Culture Magazine Thursday  15/03/2012 G Issue 367
فضاءات
الخميس 22 ,ربيع الآخر 1433   العدد  367
 
هدية بريطانية
طارق بن سعود السياط

 

لم يخطر في بالي قط أن يغبطني أستاذي الإنجليزي الكهل على نظامي الملكي الأقل ديمقراطية بالقياس إلى نظامه الملكي مفرط الديمقراطية - على حد زعمه -. وفي معرض تبريره، يخبر الدكتور - من بين أسباب عدة - أن ديمقراطيتهم، في أحد وجوهها المقيتة، يمكن اعتبارها قرينة للبيروقراطية. فإذا ما أريد لأمر ما أن يتم، فستكون بانتظاره سلسلة محبطة من الإجراءات البرلمانية التي لا خيار آخر سواها، أيا كان هذا الأمر، مما قد يرجئ الأمر حينا من الزمن. من جهة مقابلة، يتمتع النظام الأدنى ديمقراطية بمرونة عالية في هذا السياق – كما يقول -. ويحوز المسئول رزمة معتبرة من الصلاحيات التي سريعة وفعالة وتخوّل اتخاذ اللازم. ويؤكد أنه على الرغم من المؤسساتية المطلقة للنظام لديهم - والتي يحبذها كثيرون -، إلا أن هذا ليس لزاما بالأمر الحسن على كل حال. وينوّه سليل الديمقراطية العريقة أن الديمقراطية المحضة فيها ما فيها من هنّات.

وفي نوفمبر الماضي، جربت بريطانيا واحدا من أضخم الإضرابات منذ أجيال، نفذه ما يربو عن مليونين من موظفي الحكومة (مدرسون، أطباء، صحيون، رجال مطار، وسواهم)، احتجاجا على خفض الحكومة معاشات المتقاعدين، ورفع سن التقاعد في وظائف القطاع العام. ويومذاك، امتنع ثلث العاملين في الإدارات المحلية عن الانطلاق إلى أعمالهم. وجرى تعطيل الدراسة في نحو ثلثي المدارس العامة في أرجاء البلاد. واضطر أولياء أمور الطلبة إلى التخلف عن مهامهم لأجل رعاية فلذاتهم حبيسي المنازل.

وعلى نحو متزامن، شهدت المستشفيات آلافا من الجراحات المؤجلة، ومواعيد المرضى الملغاة، نظير الشح في عدد الأطباء والموظفين والفنيين. وتجاهل رقم الطوارئ 999 سيلا من المخابرات التي تسأل النجدة. وفي مطار هيثرو في ضواحي لندن، تكدس جمع غفير من المسافرين في طوابير ممتدة، جراء قلة عدد موظفي سلطات الحدود في الخطوط الأمامية.

ولم تُجدِ نفعا محاولات الحكومة الدءوب ثني المتعهدين بالإضراب عن المضي قدما في مخططهم، وحثهم للمجيء إلى طاولة المفاوضات. واتخذت الحكومة تدابير عريضة لتفادي تبعات هذا الشلل. واستعاضت بمتطوعين وموظفين من مكتب رئيس الوزراء، وغيره من الوزارات، لتولي مهام المضربين في الخدمات الحساسة، كضباط الجوازات والموانئ. وفي نهاية اليوم، وقفت الحكومة مكتوفة الأيدي تتفرج، ليس بمقدورها أن تحرك ساكنا حيال هذا الاستحقاق الديمقراطي فاحش الكلفة. ومنحت هذه الثقافة الحق للغاضبين في إنزال العقوبة في اقتصاد البلد، والمرضى، والطلاب، وأرباب البيوت، أشد بمراحل من إنزالها في الحكومة.

وصبيحة ذات يوم، ولجت على مدرس لي في مكتبه لغرض ما، فألفيته مضطربا شاحب اللون. وحين استقصيت منه الأمر، تبين لي أنه استقبل لتوّه نبأ يقضي بتعرضه للتهديد الوظيفي بخسارة عمله وتسريحه من الجامعة، فقط بفعل الضائقة المالية التي تضرب البلاد، واستجابةً لسياسات التقشف التي تنتهجها الحكومة. وأخبرني أن الحل الوحيد الذي أمامه يكمن في توجهه ناحية اتحاد المعلمين الذي يأمل أن ينافح عن حقه في الحفاظ على مهنته. واستبد به العجب يوم أن نهشه الفضول فاستفسر مقارنا ببلدي، فأجبته مؤكدا له أن الظفر بوظيفة حكومية يعتبر لدينا بالضرورة ضمانا أبديا لهذه الوظيفة. وحين أعاد السؤال للتثبت، شددت على أنني لم أعهد قط في حياتي موظفا حكوميا لدينا خسر وظيفته لقاء أزمة مالية طالت الحكومة.

وتدب في أوساط خريجي الجامعات البريطانيين الأكفاء أقاويل الخشية من المستقبل الوظيفي الغائم الذي يتربص بهم، والشكاية من حال البطالة المتفشية في البلد، والندرة غير المسبوقة في الوظائف. ويبذل أولئك الطلاب عرق جبينهم، ويمتهنون وظائف نادلين في المقاهي والمطاعم لجني رسوم التعليم العالي الباهظة التي تثقل كاهلهم. وفي سياق ذي صلة، ينزوي كثير من أفراد العائلات البريطانية في مختلف المدن في حجرات بيوتهم الصغيرة لتوفير حجرة أو ثنتين يستضيفون فيها طلابا دوليين ينقذونهم عبر الأجرة في تدبر شئون معيشتهم.

بالمقابل، يعرب عدد من البريطانيين عن دهشتهم المقرونة بالغبطة إزاءنا نحن الذين – فضلا عن تجشم دولتنا كافة رسوم دراستنا وتأميننا الطبي – نتقاضى راتبا شهريا، لأجل المصروف اليومي فقط، مقداره 7000 ريال. وحين يتأملون في العدد الهائل للطلاب السعوديين المرسلين على عاتق الدولة لاستكمال دراساتهم العليا، تبلغ الدهشة والغبطة - وربما الحسد - لديهم أوجها.

يقع كل هذا في ظل ملكة مسلوبة الصلاحيات، وحكومة أجلستها الديمقراطية في 10 داوننق ستريت، بيد أنها كبلتها بسلسلة من القيود، وأحاطتها بسياج قصير يسهل على عديدين تخطيه. إنه سؤال (السياق) حول الديمقراطية والدستورية والاستنساخ، يكمن في هذه الصورة الخاطفة، وإنما المعبرة، المرسومة والمقدَ مة إهداءً لطلاب جمهورية أفلاطون.

ts1428@hotmail.com بريطانيا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة