Culture Magazine Monday  22/10/2007 G Issue 219
نصوص
الأثنين 11 ,شوال 1428   العدد  219
 
قصة قصيرة
طيور تهاجر
شمس علي

 

 

كمن يُطلق نكته سمجة، يخبر الجميع وهو يتكلف الضحك، أنني مغرم بتقبيل الرؤوس الطاعنة، تلسعني النظرات، ألوذ بعذر أنني أشتم منها رائحة جميلة.

لا أظنني ناجياً من سخريته تلك، فكلما تفاقم إحساسي برتابة الحياة، وشب في أطراف روحي الضجر، وجدتني ازددتُ تكتماً، خوف استلابي من عالمي الفريد الذي ألوذ به ليلوذ بي!؟

أتذكر أن الأمر بدأ معي منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة، وتحديداً ذات ليلة جهنمية أوسعني فيها أبي ضرباً لرفضي المتكرر بعناد طفولي جامح، الانحناء للثم رأس جدي، ككل مرة يحضر لدارنا، خلاف أخي الأكبر الذي كان ينصاع للأمر وقد احتقن وجهه بالضجر وعلاه الاشمئزاز، ليزفره دفعة واحدة عند انصرافه وهو يدعك بكمه كل ما يظنه علق بشفتيه من أثر القبلة.

لم يحاول أبي يوماً أن يفهم، ولم أجرؤ على مصارحته أن مرد إعراضي ذاك، هو تلك الرائحة الشنيعة التي كانت تنبعث من أجداث شعيرات فانية، مسجاة فوق صحراء جمجمة جدي، وعندما ألقيتُ سري في بئر أمي ذات غسق عنون فيه أبي ظهري بوسم قاتم، انفجرت ضاحكة كما لم أرها تضحك، من قبل وقرصت أذني مؤنبة، أيها الأبله الصغير، جدك العجوز يدهن رأسه - وبترت ضحكة صاخبة عبارتها - ليزين بقايا شعر لزوجته الشابة، ليلتها توسدت ذراعي والتحفت السماء ببلاهة متأوهة، لأصحو وقد استحال فمي مقبرة ذباب..!

حُسم أمري أخيراً ذات ظهيرة قائظة، لم تنفع فيها توسلاتي، ولم تدركني شفاعة لأمي، فقد دفعني أبي من قفاي دفعاً بعد أن أنهكه ضربي وركلي، إلى حيث يتكئ أباه وأحنى رأسي الفارغ- كما يردد للجميع - بجبروته الأبوي، داعكاً فمي الصغير بتلك القرعة اللزجة، معفراً بكل طاقة غضبه شفتي الغضتين بجثث تلك الشعيرات الهامدة عندها أبصرتها نعم وربي أبصرتها كائنات صغيرة لطيفة، ترفرف بانشداه ساحر، قريباً من فمي أطلت القبلة وعيني الزائغتين تطاردانها حتى لقد تعذر على أبي محاولة زحزحتي عن رأس والده، إلى أن اطمأننت أن بعضاً منها حطت لتملأ فراغات رأسي.

في اليوم الآخر وجدتني أنا الطالب الخامل الذكر، ملك لجلسة الرفاق، يتقاطرون نحوي من أرجاء المدرسة يطوقونني في الحافلة مذهولين، وأنا أرمي إليهم بالحكاية الآسرة تلو الأخرى، ورغم حداثتي أدركت حينها أنني وقعت بكنز وبات علي الحفاظ عليه بأي ثمن. اعشوشبت التساؤلات حولي ونمت في محيط أفراد العائلة، لكن أياً منهم لم يحصد منجله إجابة شافية.

فاشفوا غليلهم بتحويلي إلى نادرة يتفكهون بها، وكان أشدهم في ذلك ولم يزل أخي الأكبر مصدر قلقي الدائم. أما أبي فقد تناوشته منذ ذاك ضفتي الفرح والحيرة!!؟

وجاء صباح رطب فاغتال بهجتي المحمومة، عندما غادر جدي الحياة، ليذبل حضوري اليانع بين الرفاق ولتجتاحني رياح حزن عاتية، استسلمت لمخالبها طويلاً، لكن وميض أرواح تلك الكائنات الجميلة انتزعتني من كآبتي تلك لتقتادني لرأس جارنا العجوز، ومن ثم لصاحب (البقالة) الكهل حتى لقد تعثر على ذاكرتي المزحومة استعادة ملامح بعضهم بعد أن غدوت أقطع السبل كمعتوه، أو درويش على غير هدى، ألثم رأس هذا الكهل أو أقتاد ذاك لأختطف منه مخلوقاته الأثيرة.

وربما هذا ما يبرر لي فقط عجزي المتفاقم بعد كل تلك السنين الطوال عن إلقام أخي بحقيقة الأمر حتى بعدما صعقني منذ أيام ببجاحة أنه كان يبصر كائنات بشعة تنبثق من رأس جدي كلما أجبر على لثمه، لكنه أبداً كان يشمئز حتى من مجرد إخبار أحد بها، لذا كان يكتفي ببصقها والإجهاز على آثارها العالقة بمسحة منديل!!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة