رغم المعاناة التي لحقت بمواطني هذه البلدان المغلوبة على أمرها, والمنهوبة اقتصاديا والمختطفة سياسيا والممنهجة بتكريس عبادة الصنم، والتسبيح بحمده بموروثات شعبية بالية وعقيمة, بتسخير البشر أذلاء لطاعة الزعيم الأوحد وطائفته, وكل ما ينضوي تحت جناح الحزب الذي يدير البلاد و الممسك برقاب العباد, مثلما كانت الحال عليه في حزبي عراق صدام وقذافي ليبيا و سوريا حافظ, والذي أبنه يكمل ما بدأه أبوه من اعتقال وقتل ودك بيوت مواطنين سوريين على رؤوسهم.. ثلاثة ذهبوا لمزبلة التاريخ, ورابعهم رفيق على الطريق!!

الرواية لم تشر لمكان معين في شرق المتوسط, ولكن التفاصيل الدقيقة توحي للقارئ ملامح القطر الذي هو قطب الرحى, بتلك الوسائل التعذيبية التي كان ينتهجها الاتحاد السوفييتي في تعذيب ضحاياه من عهد ستالين لبرجنيف, في زواريب جحيم ال{كي جي بي } للنفي لأصقاع سيبرياّ!!

رجب إسماعيل, بطل الرواية, هو عبد الرحمن منيف، مثلما هو مصطفى سعيد, في موسم الهجرة للشمال, للطيب صالح.. فيظل الروائي متدثرا ببطل الرواية التي صنعه هو, في المحكي, خصوصا حينما يكون موجها بمواربة لنظام ظالم, وأن كان هذا لا يخفى على مثقفي النظام, ولكن لخلق نوع من التسامح ظاهريا فيما يتم طبعه من قصة أو رواية.

إما باطنيا، فإنه من المؤكد أن الكاتب قد تتم مساءلته وتضييق الخناق عليه, ليكون تحت المجهر أينما كان وسيكون, وإلحاق الأضرار, بأهله وقد تعرض الكل للكثير من تعسف جلاوزة الأنظمة الدكتاتورية.

والأمثلة كثيرة. أن- شرق المتوسط- قدمت لنا كيف كانت الحال عليه للكتاب والصحافيين.

مثلما هو في روايات أخرى, وقد صورت لنا كل ما يستخدمه النظام القمعي في تجنيد زبائنه ولعل الروايات أو المذكرات الخاصة, حفلت بالشيء الكثير من استخدام العنصر النسائي, طالت الفنانات اللواتي يمارسن فن التمثيل, فقد هرب الكثير منهن، بعدما عانين الكثير من المساومة، ما بين الجسد أو الانخراط كمخبرات للنظام، في بعثي العراق وسوريا وفي عهد عبد الناصر, وهو ما تمثل بمخابرات صلاح نصر, السيئة السمعة.. ناهيك عن مخابرات القذافي التي لم تلحق الضرر بالشعب الليبي وحده, وإنما ألحقت الإضرار البالغة في الوطن العربي وغيرها عن طريق زبانيته, وكما تدين تدان لقد انتهوا هؤلاء الشرذمة حيث انتهوا إليه !!

لا أريد أن أقف عند كل فصل من الرواية, بفصولها الستة، ولكن لا بد من إشارة أو لمحة للاستدلال إلى الإذلال والمهنة التي تعرض لها -رجب إسماعيل- في واحدة من وسائل تعذيبه, يقول المنيف على لسان بطل الرواية رجب إسماعيل {وضعوني في كيس كبير, أدخلوه في رأسي, وقبل أن يربطوه من أسفل, أدخلوا قطتين, هل يمكن للإنسان إن يتحول إلى عدو للحيوان ؟

والقطط ماذا تريد مني؟ كانت يداي مربوطتين إلى الخلف, كنت مستلقيا على وجهي أول الأمر, وكلما ضربوا القطط وبدأت تنهشني, وأحاول إن انقلب علي جانبي, أحس برجل ثقيلة فوق كتفي,على وجهي, وأحس الأظافر تنغرز في كل ناحية من جسدي لما فكوا الكيس, كنت أريد أن أرى القطط, كنت أريد أن أحفظ صور أعدائي الجدد, تراكضت القطط المذعورة, كأنها خرجت من الجحيم, كنت دامي الوجه وأحسست بالنزف من عيني اليسرى, ضحكوا كثيرا لما رأوا دمائي.. استلقى نوري على ظهره, كان يضحك من الفرح اللذيذ, وبعد أن مسح عينيه من آثار الدموع, قال لي:

ما رأيك بهذه الحفلة؟ ألا تعترف ؟ لم أستطع أن أجيب كان جسمي يلتهب يتمزق من الألم.

لا أعرف: هل حركت كتفي, أم تصورت ذلك، قال لي وهو يجري ناحية الباب..

عندي آلاف الوسائل التي تجعلك تتكلم مثل ببغاء, هل تتكلم أم تريد إن تجرب؟

أمسك أصابعي بقوة, ودفعها بين شقي الباب وبدأ يغلقه بهدوء.

لما صرخت بصق في وجهي, قال بتشف..هل رأيت؟ هذه واحدة من ألف, يا أبن الكلب.

رجب إسماعيل, لا زال يحكي لنا قائلا لحظات التعذيب عند زبائن جهنم يسمونها حفلات..في إحدى هذه الحفلات نصبوني عاريا تماما وجلدوني حتى تمزق جسدي وفرت منه الدماء, وليتهم اكتفوا بذلك، بل اخذ نوري بكل - داليتي- ويشدهما بقوة حتى ظننتها ستخرج من عيناي, ثم احضر دبوسا وأشعل كبريتا وأسخنه ووخز به احد الداليتين, هذه بعض وسائله التعذيبية البسيطة والتي يسمونها بلغتهم الشريرة - حفلة تكريم- للزبون.. والأدهى من ذلك حينما يحكمون عليه وتنتهي مدته يبقونك لديهم لشهر أو ثلاثة حتى لا يتركون علامات, ولا يحبون أن يكون السجين مشوها حتى لو اعترف, يحتفظون به حتى يشفى!!

الرواية مؤلمة ولكنها صك إدانة لما كان يجري, في شرق المتوسط, بتلك الدول الدكتاتورية, التي أذاقت مواطنيها صنوف الهوان والعذاب, الذين هم اليوم في مواجهة معها, في مناشدة الحرية والكرامة والعيش بأمان, التي كان يفتقدها أناس شرق المتوسط.

رحم الله عبد الرحمن منيف, الذي جعلنا نطل من خلال كوى بعيدة لنرى قوى الاستعباد والاستبداد عند حكام الدكتاتورية العسكرية الغاشمة!!

جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة