Culture Magazine Saturday  14/09/2013 G Issue 411
عدد خاص
السبت 8 ,ذو القعدة 1434   العدد  411
 
الحكمة في مواجهة الشدة السياسية
فؤاد مطر

 

عندما كانت قضايا المنطقة تزداد تعقيداً وبالذات الخلافات التي تعصف بها، كنت أجد نفسي ككاتب وصحافي أغتنم فرصة اللقاء بالشيخ جميل الحجيلان أطلب منه الرأي والتوضيح، فإذا به يضفي في الحديث معنا سواء في سنواته الإعلامية ثم في سنواته الدبلوماسية ثم عندما أدى الواجب الأكثر تميزاً طوال سنواته كأمين عام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، الكثير من الحكمة التي هي في استمرار الإطار لتعامله مع الصراعات التي لا نغالي إذا نحن قلنا إنها، وأعني حكمة التخاطب والتناول والصياغات، ساهمت في ترويض حدة تلك الصراعات، وهذا ليس لأن جميل الحجيلان اعتمد حُسن التدبير وأحسن المفردات فقط، وإنما لأنه يأخذ في الاعتبار دائماً مقتضيات الخصوصية من حيث الجذور والتقاليد لهذا الحاكم أو ذاك ولا يقتصر ذلك على أهل القرار العربي ممن توطدت الأواصر بينهم وبين أهل الحكم السعودي وعلى قادة دول الخليج الذين يقفون صفاً واحداً تحت المظلة الواقية لمجلسهم، لكن الخصوصية التي نشير إليها تتقدم في استمرار على أي اعتبار، وإنما يعتمد الكياسة نفسها مع كبار القادة والمسؤولين الدوليين، خصوصاً أن اختلاط الإقليمي بالدولي رافق تجربته الدبلوماسية التي تتسم بالفرادة كونها اقتصرت بداية على أن يكون أول سفير للمملكة لدى الكويت المستقلة المطموع بها من عراق عبد الكريم قاسم والتي كادت تصبح (مشكلة فلسطين ثانية) بعدما انبعث الطمع بها من عراق صدَّام حسين، واقتصرت نهاية على أن يكون سفيراً لدى فرنسا المسرعة الخطى من أجل تثبيت نفسها على خارطة الدول الكبرى. وبطبيعة الحال فإن باريس التي هي بوابة الولايات المتحدة وروسيا والصين إلى دول أوروبا جعلت تجربته الدبلوماسية الطويلة في عاصمة أوروبا أكثر غنى. وهو في حال أضاء مجتمع أهل السياسة والقرار بمذكرات عن السنوات الباريسية، فإننا سنجد حتى من خلال القراءة بين السطور دواعٍ تجمع بين التواضع من جهة وبين حساسية الموضوعات والأحداث وظروف أبطال تلك الأحداث من جهة أخرى، كم من إنجازات يمكن للحنكة والحكمة معاً أن تحققها وأي صعوبات يمكن أن تذللها.

وهنا أجد نفسي بعد كل مرة أصغي فيها إلى الشيخ جميل عن وقائع حفلت بها منطقتنا التي رماها الزمان بظروف هي أقرب إلى عظائم الأمور، وكذلك عن أمزجة زعامات اعتمدت سياسة التهديد بالويل والثبور وما زالت مع الأسف لا تتنبه إلى القول المأثور ما أكثر العِبَر وأقل الاعتبار، أستغربُ لماذا يتحفظ مَن هم الأكثر ثراء من حيث المعرفة ومِن حيث إنهم خزان من الوقائع التي طالما أصابتها بعض التشويهات وتحتاج إلى الشهود العدل من أجل أن يصححوا بالمصداقية التي تتسم بها تجربتهم، في شأن كتابة مذكراتهم. هذا إلى أن الشيخ جميل عندما يستحضر من الذاكرة بعض الوقائع المتصلة بعلاقات بين المملكة ودول عربية وإسلامية يُبقي شخصه بعيداً عن السرد حتى إذا كان هو في بعض هذه الوقائع شريكاً في صياغة المشهد الذي يتحدث عنه، باعتبار أنه إما الوزير وإما السفير وإما الأمين العام.

وتلك الصفة تعكس إيمان الرجل بأن قيمة الحدث وأهميته هي أولاً وآخراً في الدولة الشريكة في صناعته. كما أن الشيخ جميل في استحضاره للوقائع يلمس بالكثير من الرقة الجوانب السلبية من سلوكيات أبطال تلك الوقائع ربما مراعاة منه لظاهرة الشخصانية، وربما لأنه في حال كانت هنالك سلبيات وإيجابيات بالنسبة إلى واقعة ما فإن التركيز على ما هو إيجابي يخفف في منظوره من أثقال الجانب السلبي، هذا إلى أن الليل العربي - الإسلامي كان على مدة خمسة عقود يفتقد إلى الضوء الساطع لأن الفواجع والتآمر والانقلابات على أنواعها والثورات التي يصعب على العقل أن يتقبل دواعيها كانت كثيرة، ولأن الاقتتال بين أصحاب العقيدة الواحدة وتطاول الجار القوي على الجار الضعيف بات من صفات بعض أهل القرار. وعندما يكون الليل العربي - الاسلامي على هذه العتمة يصبح طبيعياً التوقف أمام أي لحظة مضيئة من دون أن يقفز الشيخ جميل ومن منطلق السارد الأمين فوق مقتضيات تلك اللحظة ومن كان الحاكم صاحب القرار أو من يُمثله الذي يعود الفضل إليه في الإضاءة المشار إليها مثل تلك المتمثلة بوقفة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمة الله عليه عام 1967 والتي من خلال نخوة الملك وحكمته تحولت تلك القمة إلى حالة شروق عربية بعدما كادت العتمة الناشئة عن هزيمة الخامس من يونيو 1967 تضع المنطقة في مهب اليأس القاتل وكسوف طويل لشمس الأمتين.

نصل إلى نقطة أساسية نشير إليها بصيغة التساؤل والإجابة.

أما التساؤل فهو: إذا كان تاريخ حقبة من نصف قرن مخضبة بعض سنواته بالدم المراق على جوانب الكرامات والأصول والتقاليد والخصوصية والتراث، وبعض سنوات أخرى مجللة بالمواقف التي تتسم بالكبرياء والنخوة واللهفة، لن تُروى من جانب الشهود العدل أمثال الشيخ جميل الحجيلان، فهذا يعني أن تتوارى في عالم النسيان، أو أن أطرافاً ستلوي وهي تروي الوقائع وتُحمِّل أبطال تلك الوقائع وقد باتوا في ذمة الله ما قد يلقي ظلالاً على تاريخهم.

وأما الإجابة فهي:

إن الشاهد العدل هو ذاكرة للوطن ومؤتمن من دون تكليف على دور يؤديه من أجل التنوير وإزالة الشوائب عن مواقف كريمة. وعندما يكون الشاهد بكياسة الشيخ جميل الحجيلان ورونق أسلوبه ونقاء ضميره فضلاً عن تداعيات معاناته من أوزار ارتكبها بعض أهل القرار العربي وفي اعتقادهم أنها إنجازات لمصلحة الأمة وليست بمثابة أخطاء بل وربما خطايا، فإنه في هذه الحال يصبح مرجعية من واجبها أن توضح وتصحح وتُنبِّه من خلال ما تكتب للتاريخ وليس فقط من خلال ما ترويه عن لحظات تاريخية في مجلس. وهذا ما فعله الشيخ عبد العزيز التويجري وكان على أهبة أن يفعل الشيء نفسه الشيخ ناصر المنقور رحمة الله على الاثنين، وما أتمنى أن يفعله الشيخ جميل إبراهيم الحجيلان - أطال الله عمره - الذي زادنا معرفة بأمور كثيرة كانت أحاطتنا بها دون ضفاف الحقيقة. ومن أجل ذلك فهو في نظري ليس مجرد أحد الذين يعتز العمل السياسي والدبلوماسي العربي بهم وإنما هو دائم الحضور في ذاكرتي وبالذات في ساعات إعصارات الشدة السياسية في أمتنا والتي تتطلب من صاحب القلم أن يكون بحكمة جميل الحجيلان.. وبذلك يساعد ونُجاريه في تهدئة الإعصار.

والله الموفِّق ومُسدِّد الخطى


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة