Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
فضاءات
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 

سقوط الأقنعة في (جاهلية) ليلى الجهني «5»
د. لمياء باعشن

 

 

في المكان السفلي المنفلت من الركب الزمني تتحرك جثث لموتى خارج القبور، جثث كاد أن يعتريها (العطب) فغابت في حالة من التبلد والاستسلام لأنماط من التفكير اللا واعي. وعلى الرغم من أخذ أفراد هذا المكان بالكثير من الوسائل التكنولوجية التي قدمتها الحضارة الحديثة في انماط العيش ووسائل الحياة، إلا أنهم تغلفوا بقشرة التطور دون أن يستجيبوا لمعطيات التحضر العقلية من فحص المسلمات ومراجعة الأفكار البالية. في ظل هذا التناقض بين المظهر الحضاري الممارس للحداثة دون استيعاب، وبين الباطن الذي يواصل نمطية علاقته بالجاهلية، ينكشف التفكير العاجز عن الرؤية المتعمقة والواضحة. يتمثل جسد مالك الذي اقترب من الموت، لكنه لم يمت (57). هذه الحالة من الغياب الفكري، ففي غيبوبته البيضاء (56) يبقى بين الحياة والموت (9)، يبقى عالقاً في برزخ لا تأتيه الملائكة (13). موجود كجسد له ظواهر الحياة، لكنه من الداخل غاف (59) وغافل عن كل شيء (178). لا يزال الجهل متأصلا في نفوس انتكست إلى سابق عهدها فجنحت إلى السطحية والتبسيط الشكلاني وغابت في ظلمات الجهل وعدم المعرفة غيبوبة مجهولة النتائج، مثل غيبوبة مالك. تتأمل لين وجه مالك الساكن بلا تعبير. بدا لها خالياً تماماً من المعنى، أي معنى (58).

يظهر هذا المعنى الغائب مرة أخرى في الفصل الأخير (غوغل يهذي). في بداية الفصل تلجأ لين إلى الإنترنت لتقصي معلومات توثق استخدام ليلى الجهني للتاريخ الجاهلي، ويشكل ذكر محرك البحث غوغل أهمية مزدوجة في تعزيز مفهوم الوعي الاتباعي الماضوي المغيب للعقلية النقدية القادرة على تفكيك ظاهر النص، فعلى الرغم من أن غوغل يقف كرمز لأعظم ما وصلت إليه التقنية الحديثة في عالم حديث متطور، إلا أنه في حقيقة الأمر ليس سوى آلة مبرمجة لا تفرز سوى ما وضع فيها، آلة مبهرة بلا شك، لكنها تكرر بشكل ميكانيكي ما قيل لها حرفياً، مذهلة فعلاً، لكنها عاجزة عن التمحيص ومساءلة النصوص التي تعج بها، هي آلة مسخّرة سريعة الاستجابة لأي محفز.

يوضح هذا الفصل القصير ببراعة مسألة غياب المعنى في عالم القشور الذي يطل باكراً في سور جامعة الملك عبدالعزيز الذي بدا طلاؤه متقشراً (27). ويربط ضياع المعنى بخطر الموت الذي يسلبنا كل جميل إن نحن هجرناه أو غفلنا عنه، فيقدم السرد تفاصيل عن معاني الممات من أسماء الأيام (175) والممات من أٍسماء الشهور (176) التي أميتت في العربية الفصحى لأن العرب تركوا استعمالها بعد أن كانت في لغتهم، فانقرضت وزالت. وهذه هي حال التعاليم الإسلامية التي تمسك العرب بظاهرها وتركوا باطنها فانحرفت معادلة معايشة الاختلاف، كما أنها حال العقل الذي هجروه ولم يرفدوه بالعلوم والمعارف فذبل وتقوقع. في هذه اللحظة تفكر لين في وجه مالك الغافل عن كل شيء (178) وكأنه قشرة حياة أو قناع يثبت حضور إنسان غائب، ثم تدخل في لحظات نورانية مكثفة تكشف الحقيقة التي تزيح كل ادعاء:

للحظات رأت الأيام والأشهر وهي تخلع أقنعتها أمام عينها، وتعود إلى وجوهها القديمة. رأت شِيار يخلع سبته، وأول يخلع أحده، وعاذلاً يخلع شعبانه، ووعلاً يخلع شواله. ولم تكن الوجوه القديمة قبيحة، بل متجعدة لطول ما تعرقت تحت أقنعة ليست لها. وظنت وهي ترى ذلك أن كل شيء قد استقام أخيراً. (179)

هكذا تعود الامور إلى موازينها الصحيحة، فقد (ترك الخداع من كشف القناع) كما يقول المثل. هذه الشهور الجاهلية تطابق الأوضاع السائدة في الجاهلية المعاصرة وتتماشى مع سلوكيات التعصب التي تحكمنا اجتماعيا وثقافيا، فلا داعي لتغطيتها بمسميات إسلامية تتوارى خلفها وحقيقة الأمر أن تعاليم الإسلام السمحة لم تمحها تماماً.

بعد هذه المواجهة الصريحة مع الذات الجمعية، يبدأ الهذيان وينحرف السرد فجأة ليقذف بجمل غير مترابطة يقتحم بها عنوة رأس لين ويملأه ضجيجاً حتى تفقد القدرة على أن تسد أذنها عن كل هذا الصخب (179). تستخدم ليلى الجهني هذه البلبلة لغرض مزدوج أيضا تعزز به الفكرة الرئيسة لهذا النص، فهي تضيف إلى سلسلة التفريغات السابقة تفريغ القوالب الكلامية من المعاني الجوهرية لتبين أن صدق القول هو عمله، والإيمان به هو ممارسته، ثم تطلق سراح الكلام لينفلت من سياقاته المألوفة وكأنه يتحرر من قيود الكتابة الرسمية ويعود عارياً في وضوحه متخلصاً من قشور الصياغة الأسلوبية التي تغلف المعاني. تنفصل الكلمات عن سياقاتها بشكل عشوائي مثل كل الأشياء القابلة للانفصال في (جاهلية)، لكنها حتى في عشوائيتها تشكل رؤس أقلام تذكر بمجمل القضايا التي اندرجت تحت جهل الجاهلية، فمن خيبة الحب وظلم البنات إلى الملائكة والموت المنتظر، ومن أبيات عنترة وعمرو بن كلثوم إلى الجهل واللون والعراق (180) ثم يتكرر صدر بيت من الشعر كأسطوانة مشروخة ست مرات يتخافت صداها ويخبو شيئاً فشيئا لينهي النص: أطلق لها السيف لا خوف ولا وجل (181).

في 20 مارس 2003، استقبل الرئيس العراقي صدام حسين الهجوم الأمريكي على بغداد بخطاب تلفزيوني تخلله أبيات من الشعر تمجد بطولته الموهومة يقول فيها:

أطلق لها السيف لا خوف ولا وجل

أطلق لها السيف وليشهد لها زحل

أطلق لها السيف قد جاش العدو لها

فليس يثنيه إلا العاقل البطل

ينتهي النص بترديد آخر وأبشع ملمح من ملامح الجاهلية المعاصرة، فهذه الأبيات تشهد بأننا ما زلنا نواصل كلثومياتنا بالتفاخر بالجهل وبترديد الشعارات الواهية والكلمات الخاوية. وتكتسب حماسة القائد البعثي وإطلاق سيفه المصطنع سخرية مريرة في ظل ما انتهت إليه الأوضاع السياسية في العراق، لكن الأبيات تصبح أكثر سخفاً لو عرفنا الرد اللاذع الذي شاع في العراق حينها:

أطلق لها السيف خذ ما قلت يا بطل

يا قائد البعث خاب السعي والعمل

يا أكذب الناس كم عودتنا دجلا

ولذت بالخوف لا سيف ولا أسل

وكشفت عن وجوه الزيف أقنعة

إذ البطولات في آفاقهم هول

اطلق لها هرباً يا أيها الرجل

واسبق جيوش الصليب فإنهم وصلوا

ودع لبغداد أصناماً لك انتصبت

لااللات أعني ولا العزى ولا هبلُ

نلتقط من هذه الأبيات كلمات جوهرية مثل خيبة وكذب ودجل وخوف وهروب وزيف، ثم أقنعة ووجوه وأخيراً الأصنام الثلاثة اللات والعزى وهبل، ثم نتلمس توقيعاتها داخل النص ليكتمل الشكل الدائري للرواية والذي يربط تراتيل الجهل والجاهلية الختامية بصورة الغلاف حيث يظهر صنم من الأصنام التي عبدتها العرب قديماً. هكذا ينزل الستار على أسوأ حالات الجاهلية حيث يجبر الناس على تقديس البشر وعلى عبادة أصنامهم ويعودوا إلى ممارسة أشكال الوثنية البغيضة.

وقد يتبادر إلى الذهن أن (جاهلية) هو نص تشاؤمي لا يترك خلفه بصيصاً من نور يمكن تتبعه للخروج من عتمة هذا المصير الظلامي، لكن يبقى لدينا عنصر أخير لم يُفعّل في هذا التحليل وهو عنصر حيوي يحمل مفتاح الخروج من الأزمة. تأتي الانفراجة على يد البطلة لين والتي تم تهيأتها منذ بدايات النص لتكون إنسانة متفردة، فبعلمها وقوة يقينها وثباتها على مبادئها التي تقول: (إن على المرء أن يعيش وفق ما يفكر (109) تكون لين مهيأة لتمثل الوعي المستنير في (جاهلية) ليلى الجهني. هذه الفتاة هي نموذج التسامح الإسلامي الصحيح، فهي لا تغضب ولا تنهر ولا تثور، بل تحافظ على هدوئها ولا تتزحزح عن موقفها. هذه النخلة الصامدة يهددها اجتثاث السيوف من حولها (140)، لكنها تأبى التخاذل وتستمر في التفكير خارج إطار العقل الجمعي فتتحرر من ضيق رؤيته وتتمكن من تأمل ما تحت الأسطح، ولهذا استطاعت أن تحب مالك الذي رأت فيه ما عجز غيرها عن رؤيته: لقد أحبت إنساناً، أحبت قلباً من ذهب، ولم تنظر إلى اللون (51) الذي كان يمكن أن تحكه قليلاً فتلمع رقيقة الذهب.. الذهب الذي صهرته الأحزان.. ثم طرقته وصبته قلباً واسعاً رحيماً (68).

ولين ليست قاسية، لكنها حتماً قوية (7) إلى حد العناد الذي يعينها على نبذ الجهل وإحقاق الحق. لذلك فهي لا تخشى المواجهات، بل تشحذ لها قواها دون تخاذل: كيف ظنت أن الآخرين سيهادنون وعيها إن لم تستطع فرضه عليهم؟ وكيف ظنت أن المجابهة ستكون هينة؟ (95).

بعد تفكير عميق تتوصل لين إلى تكوين فكرة شاملة عن موقعها في هذه المنظومة الاجتماعية التقليدية وها هي تعي حجمها الحقيقي.

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة