Culture Magazine Thursday  22/11/2012 G Issue 386
سرد
الخميس 8 ,محرم 1434   العدد  386
 
قصة قصيرة
زوجات للبيع (2-2)
مهنا الحبيل

 

وفي المساء، كان قد جاء أبو أحمد من مشوار مع أبي سعد، دخل إلى المنزل ثم نادى: أحمد.. أحمد، فزعت أم أحمد إليه: ماذا تريد؟ أجابها بِحدّة: أين أحمد؟ ناديه، فاقتربت من الدرج، فأخذت أم أحمد تضرب على الجدار وهي تنادي على أحمد من السطح، نزل أحمد على الفور وهو يردّد: (سمّي يمه) ردت بصوت منخفض وقلق: أباك يريدك، انتقل إلى أبيه فوراً: أمرك يا (يبه).. اذهب لابن عمك جاسم وأبلغه بأن (يتقهوى) عندنا غداً بعد العشاء، وقل له إن أبي يدعوك لزيارتنا، فرح أحمد وتهلل وجهه وأخذ يقبل رأس أبيه: بيض الله وجهك يا أبي، أخذ أبو أحمد يضحك ضحكاً ممزوجاً بالسخرية، ثم التفت إلى أم أحمد قائلاً: زيني لنا العشاء غداً عندي أبو سعد، أحمد متسائلاً: أبو سعد! وما شأنه؟ فرد محتقناً: اذهب وأبلغه ما قلته لك فقط ولا تتدخّل.

ازداد التوتّر في المنزل وذهب أحمد سريعاً يبلغ جاسم رسالة أبيه، ومع الرسالة أبلغه الخبر بأن أبي سعد سيكون متواجداً معك وأحمد قلق ومندهش من موقف أبيه، التفت جاسم إلى أحمد قائلاً له: أنا سآتيكم غداً، وبلغ مريم أن تطمئن بالله ثم تثق بي.

أعدّت أم أحمد العشاء، وأخذت في تنظيف المجلس ورفعت (القفة) (وهي مقدار لمكيال من التمر أو الرطب يضع فيه الفلاح جزءاً من الثمرة المعدّة للمنزل أو للإهداء) رفعتها وحين خرجت من المجلس أرادت تعليقها في الدهليز، صادف دخول أبي أحمد، ومباشرة التفت إلى أم أحمد: دعي القفة، اتركيها، استغربت متسائلة: ماذا تريد بالقفة في المجلس؟ التفت بِحدّة: دعيها لي، فيها حاجة.

صلى جاسم العشاء في المسجد ثم انصرف سريعاً بعد أن كان قد عدّل موعد مناوبته واستبدلها مع زملائه في معمل شركة (أرامكو)، دخل بعد أن أذن له، فسلم على عمه وقبل رأسه، لكن أبي أحمد كان فاتراً للغاية وجافاً، وقبل مجيء أبي سعد أصبح أبو أحمد يردّد: (ياولدي يا جاسم.. الزواج قسمة ونصيب لا أحد يأخذ إلا المكتوب له..) ردّ جاسم: وإن شاء الله إن مريم مكتوبة لي يا عم مثل ما سُميت لي.. أبو أحمد: يا ولدي البنات كثر ولست ملزماً بمريم، وهي ليست ملزمة بك، فيعيد جاسم نفس عبارته مجدداً: مريم من نصيبي وأنا من نصيب مريم إن شاء الله.

دُقّ الجرس، فختم أبو أحمد بقوله: يصير خير، دخل أبو سعد بعد أن قوبل بتجهُّم من أحمد وجاسم، ثم وضع العشاء، وبعد الطعام والقهوة، التفت أبو أحمد مخاطباً الجميع، وجاسم قلق يشعر بخطورة الحديث على مستقبل علاقته بمحبوبته مريم التي طالما وعد بالزواج منها ووعدت هي كذلك، لكن أبي سعد بدا مرتاحاً وكأنما الأمر لا يعنيه، بدأ الحديث أبو أحمد قائلاً: الزواج قسمة ونصيب، وأنا (أبي) للبنت (اللي) يقوم بها وبنتي مريم غالية علي سمية الوالدة وما شاء الله بكرة مدرسة، ومال وجمال، وبو سعد يردد: والنعم بك وبنتك يا بو أحمد.. أبو أحمد مستأنفاً:

ولكن الرجل الذي لا يقدر على تكاليف المرأة الله يقسم له من يقوى تكاليفها وحقوقها وفي هذه اللحظة وضع أبو أحمد يده على القفة، وجاسم حادا بصره عازم على المواجهة المتطلبة بين الدعاء في نفسه المؤمنة وبين القلق والتوتر من عمه الجشع..

سحب أبو أحمد القفة قائلاً: اللي بياخذ بنتي يملا هالقفة دراهم (ملأ هذا الوعاء الزراعي من خوص كان يرمز إلى مبلغ ضخم جداً يعتبر في ذلك الزمان وفي هذا الزمان، لكنه في تلك الفترة يعتبر معجزا فهو تقدير لمبلغ 300000 ريال مهراً للفتاة) صُدم جاسم من هذا الموقف ولكن قبل أن يلقي أبو أحمد القفّة بينهما نزعها جاسم قائلاً: مريم يا عم عندي مهرها.

قال أبو أحمد يا ولدي لست قادراً وحالك معروف ورد جاسم أنا أدرى (ما لك إلا أملاها لك).. رد أبو أحمد: تعرف يا جاسم وش قدرها؟؟ أجاب جاسم أعرف وستأتيك إن شاء الله سيصلك المطلوب، كان أبو سعد يلتفت ساخراً اعتقاداً بأن هذه النبرة عاطفية وأنه سيعجز عن توفير المبلغ، وبالتالي سيخرج أبو أحمد من الحرج حين يوفر هو المبلغ ويدفعه.. بعد انسحاب أحمد خرج جاسم لا يعرف كيف يدبر الأمر، منذ أن ركب سيارته بدأ تفكيره بهذه المسؤولية الكبيرة وكيف يجمع المبلغ؟؟

الصدمة كانت عند مريم أشد والألم أقسى.. دخل أبو أحمد بعد خروج بو سعد وهو يشعر بالراحة بأن الخطة قد نفذت وأن جاسم سيعجز عن التسديد، وبالتالي يحقق ما يريده من تحصيل المبلغ، ولو حصلت معجزة وسدد جاسم المبلغ فالمهم أن المبلغ لديه.

أيام من التوتر والتفكير يمر بها جاسم، بلغ أبو جاسم الخبر ولم يكن يملك من شيء سوى بستان النخل الذي ورثه من آبائه الغالي عليه، فاستدعى ابنه جاسم وقد علم بالأمر، وقال له ياولدي عمك ظالم ظالم، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل، هذا النخل بعه وادفع مهر مريم..! كان جاسم يعرف بالضبط قيمة هذا النخل لدى والده والنخل متشعب في قلب الفلاح كجذور النخلة في الأرض، فرفض بشدة واعتذر لأبيه الذي حاول أن يثني جاسم عن رفضه ولكن جاسم أصر.

تسرب الخبر إلى زملاء جاسم في العمل، وبعد أن تدارسوا وقرروا أن يكون الأول في الجمعية، أي يستفيد من المبلغ الذي يجمعونه للسلفة بينهم كأول طرف وأبلغوه بقرارهم الثاني بأنهم سيخرجون ثلاث سيارات أقساطاً باسم كل واحد منهم، ثم بعد مرور عام يسدد ما يستطيع حسب استطاعته، كان الموقف نبيلاً ورائعاً وشهماً، إلا أن جاسم لم يتعود أن يأخذ مالاً من أحد، لكنه قبل بالفكرة وشكر لأصدقائه صنيعهم العظيم... أُستخرجت السيارات وباعها بالطريق المعروف لكي يسيل المبالغ، وفعلاً جمع المبلغ فجاء فرحاً إلى منزل أبي أحمد وطرق الباب فأذن له.. ظن أبو أحمد بأن جاسم سيعتذر فقد أعجزه السداد، ولكنها لحظات حتى رفع جاسم المبلغ وهو يقول بصوت جهوري مسموع: سم ياعم هذا مهر مريم قل مبارك يا عم، قل مبارك، بات الرجل يحملق في المبلغ مشدوهاً، ومع تأكيد جاسم عليه ولمعان النقود قال مبارك مبارك يا ولدي، سمعت أم أحمد فلم تتمالك، فأطلقت تلك الزغرودة الفلاحية الجميلة.

لم تسع الأرض مريم من السعادة ولكنها مشوبة بالألم، ماذا عسى جاسم يصنع لكي يسدد هذا الدين؟؟

اتصلت بمنيرة شقيقة جاسم، وبثت لها قلقها، وقالت لها منيرة: قولي لجاسم أنا على استعداد لأي شيء أي شيء يجمعني معه وببيع الذهب اللي سيشتري لي أبي بعد الزواج مباشرة، ويكفيني غرفة مع جاسم، طمأنت منيرة مريم مرددة القول المأثور عند وطننا الخليجي المؤمن: الله كريم.. الله كريم (تضيج) وتفرج يا مريم الله يبارك لكم جاسم (رجال) وأنتِ لا عليك سيتدبر الأمر.

انتقل جاسم بعد الزواج إلى الظهران بعد ترقيته في مرتبة وعمل إضافي ليحاول أن يسدد به الدين المثقل، فانتقل لكي يسكن في شقة متواضعة في الثقبة مع مريم التي كانت تحاول أن تملأ حياته بشاشة وهي قلقة على ما يثقل ظهره مادياً من هذا الدين الذي كلفه إياه أبوها. وفي صباح يومٍ بعد ثلاثة أسابيع من الزواج، كانت مريم تعتذر لجاسم لعدم رغبتها بالنزول إلى قريتها ورؤية والدها بعدما فعله وهو يحاول أن يخفف عنها ويقنعها بحق الوالد، وأن تنسى هذه القضية بعد أن منّ الله عليهما كحبيبين بالتلاقي.

طُرق الجرس ولم يكن هناك سوى مريم، جاءت من جوار الباب وهي تسأل بصوت متقطع: من من يطرق الباب؟.. جاءها صوتٌ تعرفه جيداً: افتحي، أنا أبوك أبوك يابنتي، لا إرادياً انطلقت عبارتها النارية: (ما عندي أبو أبوي باعني.. باعني)، ثم دخلت للمنزل، كان الجواب كالصاعقة، انهار الرجل فلم تحمله قدماه فجلس خارج المنزل مستنداً إلى الجدار، ثم غمره البكاء كأنه استحضر الآن وأفاق من آثار ما فعله، بدت له الصورة كاملة، كيف يراه الناس؟ فكيف إذا كانت الضحية ابنته وزوجها ابن عمها.؟

في هذا الوقت، كان موعد وصول جاسم غير المتوقع، بسبب وجوده في مهمة عمل، خرج مبكراً وقصد المنزل فإذا به يرى عمه على الباب بتلك الحالة ففزع ونادى: مرحباً ياعم عسى (ما شر) تفضل ياعم دخل البيت وهو ينادي على مريم.. رفض أبو أحمد الدخول وجاسم في ذهول، ثم انصرف الأب مباشرة، سأل جاسم مريم، فأبلغته، وقد شعرت بالأسى والألم لما فعلته، فوبّخها، وفي نفس الوقت، علم أن هذه الزفرة إنما كانت من نفس محتقنة تشعر بالظلم والضيم، ولكنه جعلها تهدأ لتبدأ بعد ذلك سيرة جديدة تعالج فيها الموقف وتنسى الماضي، هكذا هي سنة الحياة للسائرين في دروب الإيمان.

وعزما أن ينطلقا من يوم العطلة القادم إلى القرية لزيارة أبي أحمد، ولكن في صباح اليوم التالي يوم العمل الأخير في الأسبوع طُرق الباب مجدداً، قامت مريم وإذا به نفس الصوت إنه والدها فهمّت مسرعة: (سم يبه).. (سم يبه) لم يدخل.. ومن أسفل الباب دفع عند قدميها شيئاً ولم تشعر إلا وهي ترى (القفة) إنها القفة ذاتها المملوءة نقوداً: أنا أبوك اللي (شاريك) يابنتي والسموحة، مدت مريم يدها وأطبقت على يد أبيها وهي في حالٍ من التأثر والبكاء، وألحت عليه حتى دخل (الشقة) و(القفة) المملوءة نقوداً تحت الأقدام.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة