Culture Magazine Thursday  22/11/2012 G Issue 386
فضاءات
الخميس 8 ,محرم 1434   العدد  386
 
سعودة مسجد أمريكي
عبدالله العودة

 

في أول أسبوع قدمت فيه على مدينة بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا بالشمال الشرقي لأمريكا.. قادني البحث إلى أقرب مسجد تقام فيه الجمعة من مكاني الذي أسكن فيه..وكانت أول ملاحظة لفتت نظري أن المؤذن وقف على باب المسجد فوق عتباته لأداء الأذان بصوت جهوري مسموع.. أعجبتني بساطة المسجد وأعجبني أيضاً أن المسجد يخطب فيه ويؤذن ويدير شؤونه أمريكيون مسلمون، وهو الشيء الذي يفتح آفاقاً أفضل للتواصل الطبيعي بين المجتمع الأمريكي وهذا المسجد.. إلا أن الأيام كشفت لي شيئاً فريداً مختلفاً عن هذا المسجد.

في إحدى الخطب الأولى.. لاحظت أن الخطيب (الذي علمت فيما بعد أنه خريجٌ لإحدى الجامعات السعودية) يتحدث عن «الحزبية» وينطقها هكذا بالعربي غير مترجمة ولا يترجمها بل يحاول أن يصفها بطرق مختلفة تفهمك في النهاية أن الحزبية التي يتحدث عنها ويحذر منها مخوفاً ومتوعداً تشكل انحرافاً عن الصراط المستقيم وعن الدين القويم وعن «المنهج السلفي» كما يصفه وينطقه بالعربي بهذه الطريقة ضمن كلمات محدودة يستخدمها باللغة العربية في خطبته.. وأول ما ورد إلى بالي حينما سمعت مفردة «الحزبية» هذه أن المستمع الأمريكي العادي لن يفهم من «الحزبية» حين تترجم بشكل حرفي إلا نظام تعدد الأحزاب الذي تتمتع به أمريكا في ظل نظام رئاسي ديمقراطي يتيح حرية تشكيل الأحزاب وتنافسها على السلطة والانتماء لها وبالتالي التصويت لصالح أحد مرشحيها أو ترشيح نفسه ضمن هذا النظام الحزبي إما للانتخابات التشريعية أو الانتخابات الرئاسية.. وسيجد المسلم العادي المستمع للخطبة حرجاً في فهم موضوع «الحزبية» هذا في مجتمع أمريكي يؤمن بأن الحزبية بمعناها السياسي «حق دستوري» لكل فرد ومواطن أمريكي.. فلماذا يا ترى يتحدث هذا الخطيب عن موضوع غريب مثل «الحزبية» ويحذر منه وينطقه بهذه المفردة العربية الغريبة؟

وكان من ضمن ما لاحظت في خطب هذا الإمام أيضاً أنه كثيراً ما يستشهد بأسماء بعض الشيوخ السعوديين حتى أنه تحدث مرة عن مكانتهم بين المسلمين وعما يسميه «المنهج» ومفردات عربية شبيهة بهذه تعطيك انطباعاً أن المسجد يتبنى شيئاً محدداً دقيقياً جداً يكرره كثيراً في خطبه ويوضحه بأقصى ما يستطيع كي لا يختلط عليك الأمر فتظنهم من عموم المسلمين العاديين، فهو شعور بالتميز والاختلاف ورغبة صارمة بتوضيح أن هذا المسجد بالتحديد يختلف عن سائر المساجد «الأخرى» في اتباعه لهذا «المنهج الصافي» كما كرر خطيبه في أكثر من مناسبة أنه لا يؤيد ما يعمله بعض خطباء وأئمة المساجد الأخرى من «حوار بين الأديان» لأن الدين لا يجوز فيه قبول أنصاف الحلول بل لابد من الرجوع إلى المذهب الصافي للقرون المفضلة كما يعبر، ولذلك يعرّف المسجد بنفسه في الإنترنت واصفاً نفسه بالمسجد «السلفي» وبغض النظر عن دقة هذا الوصف من عدمه إلا أن ملاحظاتٍ أخرى دلتني على ظاهرة مختلفة له.

في إحدى خطب الجمعة التي أثارت بعض الحضور تحدث الخطيب عن «المرأة» وواجباتها في الإسلام مكرراً أكثر من مرة أن المرأة خلقت للعبادة وأن أهم أشكال العبادة طاعة الرجل وخدمته وتربية أبنائه وترك كل أشكال العمل الخارجي لأجل التفرغ لزوجها متحدثاً عن خضوع المرأة للرجل وواجبها تجاه حاجاته الدنيوية والجنسية منتقداً بشدة ما يعتبره ثقافة غربية في تسرب فكرة أن الرجل والمرأة متساويان في أكثر الحقوق، منتهياً بعد كل هذا إلى أن «المرأة خلقها الله لعبادته عبر طاعة الرجل» أو قال شيئاً من هذا القبيل مستدلاً بفتاوى لأحد شيوخ «المنهج» كما يقول وهي الكلمة التي استفزت حتى بعض الرجال وكانت محل جدل بين بعض المسلمين في المساجد الأخرى الذين علموا بمحتوى هذه الخطبة من بعض الحضور. وهذا الخطاب تجاه المرأة قد يتفهمه المسلم العادي في بلد تقوم عاداته على سلوكيات شبيهة بهذه، ولكنه سيصبح صادماً بشكل عنيف لضمير المسلم الذي عاش وولد وتربى في بيئة أمريكية يقدس قيمة المساواة ويحتقر التمييز العنصري بين الرجل والمرأة في المجالات التي يتساوون فيها..

ومن جملة ملاحظاتي العامة في هذا المسجد.. هي تلك العادة غير المألوفة في تقصد إلصاق الأرجل بأرجل المصلي المجاور حين الصلاة حيث إن هذا المسجد الوحيد في المدينة أو ربما في أمريكا الذي يأمر الإمامُ المصلين بإلصاق الأرجل بأرجل المصلي المجاور أخذاً بأن هذا الأمر «سنة» فحسب هذا الرأي «سنة مهجورة خير من بدعة مشهورة» كما يعبر أحد من ينقلون عنه.. وهذه العادة ضايقت أحد أصدقائي الذي أصبح يهرب أحياناً من المسجد كي لا يكون في حرب غير معلنة طوال الصلاة في الهرب من رجل الشخص المصلي المجاور -أكرم الله القراء-.

وحينما جمعت كل هذه الخصائص للمسجد.. مع شيء آخر أغرب توصلت لمعرفة هذه الظاهرة.. ولكن دعوني أذكر هذه الملاحظة الأغرب: حينما علم المنظمون في المسجد بضبط أحد أصدقائي وحفظه للقرآن طلبوا منه مساعدتهم في الإمامة في الصلاة ولكنهم شرطوا عليه شرطاً غريباً أن يصلي بثوب سعودي اقتداءً بكل أئمتهم الآخرين.. وحينما رفض صاحبي هذا الشرط منعه هؤلاء المنظمون من الإمامة.. وهنا بدأت أستعيد ملاحظاتي الأخرى واستطعت أن أجمع كل ذلك وأتلمس وجه هذه الظاهرة التي وصفها أحد أصدقائي بأنها «سعودة الإسلام» وكأن المسلم حتى الأمريكي لا يحسن إسلامه إلا بثوب وطاقية.. وذكر أسماء شيوخ سعوديين.. وتكرار الثقافة السعودية الخاصة.. واستعادة الصراعات السعودية المحلية التي نشأت بظروف سياسية واجتماعية خاصة جداً.. فمتى يا ترى نترك للإسلام طبيعته العظيمة في انسجامه ومناسبته لكل زمان ومكان وحال.. ومرونته الفقهية واختلافات فقهائه ومدارسه التي لا يمكن أبداً حصرها أو إلغاؤها أو تبديع وتضليل سائر اتجاهات المسلمين الآخرين في أنحاء متفرقة من الأرض.. لكي لا نستمع مجدداً لمن يحذر من «الحزبية» في مجتمع لا يفهم من هذه الكلمة إلا الحزب الديمقراطي والجمهوري!

abdalodah@gmail.com أمريكا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة