Culture Magazine Thursday  06/06/2013 G Issue 409
فضاءات
الخميس 27 ,رجب 1434   العدد  409
 
الفتوى ليست هي الشريعة
عبدالله السعوي
-

 

تزخر الكتب الفقهية على تنوعها المذهبي وامتدادها التاريخي بألوان من الخلافات الاجتهادية, والتراث الفقهي بطبيعته طافح بكم هائل من الأقوال المتعارضة على نحو يجلي لنا جماليات الشريعة وأفقها الفسيح وما يمتاز به هذا الدين من رحابة وبحبوحة جعلته يتجاوز حدود الزمان ويتخطى حواجز المكان.

الخلاف الفقهي يكثف الخيارات ويولد البدائل ويوسع هوامش الحركة ويضفي قدراً هائلاً من المرونة على الأداء التعبدي والمراد هنا بطبيعة الحال هو ذلك الخلاف المدلل المعتبر الذي يستصحب المنهجية وينسجم مع طبيعة أصول التشريع، وكثير من مثل تلك الخلافات بين الدوائر الفقهية تدور بين صحيح وأصح لا بين صحيح وضعيف الأمر الذي يقودنا إلى أن نتعاطى معها بذاكرة انفتاحية متحررة ومنعتقة من ربقة الجمود والأحادية ومدركة لطبيعة التباين بين الفقه كـ(فتوى) وكقضاء وكفهم بشري محكوم بطبيعة التكوين الذاتي ويخضع بطريقة أو بأخرى لمقتضيات السيكولوجيا من جهة وبين (الشريعة) كمصدر إلهي مفعم بالقداسة من جهة أخرى، ولذلك ليس بمكنة أي فعالية فقهية مهما علا كعبها ومهما كانت راسخة القدم في الميدان الفقهي أن تصف رؤيتها الفقهية بأنها هي الشريعة، وإنما هي اجتهاد ذاتي مفتوح على كافة الاحتمالات وهو ما قرره الإمام الشافعي حينما قرر أن قوله «صواب يحتمل الخطأ وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب» إنها دعوة شافعية تؤسس للون من التعاطي الفقهي المنفتح مع الأقوال المغايرة مع أن الحق في النهاية واحد كما هو معروف في مسألة «التصويب والتخطئة» حيث يقرر جمهور الأصوليين - خلافاً لما ينسب إلى أبي حنيفة ولما تعتمده المدرسة الجاحظية - أن الحق واحد لا يتعدد في ما يتصل بمسائل الاجتهاد الظنية, والحقيقة ومع أنها طبقات عدة إلا أنها في المحصلة النهائية بنية ذات طابع أحادي إذ لا يتصور عقلاً تعدد أشكال الصواب مع تضادها أو تناقضها في الآن ذاته, بينما المجتهد مأجور إذا استكمل شرائط الاجتهاد ورام نشدان الحقيقة.

كثيراً ما نسمع من يندد - نظرياً فقط!- بالممارسات الانغلاقية وسلوكات التعصب ويُشعر الآخرين بأنه لا يكل من السعي إلى تفكيكها وبلورة كل ما من شأنه الإسهام في الانفصال عن تلك الروح الحدية لكن هذا الطرح التنظيري الرائع الذي بلغ في التجرد منتهاه سرعان ما يتلاشى وتتوارى مصداقيته إذ حينما نكون على المحك وتحين ساعة التطبيق نجد ذواتنا مسكونة بروح قمعية نستعيدها على شكل ما حتى تبدو متبرجة تطبع السلوك وتوجهه بطريقتها الخاصة وهكذا يستحيل التعصب من سلوك مدان على الصعيد اللفظي إلى ممارسة مبجلة يتصاعد حضورها باستمرار!

كثير منا يدين التعصب بكافة تفاصيله لكن هذه الإدانة لا تعدو إلا أن تكون إدانة شكلانية فقط إذ سرعان ما يتجلى أن هذا التنظير لا يتجاوز أن يكون محض ادعاء تقرر حقائق الواقع عدم مصداقيته في كثير من الأحوال إنه ادعاء لا ينفي الحقيقة القابعة بقدر ما يكرسها كبنية دفينة تتشكل على ضوئها ملامح المنهج، ولا غرو فما تستبطنه الذات يتأبى بطبيعته على الكمون إذ لا يلبث أن يتمظهر سافراً إما بهذا الشكل أو ذاك.

هناك من يتوتر, ويتشنج ويحتد حينما يتردد على مسامعه نوع من الطرح الفقهي المغاير لمألوفه والمباين لمعتاده حتى ولو كان هذا الطرح له مستنده العلمي ويتكئ على ما يكفي من المبررات المنهجية إذ تجد التعسف في ممارسة الرفض غير المدلل وبآلية لا تنم عن موقف حيادي معرفي بقدر ما تعبر عن طغيان حالة وجدانية انفعالية تمنح القداسة - على المستوى الشعوري!- لمتبنيات الأنا ,تلك الحالة قد تكون مستساغة وبالإمكان تفهمها حينما تصدر من ذات امعية وأجنبية عن عالم المعرفة لكن الإشكالية تعظم حينما يصدر ذات السلوك عمن له حظ في القراءة الفقهية وعايش الخلافات وألِفت مسامعه الروايات المتعارضة حتى عند الإمام الواحد حينما ينتقل من قول إلى مغايره، بل ومن مذهب إلى آخر، إذ كان من الجدير بمثل من كان هذا شأنه ممن يعايش الخلافات الفقهية على المستوى النظري أن تضمر لديه تلقائياً عقلية الانغلاق وتتوارى الجزمية وتتضاءل مساحة القطعية مقابل تنامي مستوى المرونة وتراكم درجات الاستيعاب.

وحاصل ما يمكن قوله: إن الانحياز الكامل والمطلق للمعرفة هو الذي يحدو الباحث للتجرد وعدم مسايرة الإيحاءات البيئية, وتجاوز أثر المسبقات القبلية الناجمة عن طغيان روح التعصب والاستقطاب.

-

Abdalla_2015@hotmail.com - بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة