Culture Magazine Saturday  14/09/2013 G Issue 411
عدد خاص
السبت 8 ,ذو القعدة 1434   العدد  411
 
صاحب المعالي!
محمد سعيد طيب

 

عندما كان وزيراً للإعلام.. كنت في شرخ الشباب.! وما أحببته.. في تلك المرحلة.!

ولم ألتق به؟ قط؟ خلالها.!

كنت أعتبر أن أداء وزارته؟ آنذاك؟ يصادم كل آمالنا القومية وتطلعاتنا العروبية وأحلامنا الوحدوية.!

واكتشف - ولكن بعد سنوات عديدة - أنه لم يكن قومياً وعروبياً ووحدوياً فحسب وإنما كان - أيضاً - وطنّياً مخلصاً.. أضاف لكل الجهات التي كان مسؤولاً عنها.. ولم يسجّل على نفسه - كمسؤول أول في الإعلام أو الصحة أو السفارة - أنه فرض على الوظيفة أحداً من عشيرته.. أو عمل على إقصاء أحد من أبناء العشائر الأخرى.. أو تورّط في ممارسة عنصرية أو مناطقية - كما تورط فيها البعض من وزرائنا - مع الأسف.!

كان حريصاً - في الأغلب الأعم - على معايير الجدارة والكفاءة والاستحقاق.!

ربما كانت مسئولياته - كرجل دولة - تفرض عليه الكثير.. لكن عينه.. كانت - في كل المراحل - على المصالح الحقيقية لمواطنيه ووطنه..!

قبل نحو ثلاثين عاماً.. دعاني صديقي الدكتور فايز بدر رحمه الله.. إلى عشاء في منزله بالرياض - وإذ أنا أمام المسؤول الكبير.. بكل توهّجه - الذي عرف عنه..!

قال لي: أحييك.. يا بني..!

وأحيّي تهامة.. مؤسستنا الإعلامية الفتيّة.. والواعدة..!

لقد اطلعت على إصداراتكم المتنوعة..وأنا أتابعها - دوماً - وأعتبر مشروعكم الثقافي - هذا - إضافة جيّدة للوطن، أرجو أن أتمكّن من زيارة تهامة.. عندما أكون في جدة.

قلت: مرحباً.. معالي الشيخ.. هذا فضل منك وتشريف لنا..!

بعدها - بأيام قليلة - اتصل بي الصديق الدكتور فايز.. ليبلغني أن معالي الشيخ سيقوم بزيارة تهامة أوائل الأسبوع القادم.

فرحت.. ووجدت نفسي.. أعطي الموضوع ما يستحق. أصدرت «تعميماً» عن الزيارة المرتقبة.. وضرورة الظهور بالمظهر اللائق.. واستدعيت كل مديري الفروع والمكاتب والشركات الشقيقة.. ليشاركوا في لقاء معاليه.

أعددنا قاعة اجتماعات مجلس الإدارة.. للقاء المأمول.. واتفقنا مع أحد الفنادق الكبرى.. لإعداد غداء مناسب.. ويليق بالرجل الكبير.

جاء معاليه في الساعة المحّددة.. وبعد جولة تفقّدية على كافة الأقسام والإدارات في تهامة.. بدأ اللقاء الجماعي في قاعة الاجتماعات.. وشرع معاليه يقدم خلاصة مركّزة لتجربته في الإعلام.. ومرئياته لمستقبل تهامة.. (كان الترتيب وحرصاً على وقت معاليه.. أن يتمّ اللقاء مع مسؤولي تهامة.. مع تقديم الغذاء في ذات الوقت).

وبدأ تقديم المقبلات المعتادة..

وبعدها توقّف كل شيء!

مضى وقت طويل نسبياً!

وفجأة.. اقترب منّي أحد المديرين في تهامة.. ليهمس في أذني بصوت يعتريه الخوف الشديد:

- لو سمحت.. دقيقة واحدة!

أستأت جداً.. ولكني أستأذنت من معاليه.. وقمت من مقعدي.. إلى حيث كان ذلك المدير ينتظرني.. ليقول لي: تعال.. لو سمحت!

وذهبت معه إلى غرفة جانبية.. لأكتشف - ويا للهول! - أن كل الطعام المعدّ للتقديم قد جرى التهامه.. ولم يتبق إلا آثار العدوان!

هذه المفارقة الغريبة والمخجلة حقاً.. يعرفها - معاليه - اليوم ولأول مرة بعد ثلاثين عاماً.. لكني لا يمكن أن أنساها!

اقترح معاليه.. أن تقدم تهامة المجموعة الكاملة لإصداراتها.. للمكتبة الوطنية في باريس.. لأن المكتبة - كما أوضح - يرتادها - على مدار العام - العديد من المستشرقين الأوربيين والباحثين العرب.

استجبنا - في تهامة - للاقتراح.. بكل التقدير والاهتمام.. وذهبت إلى باريس.. ومعي المجموعة الكاملة للإصدارات.. وتفضل معاليه وحضر مناسبة التقديم.. وألقى - بين يدي رئيس المكتب والفريق العامل معه - كلمة بليغة.. وبلغة السربون إن صالح التعبير.!

عندما انتهت علاقته بالسفارة في باريس، وتسلّم مهامه كأمين عام لمجلس التعاون الخليجي.. اكتنف علاقتنا الكثير من البرود والفتور!

وقد جاءني معاليه - وقبيل مغادرته لمنصبه الرفيع - وتفضّل بزيارتي في بيتي.

قال - وبكل الود - جئت لأتفقدّ أحوالك وأطمئن عليك.. وفي ذات الوقت.. لأخبرك بأنني سوف لن أجدّد لولاية تالية.

وأضاف: إني أقترب من الثمانين يا بني.. وأريد أن أتفرّغ لقراءاتي.. وآمل أن أتفرّغ - أيضاً - لكتابة مذكراتي.

لا يمكن أن أنسى تلك اللفتة الكريمة!

لئن خسرنا إدارياً قديراً وحازماً.. فلقد كسبنا المثقف الواعي.. الذي يحمل الهموم الكبرى لأمته.. ويتفاعل معها.. ويعّبر عنها.. عبر إطلالاته الباهرة - بين الحين والآخر - في صحيفة «الشرق الأوسط».. والتي تمثل للقراء متعة فكرية حقيقية.

وننتظر - بفارغ الصبر - ومعنا كل المثقفين العرب.. صدور مذكراته.. التي أعتقد - جازماً - أنها ستكون إضافة جيّدة إلى المكتبة العربية.

ومضى.. ويمضي - بنا- قطار العمر.. على ما نحب.. وعلى ما لا نحب!

ظللنا على تواصل.

وتظلّ مفارقة عجيبة.. ولافتة فعلاً.

رجل الدولة.. والناشط الوطني.

مؤكد أن ثمة قواسم مشتركة: الوطن، العروبة، الثقافة.... غير أن ثمة قواسم أخرى.. قد تبدو غامضة أحياناً.. لكن إيحاءاتها تبدو لافتة حقاً.

اتصلت به.. بعد ظهر أحد الأيام من عامنا هذا أنا من جدة.. وهو - في بيته - بالرياض.

جاءني صوته - الذي عهدته - قوياً.. رخيماً.. مفعماً بالود والعاطفة النبيلة:

- يا ... الله.!

كنت.. يا أخ سعيد وإلى ما قبل برهة على مكتبي.. أكتب مقالاً.. وشعرت بشيء من التعب والسأم.. فقمت إلى مكتبي.. ومددت يدي - وبشكل عفوي - إلى أول كتاب في المتناول وإذا به «مذكرات الطيّب صالح» .. فتحت الكتاب.. وبشكل عفوي أيضاً.. وإذا بالأديب الكبير.. يتحدث عنك.. وعن «ثلوثيتك» عندما زارها قبل بضع سنوات.!

أستطيع - اليوم - أن أزعم.. أنني واحد من شريحة ليست كبيرة.. عرفت (جميل الحجيلان) واقتربت منه كثيراً.!

وهذه الفرصة لم تتح للآخرين.. مع الأسف.!

إن الكثير.. يمكن أن يقال عن هذا الرجل الكبير.

لقد كانت معرفته.. إضافة جميلة إلى حياتي.. كما كانت مسيرته المشرّفة.. إضافة جيّدة لوطنه.

طابت له الحياة..!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة