Culture Magazine Monday  22/10/2007 G Issue 219
فضاءات
الأثنين 11 ,شوال 1428   العدد  219
 
لديهم مثل ما لدينا
عن الأدب والسياسة وجائزة نوبل في أميركا اللاتينية «1-2»
ثائر ديب

 

 

تشبه المعارك الثقافية في أميركا اللاتينية، بخطوطها العامة وعناوينها العريضة، نظيرتها في بقية بلدان ما دعي بالعالم الثالث ومنها بلداننا العربية. فهي تدور على محاور باتت مألوفة إلى حدًّ بعيد، كعلاقة الأدب بالسياسة، والتراث بالحداثة، والإصلاح بالثورة, والليبرالية بالديمقراطية الاجتماعية الاقتصادية، والوطنية بالأممية... إلى آخر ما نعرفه في ثقافتنا العربية المعاصرة من ثنائيات شهيرة. بل إن تشابه هذه الصراعات في بلدان العالم الثالث يتعدَّى الخطوط العامة والعناوين العريضة ليصل إلى التيارات الفكرية والثقافية والسياسية المنخرطة في هذه الصراعات، وإلى اتّسامها بطابع شخصي حاد غالباً ما تحضر فيه تهمة السعي وراء الشهرة العالمية أو وراء الجوائز العالمية، خاصة جائزة نوبل، حين تنزل الأسماء الكبيرة إلى ميدان المعركة، دون أن يعني ذلك، بالطبع، تطابق هذه الصراعات تطابقاً تاماً أو عدم اتّسامها بخصوصيات محلية واضحة تصبغها بأصباغ وطنية وإقليمية معينة.

ومما تتَّصف به الصراعات الثقافية في أميركا اللاتينية ذلك التقارب الحاد أو التصادم الحاد بين الأدب والسياسة، تبعاً لاختلاف مواقف الكتَّاب والمثقفين ومواقعهم، وتلك السرعة التي يتحول بها الصراع الثقافي الناشب في بلد من بلدان القارَّة إلى صراع قارِّي ينخرط فيه كتَّاب ومثقفون كبار من مختلف بلدان أميركا اللاتينية، وأيضاً ذلك الترافق اللافت بين الصراعات الثقافية الكبرى ولحظات الأزمات الاقتصادية والسياسية.

ومن الأمثلة على ذلك صراع، نفصِّله هنا بعض التفصيل، كان قد بدأ في حزيران من العام 1988 بمقالة في مجلة مكسيكية ولم يلبث أن تحول إلى سجال في أرجاء القارة حول العلاقة بين التاريخ والرواية، وبين الثورة والديمقراطية، والعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، مختلطاً باتهامات شخصية خشنة، أقلُّها السعي وراء جائزة نوبل، ومختلطاً أيضاً بالمواقف المختلفة من الثورة الساندينية في نيكاراغوا، حيث كان الساندينيون لا يزالون في السلطة آنئذ، فضلاً عن اختلاطه بذكريات معارك قديمة بين المثقفين. فمن بين المعارك التي استذكرها صراع العام 1988 معركة كانت قد نشبت في أعقاب الحرب الأهلية الإسبانية بين اثنين من أشهر شعراء القارَّة هما بابلو نيرودا التشيلي وأوكتافيو باث المكسيكي. ذلك أنَّ نيرودا الذي كان يعمل دبلوماسياً لبلاده في المكسيك قدَّم جوازات سفر تشيلية لأشخاص حاولوا اغتيال ليون تروتسكي، الثوري الروسي الشهير الذي كان المنفى قد حطَّ به في المكسيك. ومن المعارك التي استذكرها أيضاً صراع العام 1988 ذلك السجال الذي نشب في العام 1971، حول الثورة الكوبية، بين اثنين من أبرز روائيي أميركا اللاتينية هما الروائي البيروفي ماريو فارغاس إيوسا والروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، المعروف بدفاعه الدائم عن الثورة الكوبية وعن فيديل كاسترو شخصياً، وذلك على أثر اعتقال السلطات الكوبية للشاعر هربرتو باديلاّ لمدة شهر وتوقيعه خلال سجنه على اعتراف بارتكابه (جرائم مضادة للثورة) قبل أن يسمح له بمغادرة كوبا إلى الولايات المتحدة. أما صراع العام 1988، فكان في القلب منه كلّ من الروائي المكسيكي البارز كارلوس فوينتس، صاحب (موت أرتيميو كروز) و(الحملة) (مترجمتان إلى العربية)، والمؤرّخ والكاتب المكسيكي إنريك كراوز، مؤلّف سيرة من ثمانية أجزاء عن الشخصيات البارزة في الثورة المكسيكية وصاحب كتاب (من أجل ديمقراطية بلا نعوت) والذي يعمل أيضاً، إلى جانب أوكتافيو باث، في تحرير الشهرية الثقافية (Vuelta) المقروءة في أرجاء أميركا اللاتينية. ولقد بدأت المعركة بمقالة كتبها إنريك كراوز على شكل مراجعة لآخر كتابين كان فوينتس قد أصدرهما، وهما روايته (الغرينغو العجوز) المنشورة في الولايات المتحدة عام 1985 وكتاب آخر أقرب إلى السيرة الذاتية بعنوان (أنا مع آخرين) كان قد نشره أوائل العام 1988. وقد ظهرت مقالة كراوز أولاً في 27 حزيران 1988 في صحيفة(The New Republic) التي كلَّفته بها، ثم أعاد نشرها بعد توسيعها وزيادة حدَّتها في عدد الشهر ذاته ( حزيران ) من (Vuelta)، حيث شنَّ كراوز هجوماً شديداً على فوينتس ورأى أن مفتاحه (ليس في المكسيك بل في هوليوود)، ووصف وطنيته بأنها (هشّة، ومزاجية، وقائمة على البلاغة)، كما وصف آراءه في التاريخ والسياسة بأنها (متسرِّعة وبعيدة عن الدقَّة) بحيث تحول بينه وبين أيّ (فهم عميق للظواهر الأميركية اللاتينية) وتنزع عنه أهلية أن (ينصب نفسه ناطقاً رسمياً) باسم المكسيك أو أميركا اللاتينية أمام قرَّاء الولايات المتحدة.

وحين سئل المحرر الأدبي لصحيفة (The New Repub lic) عن السبب الذي دفعه إلى تكليف كراوز بكتابة مراجعة لعمليّ فوينتس، أجاب قائلاً : (لطالما رأيت أنَّ فوينتس شخص يستخدم هيبته الأدبية في نشر آرائه السياسية). أما كراوز نفسه فقال في مقابلة معه: (يرى فوينتس أنَّ الموضوعية مستحيلة وغير مرغوبة في آن معاً، وأنَّ الأدب يكشف ما يخفيه التاريخ أو ينساه أو يحرِّفه. أما أنا فأرى أنَّ العكس هو الصحيح، فالتاريخ هو الذي يكشف ما يخفيه أدب فوينتس أو ينساه أو يحرفه. والموضوعية التاريخية يجب أن تكون القيمة الأسمى لدى المؤرِّخ المكسيكي، ذلك أننا نعيش في بلد تحكمه الأكاذيب). ورأى كراوز أيضاً أنَّ ما يطرحه النقاش هو (سؤال بالغ الأهمية مفاده: ما الذي ينبغي أن تكون عليه وظيفة المثقف في أميركا اللاتينية؟). أنَّ من الواجب على المرء أن يكون نصير (التحليل الصارم لكلّ من الخيال والعقل، وألاّ يركن للبراعة الفكرية، خاصةً في هذه الفترة المفصلية بين قرنين، وبعد ما تكشَّف من تجارب سلطوية، بما في ذلك تجربتيّ كوبا ونيكاراغوا).

والحال أنَّ مجلة(Vuelta) وليس صحيفة(The New Republic) هي التي أخرجت هذا السجال إلى العلن بالمعنى الدقيق للكلمة، فهذه المجلة هي المنبر الرئيس لضرب من الليبرالية الأميركية اللاتينية المناهضة للسلطوية، فضلاً عن كونها منبراً للأعمال الأدبية المتميزة من شتَّى الأجناس. وكان فوينتس نفسه قد كتب لهذه المجلة التي تفخر بأنَّ لديها (هيئة استشارية) تضمُّ أعلام الكتَّاب، مثل فارغاس ليوسا من البيرو، وجورج إدواردز من تشيلي، وأدولفو بوي كاسيراس من الأرجنتين، وخوان غويتسولو من أسبانيا، والروائيين الكوبيين المنفيين غوليرمو كابريرا إنفانتي وسيفيرو ساردي. بل إنَّ توماس بورج، وزير داخلية نيكاراغوا أيام الساندينيين، كان قد وصف هذه المجلة أيام نشب هذا السجال بأنها (رولز رويس المجلات الأدبية الأميركية اللاتينية)، في نوع من الجمع بين المديح والسخرية.

وفي السنوات التي سبقت هذه المعركة، كان كلّ من أوكتافيو باث وإنريك كراوز قد كرَّسا قدراً كبيراً من وقتهما ومن صفحات المجلة لمسألة الشرعية السياسية. واتّخذا مواقف تجاه كلّ من المكسيك ونيكاراغوا باعدت الشقَّة بينهما وبين فوينتس، وإن يكن قد سبق لباث أن امتدح بقوة روايات فوينتس. ويمكن التمثيل للخلاف بين الطرفين بقول كراوز عن الاختلاف بينه وبين فوينتس: أنا أؤمن بالديمقراطية، وهو يؤمن بالثورة ويرى أنَّ كلَّ ثورة هي شيء رائع، وغنائي، مليء بالثوار الصالحين الذين يقدِّمون الجرّارات للفلاحين. ولكننا في نهاية القرن العشرين، ومن الصعب بعض الشيء أن نتكلم على الثورات بهذه الطريقة. والسؤال المطروح هو التالي: هل نؤجِّل الديمقراطية باسم شرعية ثورية ما؟ أعتقد أنَّه لم يعد بمقدورنا أن نفعل ذلك.

- سوريا


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة