Culture Magazine Monday  22/10/2007 G Issue 219
فضاءات
الأثنين 11 ,شوال 1428   العدد  219
 

الأنوثة عماد الخلق الفاضل «3»
د. لمياء باعشن

 

 

حسم الأمر، فلا جدل ولا نقاش: المرأة لا مكان لها في هذا البناء الفلسفي الأخلاقي القائم على عماد رجولي يغذيه استعداد طبيعي وميل غرائزي، هذا البناء لا يترك فجوة تدخل منها ولا امرأة واحدة في الألف! حمزة شحاتة فيلسوف يدرك أن النسبية (تدخل في حساب الحقائق الفكرية) (محاضرة 21)، لذا فهو يتوقف ليوضح أن تأثير القوة المادية في الأفراد يتراوح من شخص لآخر، فيقول: (ليس الأغنياء كلهم ولا الفقراء كلهم هكذا ... ولكن واحد في الألف (محاضرة 53). ثم ها هو يراوح بين القوات الجسدية بين الرجال فيقول: (وكان الناس يتفاوتون في نصيبهم من هذه القوة فامتاز في الجماعة أفراد تفاوتوا أيضا في درجات تمايزهم) (محاضرة 50). لكنه لم يستثن امرأة واحدة من قانون الضعف والإقصاء من عالم الفضيلة.

إذا فحصنا هذه الفضيلة وجدنا أن ما يميزها أنها تدفع المتحلي بها إلى عمل الخير دون اعتبار لأي مردود، حتى لو كان لذة أو متاع (محاضرة 118)، فإذا (كانت الفضيلة تهب لتأخذ، لم تكن قوة) (محاضرة 117). كذلك فإن هذه الفضيلة لا تتبع قوانين المنطق المرتب، إنما ينصاع الرجل لمطالب قوتها القاهرة مغلوباً على أمره. ولكي يوضح شحاتة طبيعة هذه الاستجابة الاختيارية يورد مثالاً الطفل الذي (إن أهدى شيئاً فإنما يهديه من نفسه، وإنما يعبر بهذه الدلالة عن عاطفة ساذجة في حرارة اندفاعها وصدق انفعالها غير ناظر إلى الربح والبدل) (محاضرة 26). ماذا عن أم هذا الطفل وعاطفتها المتدفقة تجاهه دون شروط أو توقعات؟ ألا تصلح الأمومة مثلاً يوازي هذه الرجولة المندفعة من قوة داخلية لا إرادية تدفع بالأم نحو وليدها في مشهد يصفه شحاتة قائلاً:

وأم طفل - أنّ في حِجْرِها

تُحِسُّ كالأسهم إرنانه

ترأمُهُ- تلحظ أنفاسَه

مذعورة ً ترهبُ فقدانه

(الليل والشاعر 283)؟

هذه هي عاطفة الدم الغريزية التي تستجيب دون مرام نفعية، هذا هو الحب الذي (يعطي ولا يأخذ) (رفات 50).

رغم ذلك تبقى الرجولة شيمة الأقوياء دون الضعفاء، والمرأة حتى إن تمثلت الفضيلة فإن بناءها الموهون ( رفات 86) سيبعدها عن الدائرة، وشحاتة يعتقد أنه لا يسع أحداً أن ينكر أن كل فضيلة لا يكون المتصف بها قوياً، لا تكتسب في نظر الناس معنى الفضيلة ونفوذها

( محاضرة 65)، ذلك أن (الإيمان بالقوة ونفوذها هو حقيقة الحياة وهو قانونها... ومنطق الحياة ذاته هو الذي (يجعل الحق دائماً في جانب القوة) ( محاضرة 67).

الصورة قاتمة إذاً، فهل نحن على استعداد لرفع الراية البيضاء؟؟

هذا المأزق الأخلاقي الأنثوي يجعلنا نتساءل: هل يعقل أن يكون حمزة شحاتة ريادياً وتقدمياً وهذه نظرته إلى المرأة التي قدرها واحترمها في أمه وأخواته، وأحبها وسكن إليها في نسائه، وعطف عليها واحتواها في بناته؟ والسؤال الذي سيحدد موقفه تجاه ضعف المرأة هو: لماذا تكون المرأة ضعيفة؟ ويأتينا رده واضحاً في قوله: (العبودية نتيجة الضعف، والجهل سبب الضعف. والحرية نتيجة القوة، والعلم سبب القوة ( رفات 89). ولو تمعنا في رسائله إلى ابنته شيرين التي يخاطبها قائلاً: (أيتها الابنة الساحقة)، (شيرين 82)، و(أيتها البنت الباسلة) (شيرين 167). نجده مقبلاً على محادثتها كند ونظير، يبثها همومه ويمتدح قدراتها بجدية تامة. وفي بعض المواقف يطلب منها ألا تمثل (دور المرأة الغلبانة) (شيرين 81) الذي لا يتماشى مع شخصيتها القوية، لذا يحثها على طرد المرأة (الغلبانة) من حياتها ( شيرين 69) للأبد، مذكراً إياها بقواها المعنوية والروحية لاحتمال المسئوليات: (كنت ولا أزال أرى فيك مصادر قوة روحية ونفسية وعقلية ... إنك دائماً قوة خارقة في دفع ما تريدين... أنت دائماً أقوى من كل ما يحدث).. (شيرين 179-80).

وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الكلمات يقولها أب مشجعاً لابنته ودافعاً إياها إلى الأمام برفع همتها، ولكن حمزة شحاتة نفسه لا يجامل ولا يقول ما لا يعني، ولو كان يحابيها ليرفع من معنوياتها لما ألحق رأيه فيها بقوله: (صدقي أن كلامي ليس مجرد تشجيع وأمل.. إنه عقيدة). (شيرين 82)

حين خرج حمزة شحاتة عن السائد، وأخرج بناته من عبودية الجهل، تغيرت معطيات المعادلة وانتفى الضعف فيهن، لأنه ضعف مكتسب، بل هو شئ مفروض عليهن من خارج أنفسهن، وهذا هو حال المرأة المتسلحة بقوة العلم تسترد بها حريتها. أما إن ظلت (جاهلة أو محتاجة أو ضعيفة فذلك ذنب الأمة التي لا يكون فيها رجال) ( محاضرة 105).. والآن وقد (اصطنعت على ما يهيؤها لهذا) (محاضرة 101)، هل تقفز الأنثى فوق الحاجز المضروب حول البناء الأخلاقي الرجالي الذي تقدم به شحاتة في محاضرة مكة؟

لاستنباط الإجابة سننظر إلى استراتيجية اتبعها شحاتة في سياق فلسفته، فكلما وقف أمام فكرة أو مفهوم تناوله بالتجريد والتعرية ليصل إلى جزيئات تركيبته، وقياسه المنطقي يكشف عن ولعه بصعق المصطلحات بمكوناتها حتى تنقسم على نفسها وينبثق منها نقيضها سالباً أو موجباً. فالقوة مثلاً تنشطر إلى شطرين: قوة متعدية منصرفة وقوة لازمة جامدة (محاضرة 54)، والفضائل نوعين: محاسن اختيارية ودوافع دينية، والرذائل صنفين: أنانية مستترة وأنانية عارية، والحياء شقين: نسائي ورجالي، والإيمان إما إيمان معرفة وتقدير أو إيمان خيالي شعري (محاضرة 66)، الرجولة هي القوة الجسدية، وهي أيضاً الرجولة الحرة الناضجة.

في المقابل، فإن حمزة شحاتة رجل متدين وقارئ للقرآن الكريم، ومن البديهي أن الآيات الكريمة التالية قد استرعت انتباهه:

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) (النساء 1)،

(هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) (الأعراف 189)،

(خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) (الزمر 6).

هل استوقفته الآيات فرأى فيها الانشطار الإنساني الذي حوّل الواحد إلى شطرين: واحد فردي وواحد زوجي. هل هذا شكل انقسام الإنسان على نفسه وانبثاق نقيضه عنه؟

من هذا المنطلق نستطيع أن نستنتج أن الهيكل الفلسفي الشحاتي قد اختص المرأة بفضيلة أنثوية هي مادة وجودها وأساس تركيبتها الطبيعية، بل هي قانون فطرتها المطلقة لأنها كامنة بالقوة داخلها وذلك إذا أخذنا مفهوم الكُمون كماهو عند أرسطو أي الوجود بالقوة. وأخلاقيات الفضيلة الكامنة داخل الأنثى هي التي تعطيها القوة التي تجعلها (تهزم الشيطان وتطرد المجرم الخطر).. ( محاضرة 105). فقط من هذه الزاوية نستطيع أن ندرك لماذا نزّه شحاتة المرأة وأكسبها عصمة عن تحمل الذنوب وألقى بجريرتها على كاهل الرجال، أو ليست هي مصدر فضيلة الحياء فيهم؟ كيف لا تكون مصدراً ومنبعاً لفضيلة الحياء وهي كما يقول: (الأم التي تلد الحياء.. والرحمة والعدالة.. والأم التي تلد الرجال).. (محاضرة 101). كيف لا تكون الأنوثة عماداً للخلق الفاضل وهي وعاء الفضيلة حيث الأصل والمنشأ، وفي داخلها قد ترسبت الفضيلة النقية كونها نقيض للرجل بعد انفصامها عنه؟

إذاً والأمر كذلك، فقد زالت كل دواعي وجود المرأة داخل البناء الأخلاقي للفضيلة الرجولية. هذه المحاضرة كتبها حمزة شحاتة في مواجهة مأزق أخلاقي رجالي يستحث بها همم الرجال الهامدة ويزرع الفضائل حيث ذبلت، أما المرأة ففاضلة بفطرتها المعطاءة وعاطفتها المتدفقة وحياءها الغريزي. المرأة هي الفضيلة متكاملة (بضابط للعفة وصمام للأمن) (محاضرة 86)، فهي بذلك خارج نطاق النصح والوعظ والوصايا الأخلاقية، ومن المنطقي والطبيعي ألا تخاطبها رسالة تتصدى لأزمة أخلاقية رجالية، رسالة موجهة إلى (سادتي وأخواني) (محاضرة 121) .

- جدة

المصادر الأولية:

1) الرجولة عماد الخلق الفاضل، حمزة شحاتة، جدة : تهامة، ط 1، 1401 ه / 1988 م .

2) ديوان حمزة شحاتة، جدة: دار الأصفهاني، ط 1، 1408 هـ - 1988 م .

3) إلى ابنتي شيرين، حمزة شحاتة، جدة، تهامة، ط 1، 1400 هـ - 1980 م.

4) رفات عقل، حمزة شحاتة، قام بجمعه وتنسيقه: عبد الحميد مشخص، جدة: تهامة، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة