Culture Magazine Saturday  28/09/2013 G Issue 413
فضاءات
السبت 22 ,ذو القعدة 1434   العدد  413
 
منطق الضرورة
المصطلح الاضطراري
ياسر حجازي

 

(أ)

تحت منطق الضرورة يتجاوز المرء المحظورات المدنيّة والدينيّة، ويجد في قول الفقهاء: (الضرورات تبيح المحظورات) ما يعينه على ذلك، فتكون الضرورة التي أنتجت التشريع سبباً لتجاوزه في اختلاف الظروف الناشئة للتشريع ممّا يفتح باب التأويل الأهوائي تحت سلطة تفسير منطق الضرورة وخلق غايات تهدّد السلم الأهلي وتجرح فاعليّة القانون؛ وتحت المنطق ذاته تَنتهك أيّ سلطة -وبنسبٍ متفاوتة- حقوق الإنسان بدءاً بدول الحضارة والمركز وليس انتهاءً بهذا الشرق المدفون تحت منطق الضرورة العمياء وحاكميتها وحكوماتها.

وعلى الرغم من (لا-عقلانيّة) نواتج الضرورة في جرح القانون الذي فرضته لضمانة حماية الإنسان وكرامته وعيشه وحريّته، وأنّ التناقض حالٌّ في طبيعة الضرورة نفسها، حين تكون ملزمة لحالة ثمّ في ظرف آخر ملزمة لتجاوزها، فإنّ الضرورةَ صانعة الوعي الأول هي رَوْحٌ أبديٌّ يدفع الإنسان للتكييف مع الطبيعة وتطويعها لمصالح سعادته وحياته: بين اكتشافاتٍ واختراعات وافتراضات ونظريات وتطبيقات، ولم يكن الواقع ليتغيّر إن لم يُجبل الإنسان وفي روحه هذه الضرورة التي لا تجعله يستسلم لحالٍ أو مجهول وتقف إلى جانب طموحاته التي إن بدأت بالأرض فإنّ حدودها لا نهائيّة في الآفاق العالية؛ أليست الأساطير والعلم وما بينهما نواتج الضرورة/الروح؛ هكذا نكون أمام ضروراتٍ متعدّدة: (1) منها ضرورات يتوجّب على الإنسان الحديث/القانوني محاصرتها وإزالة الأسباب التي تؤدّي إلى وجودها، لأنّ وجودها يهدّد أساس العقد الاجتماعي المتضمّن الموافقة على منظومة من القوانين والأعراف يحتكم الناس إليها، بينما الضرورة تقضي على هذه الحاكميّة، هكذا تُنتهك الوصايا العشر بروح اضطراري فلا يكون القتل جريمة إن كان ضرورةً، ولا تكون السرقة جريمة إن كان ضرورة لمجاعة، وهي الإشكاليّة الظاهرة في تفسير القانون وتفسير الضرورة التي تسقط المسوؤلية من الأفراد وتحيلها إلى السلطة؛ (2) ومنها: الضرورة الانتمائيّة التي بموجبها يتنازل المرء عن حريّته المطلقة لأجل الانتماء إلى كيان سياسي، فتحتّم عليه الضرورة الامتثال إلى تشريعات وقوانين لأجل الانتفاع بالانتماء وفوائده ومصالحه بين العامة والخاصة. (3) ومنها ضرورة الإنسان صانعة الوعي والعلم لتطويع الأرض والانتصار على مصاعبها لمصلحة الإنسان.

(ب)

يأتي هذا الموضوع بعد عامين وتزيد من فوضى غير خلاقة في المنطقة العربيّة، إذ أدّت الاضطرابات في دول الربيع العربي إلى نشوء (الضرورة السياسيّة) والتي أفرزت ثورات أطاحت بحكومات عتيدة، وأنتجت حكومات مؤقّتة اضطراراً، لكنّها عجزت عن إنتاج (ضرورة ثقافيّة) تفرز وعياً تنازليّاً وتداوليّاً وتعايشياً، كأنّ وعي العربي مجبول بأكثريّته على الإقصاء والتطرّف؛ وما يُخشى عليه اليوم أن يتحوّل هذا الطارئ (مرّة أخرى) من نتيجة ضرورة مرحليّة علّتها اضطرابات سياسيّة/اجتماعيّة/اقتصاديّة إلى ناتج ضرورة يتمتّع بالاستمراريّة تحت قوّة المستفيدين من ورائه، وأقول (مرّة أخرى) لأنّ الحكومات العسكريّة التي أعقبت الاحتلال الأجنبي في منتصف القرن العشرين جاءت تحت ضرورة التحرّر الوطني الذي خلقه الاضطراب السياسي المتمثّل في الاحتلال، لكنّ الضرورة تحوّلت من آلية لطرد المحتلّ إلى حجّة لبقاء العسكر نصف قرنٍ وتزيد، وتأجل بناء الدولة الحديثة تحت حالة الطوارئ/الضرورة، والتي خلقها الاضطراب الأمني المتمثّل في إسرائيل والخطر المتبادل بين اليمين واليسار الثوري/الطوباوي، فكأنّ الحالة تعود مرّة أخرى ليتحوّل الطارئ إلى حالة مستقرّة تحت ضرورة الاضطراب الأمني المتمثّل هذه المرّة في (الإخوان المسلمون) بحيث لم تعد إسرائيل حجّة كافية لإباحة الطوارئ وتعطيل الحريات؛ هكذا تظهر إشكاليّة الضرورة في بقاء الطارئ والدخول في التزامات ناتج الضرورة، فناتج الضرورة يبيح للمنتصر الواقع في تجاوز الدستور والتشريعات وارتكاب المحظورات تحت ذريعة حالة الضرورة. وتبقى دول الخليج العربي-نسبياً- بمنأى عن هذه الضرورة السياسيّة على قدر ما عالجت الاضطرابات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي يمكن لها أن تخلق هذه الضرورة، فكلّ عمل إصلاحيّ مثلاً: قامت به المملكة في السنوات الأخيرة بين قوانين ومشاريع تحدّ من مسألة البطالة وأخرى لتوفير فرص عمل، وميزانيات لأجل المساهمة في حلول الإسكان ومشاركة المرأة في صناعة الاستشارة السياسيّة التشريعيّة ..وغيرها من الإصلاحات والمتوقّع استمرارها على صعد القضاء والصحّة، هي من تلك المسؤوليات الأساس في السلطة، والتي لا تكتفي بسنّ التشريعات بل تعالج الظروف التي تؤدّي إلى تضخّم الضرورة، عبر تلك الأعمال والأمور والإصلاحات التي تجفّف منابع نشوء الضرورة السياسيّة.

فما هي الضرورة إذاً، هذه الأمُّ الحاكمة-القديمة؟ ما أسباب ظهورها وما تأثيراتها ونواتجها؟ وكيف تكون السلطة مسؤولة عن إزاحة أسباب نشوء الضرورة، وتحمّل عواقب ظهورها؟ وكيف تكون الضرورة عاملاً نهضوياً إنسانيّاً يدفعه لمزيد من الإنتاج في سبيل أمنه وصحّته وسعادته؟!

(ج)

تحمل الضرورة في اللغة دلالات الاضطرار والحاجة، ويغفل واضعو المعاجم في الوقت عينه عن دلالاتها المؤثّرة على الواقع كروح وقوّة مجبولة في الإنسان، وأخرى خارجيّة هي نتيجة ظروف البيئة المحيطة به، وهو ما يجعلنا نحمّل هذه الدلالات على مفهوم مصطلح الضرورة. من هنا تكون الضرورة حاملة للقوّة والنفعيّة أو الإضراريّة، وهذا مفاد قولهم: (الحاجة/الضرورة أم الاختراع) وهي بذلك عامل نهضوي وإضافي، وهو ما يقف على طرف مغاير لقول الفقهاء: (الضرورات تبيح المحظورات) لأنّه عامل استبداد يحذف ولا يضيف ويرتد ولا يتقدّم فرغم مرونته إلاّ أن إطلاقه إشكاليّة تفسير وتأويل؛ وما نقدّمه هنا كمقترح لضبط مصطلح الضرورة: (إنّها حالة إجرائيّة تجاوزيّة نتيجة ظرف اضطراري طارئ وجبريّ)، تفضي إلى تجاوز الوعي بالانتماء واشتراطاته والعودة إلى الوعي الأول: حماية النفس؛ وهذا المصطلح يتأثّر بالبيئة والخزن المعرفي والظرف كما أنّه يؤثّر على التشريع، السلطة، الفرد، ويكوّن عامل تغيير. كما أنّ منطق الضرورة ينتج غاية لأجلها تبرّر الوسائل، ويخرج قوّة استثنائيّة تتجاوز العوائق في سبيل تحقيق الغاية.

والضرورة خاصيّة للنفس والروح الإنسانيّة مخبوءة في الوعي الإنساني بحيث تتقدّم وتتأخّر على سلّم أفعاله تبعاً للظروف المحيطة به، وهو ما يبرّر فشل (الوصايا العشر) في هزيمة الإجرام لأنّ الظروف ليست بيد الإنسان بالمطلق فهي حادثة ومسؤوليته في معالجتها بين نجاح أو فشل، ولأنه واقع تحت تأثير حكم الضرورة إذا اقتضت الضرورة. إذ يرتبط ظهور الضرورة بنشأة السلطة والإنسان الحديث/القانوني، والظهور هنا على دلالة معرفة الإنسان لهذه الحالة وبداية مواجهتها، لأنّ الحالة موجودة وسابقة للتشريع والسلطة لكنّها كانت فاقدة للوعي فلم تُعلم ولم تُعرف، إنّما العلم بها وبمستوياتها ظهر حال ظهور ما يقيدها ويسعى إلى إلغائها، وهو ما يحمله منطق الضرورة عبر التطوّر التاريخيّ للإنسان وواقعه، لطالما ظهر الإنسان القانوني ليقهر الضرورة الحاكمة-الأم ويستعين بها في آن معاً، وينتقل إلى تعايش لا يستسلم لحاكميّة الضرورات، ممّا يدفعه لتحقيق وعي الانتماء والإنماء.

**

أزعم أنّ كلّ سلطة شرّ مُحتمل –على دلالة احتمال وقوع الشرّ، وعلى دلالة قدرة تحمّله- أمّا غياب السلطة فإنّه شرٌّ أكيدٌ، وغيابٌ مؤكّدٌ لوجود الإنسان (الحديث/القانوني)؛ لكنّ المفارقة أنّ الإنسان مغيّبٌ بنِسَبٍ متفاوتة بين دولة وأخرى-(كان ومازال)- بسبب أعمال السلطات المتأثّرة بمنطق الضرورة، وهو ما يمكن تعديله وإزالته أيضاً، لأنّه ليس طبيعة في السلطة بل طارئ تحوّل بحكم الضرورة إلى قوّة الطبيعة لضعف مقاومته الناجمة عن الجهل بحالة الضرورة فكراً وواقعاً؛ ولذلك فإنّ ضبط مصطلح الضرورة وتقنين الظروف والحالات التي تستوجب الاستعانة بها كمرجعيّة عليا للتشريع في حالات نادرة من تاريخ الدول والنص عليها صراحة بلغة يفهمها الجميع، إنّما هي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق السلطة والمشرّعين والمثقّفين وهي ضرورة نهضويّة مدنيّة دونها سوف تبقى ثغرات التأويل لمصلحة بقاء الحال على ما هو عليه، لطالما أنّ طموح أيّ سلطة هو استثمار الظرف الناتج للضرورة لإطالة بقاء السلطة، بمباركة قول الفقهاء: (الضرورات تبيح المحظورات) وهو عين الاستبداد؛ فكيف لو أنّ الضرورة لا تنتهي؟

- جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة