Saturday 12/04/2014 Issue 434 السبت 12 ,جمادى الثانية 1435 العدد
12/04/2014

الفتنة الثقافية "ميثاق الشرف الثقافي"(3)

أنهيت موضوعي السابق بسؤال عن إمكانية التدخل الإيديولوجي لمستنطق محتمل التصور والإدراك في صناعة المفاهيم ومدى خطورة تلك الإمكانية في إيقاع المفاهيم في شبهة "البزنسة " أو "المتاجرة الأيديولوجية" مما يحول تلك المتاجرة بأيديولوجية المفاهيم إلى صراع ثقافي.

المفاهيم هي بنية التشريع الفكري ولذلك بينبغي أن لا تحمل أي مؤشر أيديولوجي يفسد حياديتها واستدامتها ويُفقد مصداقية موضوعيتها ويحصر صلاحيتها،وهو قول يحيطه الخلاف كما يحيطه الاتفاق.

قد يقول البعض إن "الحيادية المطلقة" في تشكيل المفاهيم هي ضرب من المستحيل أو لتخفيف القطعية هاهنا نقول إن تحققها هو أمر يلزمه الكثير من الصرامة في تجويب استقلالية نزيهة عن "هوى الذاتية" ومشتقاتها أي ما يتعلق بالتخابر العاطفي مع عرفية الجماعة ومراعاة تاريخها العقدي وتحصيله من خلفية مكتسبة تتحكم غالبا في الإقرار بالوجوب أو التفنيد، والذي يُعتبر عند البعض؛أي مراعاة مشتقات هوى الذاتية بمثابة ميثاق شرف ثقافي بين الفرد المروّج للمفاهيم أو مؤوِلها وجماعته أو مجتمعه بالتزام يحدد سقف محدد لايتجاوز خصوصية معطيات الجماعة.

وهو ما يجعل "الحيادية" سواء في مستواها المطلق أو الموضوعي معارِضة لميثاق الشرف الثقافي للجماعة.

في حين يرى "أنصار الحيادية" أن الانسياق أو التخابر الأيديولوجي في تشكيل المفاهيم هو الذي ينقض "ميثاق الشرف الثقافي" الإنساني ويؤدي إلى صراع الثقافات ويهدد الاستقرار النهضوي والتفاعل المعرفي.

وما بين هذا وذاك يتدخل السؤال الآتي هل "تصرف الثقافات في إعادة تدوير المفاهيم أو هدمها وإعادة بنائها وفق قواعدها الأيديولوجية بهدف ضمان تحقق ميثاق شرف ثقافي يحافظ على هويتها ويحميها من ظلم المفاهيم هو حق مكتسب"؟.

والحق المكتسب لا يسلم من جدلية في مبناه ومعناه؛ فضمان ممارسته لا تعني حرية الجماعة في قبول مضامين المفاهيم من حقائق ومعاني وقيم فقط فتلك "حرية سلبية" بل بالإضافة وهو الأهم ممارسة تلك الحرية في تفكيك مضامين المفاهيم وإعادة توجيهها وفق اعتقادها الخاص وهو أمر يدخل المعرفة في فوضى المعاني والحقائق والقيم،كما يجعل الحكم بالجواز من عدمه مقيد القرار لأن الحسم يوقع الضرر على أيديولوجية الجماعات،وبذلك فميثاق الشرف الثقافي هنا كما يجب أن يكون ضامنا لحماية المعرفة من فوضى الاعتقادات عليه أن يكون ضامنا كذلك لحد معقول من هوية الجماعات واحترام معطياتها الأيديولوجية الرئيسة.

لكن هل التجاوز أو القفز فوق المفاهيم المتفق عليها بالاشتراك والمشاركة باسم الحق المكتسب لضمان ميثاق شرف ثقافي يحمي هوية الجماعات في عمومه مُتاح وبلا ضرر؟.

أم أن ضرورة الاندماج العالمي أولى من حق حرية الاختيار ؛و بذلك فعلى الجماعة أن تؤمن بمفهوم لا يتفق مع معتقدها الخاص كونه مفروض عليها بضرورة الاندماج مع الاتفاق المشترك لتتفادى عقوبة النبذ.

إذن تكافؤ الفرص بين حرية الاختيار وإعادة توجيه المفاهيم وبين أهمية الاعتقاد بواقع المفاهيم لضرورة الاندماج غير عادل لربط الرفض والتعديل "بعقوبة" ولصعوبة إيجاد ما يضمن التشريع للمفاهيم المتجاوزة لشرعية الاتفاق المشترك.

فتحصيل غالبية الاتفاق على مضمون المفاهيم هو الذي يضمن شرعية العامة والقانون؛مما يجعل تقديم ميثاق الشرف الثقافي لعموم المتفق المشترك أولى في الغالب من مراعاة مواثيق الشرف الثقافية للجماعات باعتبار شمولية الفئة المستفيدة من ميثاق الشرف الثقافي لعموم المتفق المشترك ومجالات تطبيقاتها أوسع تنوعا.

و هذا المنعطف يضعنا أمام محورين يتصدرهما؛ إن إمكانية حرية التصرف الثقافي في إعادة تدوير المفاهيم أو نشأتها وفق معطى أيديولوجي يقلص مساحة الاتفاق الثقافي مع الآخر ويوسع مساحة الخلاف معه وبذلك تفقد "المفاهيم" وظيفتها الثقافية بأنها "لغة مشتركة تحقق الاتفاق الثقافي"، ومن قبل يقلص مساحة الاندماج النهضوي للجماعة ذاتها ويوسع مساحة الرجعية النهضوية لذات الجماعة.

ولا يقتصر اعتماد تلك الحصرية الأيدلوجية للمفاهيم على الخلاف بين الأنوات والآخر والانحسار النهضوي إنما أيضا لها دورها في نشأة "الصراع الثقافي" بين الشعوب،ورأس المفسدة لتلك الحصرية الأيديولوجية هي أن تتحول إلى "فاعل استعمار" للشعوب.

وغالبا المفاهيم المحرضة على تمييز ديني أو عرقي أو طائفي سواء بالإنكار أو الاتهام هي الأقرب إلى تحفيز الصراع الثقافي بين الشعوب وتحفيز الجماعات إلى رفضها وإعادة توجيهها وتحفيزها أيضا إلى البحث عن ميثاق شرف ثقافي يحمي مكتسباتها الثقافية من دكتاتورية المفاهيم.

وكلما ابتعد مضمون المفاهيم على مناطق اعتقاد الجماعات حظيت بمساحة أوسع من الاتفاق الأمني بين الشعوب.. والإمكانية السابقة المتشابكة تقودنا إلى المحور الثاني وهو مدى شرعية خضوع المفاهيم في إعادة تدويرها أو تشكلها التجديدي لحرية الرأي واستقلالية الفكر.

والشرعية هنا تستند إلى محتمل بوجوب حق مكتسب يمنح الجماعة صلاحية إنشاء ميثاق شرف ثقافي يسمح لها بإعادة تدوير المفاهيم؛ أي "صناعة شعبنّة المفاهيم".

وهو ما يعني اعترافا ضمنيا بجواز تدخل المعطى الأيديولوجي في عمليتي التدوير والتشكّل أو قل مؤشرا اشتباهيا بذلك.

أما ما أهمية "دلالة المفاهيم" لتُصبح مثارا لجدل ثقافي بالخلاف والصراع والاستعمار؟.

المفاهيم هي وسيلة إثبات "لمعنى وحقيقة وقيمة" وكونها "مُقرِر حقيقة ومعنى وقيمة" هو ما يجعلها شرعية جذور، بحيث "تحكم ولا تملك"؛ ولذلك فهي مبني لكل تشريع أو كما قلت بداية هذا الموضوع "المفاهيم هي بنية التشريع الفكري".

وبذلك فخطورتها تكمن في إنها "برهان إثبات" لثابت معنى خاص وحقيقة أحادية وقيمة حادة.

ومقصد الثبات في ذاته جدلي كما هو الأمر في الاتفاق على صحة أداة الإثبات؛ لأن هناك من يرى أننا لا يمكن أن نقر بضمان إثبات لثابت فاعله كما حاصله قابلان لتعدد التأثير والتغيير.

ولذلك يرى "أنصار تزمين المفاهيم" أن "المفاهيم هي كائنات ظرفية" وكونها كذلك فهي ليست ضامنا آمنا لتقرير إثبات ثابت وبالتالي فما تحمله من معنى وحقيقة وقيمة غير مُلزم باتفاق مشترك كلي، وهذه الإشارة تُجوّز فتح باب الحق المكتسب لرفض المفاهيم وإعادة تدويرها أو تشكّلها،كما أنها تجوّز للجماعات الحفاظ على ديمومة هويتها بسنّ الأدبيات الفارضة لإنشاء ميثاق شرف ثقافي يحافظ على تحلل هويتها واندثارها.

كما يرى أصحاب "تزمين المفاهيم" أن التزمين هنا "سنة اقتضائية" لأن معطيات التوجيه الفكري للإنسان متغيرة وعلاقاته بغيره كذلك والأمر يتحكم فيه دافعية طاقته المعرفية.

وكلما ارتفعت الطاقة المعرفية للإنسان مال إلى الاندماج مع القيم ذات البعد الجمعي والاشتراكي أو مال إلى الديكتاتورية في احتكار القيم الجاذبة للجمعية، والأمر يعتمد على أيهما صانع الطاقة المعرفية وأيهما مستهلكها.

وهذه الثيمة تلفت انتباهنا إلى أمر هو أن من يحتكر موازين قوة المعرفة هو غالبا من يؤثر في صناعة مضمون المفاهيم.

وهذا الاحتكار لصناعة المفاهيم من مالك القوة المعرفية تُعمّق قناعة مستورد المعرفة ومستهلكها بضرورة إنتاج موازي لمالك القوة من خلال ميثاق الشرف الثقافي الذي يمكن أن يحقق توازنا للمفاهيم المستوردة ولو على مستوى التعادل المعرفي للبصمة.

ولذلك فهما غالبا اللذان يسعيان إلى محايثة تلك المفاهيم بالتجذير لتأصيلها، والتأصيل "مصدر البصمة" هو الذي يمارسه مستهلك المفاهيم أو الذي يقصده هو إعادة تدوير أو نشأة المفاهيم وفق القاعدة الإيديولوجية التي يؤمن بها ويوّثق من خلالها السيرة التاريخية لجماعته.

وبذلك فالمفاهيم هنا تتجاوز وظيفتها المعرفية لتُصبح وثيقة لهوية جماعة مما يجعلها مُؤسِسا لميثاق شرف ثقافي للجماعة.

وبهذا المعنى فالمحايثة بالتجذير هي اجتثاث مقصود أو قل "تصفية دلالية للمفاهيم".

وبقصدية الاجتثاث تدخل المفاهيم في صراع ثقافي ؛إلا إذا نظرنا إلى الاجتثاث بأنه ممارسة طبيعية ومنطقية لحرية الرأي واستقلالية الفكر وحق الشعوب في تداولية صناعة المفاهيم كما هو حقها في حماية ميراثها الثقافي وهو ما يعني حق الفرد في استنطاق محتمل التصور والإدراك وفق معطياته الخاصة وهو حق حاصله لايسلم من فوضى معرفية .

أما من يرفض فكرة "تزمين المفاهيم" ويربط تطورها بتراكم التجربة التاريخية "لا بالاقتضاء الظرفي أو ضرورته" فهو يرى أن "فكرة إثبات الثابت" هنا مستقرة البنية لكنها لا تخلو من تعدد المستويات كما يرى أن تعدد المستويات لايفسد صلاحية الثبات كما أن ذلك التعدد هو الذي يضمن استدامتها؛ولذلك يتوجب على القوى المعرفية الضامنة للمفاهيم صاحبة عموم الاتفاق المشترك صناعة ميثاق شرف ثقافي يحمي المفاهيم العالمية من أيديولوجية الجماعات بضمان "العقلاء المعرفيين" لتلك الجماعات.

ومابين إدعاء عموم المتفق المشترك بحقه في صناعة ميثاق شرف ثقافي يحمي المفاهيم من فوضى معرفية تقودها أيديولوجية الجماعات وإدعاء الخصوصيات الأيديولوجية بحقها في صناعة ميثاق شرف ثقافي يحمي هويتها من استعمار المفاهيم الأحادية يتوسع صراع الاستعمار الثقافي بين الشعوب.

لكن أن يجتمع الادعاءان في مجتمع صاحب هوية ثقافية واحدة فمن هنا تبدأ "الفتنة الثقافية".

- جدة