Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
فضاءات
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 

فيض الحنين في: (من أحاديث القرى) لعبدالله بن محمد الناصر
عبد الرحمن مجيد الربيعي

 

 

آخر إصدارات القاص السعودي عبدالله بن محمد الناصر كتاباً بعنوان (من أحاديث القرى) مع عنوان شارح تحت العنوان الكبير هو: (حكايات من ذاكرة الأرض).

وعدد الحكايات (25) حكاية ليست متفاوتة الطول إلى حد واضح بل هي متقاربة في هذا.

في رصيد النصار أربع مجموعات قصصية هي أشباح السراب، حصار الثلج، سيرة نعل، والشجرة، كما أن له إصداراً بعنوان: بالفصيح في السياسة والثقافة.

والرجل رغم مشاغله في العمل (هو الملحق الثقافي السعودي في المملكة المتحدة الذي يصدر مجلة راقية بعنوان (الثقافية) إضافة إلى عنايته بشؤون الطلبة المبعوثين)؛ أقول رغم مشاغله فهو منتج إبداعياً فعدا كتبه الصادرة التي أصبح عددها ستة كتب (مع هذا الكتاب) فإنه أعلن عن مجموعة كتب معدة للطبع، وربما نتمنى - نحن أصدقاءه المتواصلين معه - أن ينشر روايته (العرق الأخضر) و(العوجا) لما للرواية من أهمية في المدونة الأدبية العربية والعالمية والأكثر قبولاً وإقبالاً من القراء.

هذه النصوص التي جنّسها الكاتب (حكايات) هي في حقيقتها ليست من ذاكرة الأرض فقط، كما جاء وصفها في العنوان بل من ذاكرته هو (الكاتب) الراوي لها.

إنه يتذكر ويكتب ولعل ماركيز كان على حق عندما ذكر أن الكاتب يكتب طفولته (رأي لهذا المعنى تقريباً). ولكنا نحن الذين نتعاطى كتابة السرد نفعل هذا عندما نعود إلى تلك الأيام المنطوية تحت رداء السنوات في تراكمها السريع نجد أنفسنا وقد اتقدنا حيوية نحن الذين لا نتذكر أحياناً ماذا تعشينا قبل يومين.

إن الكتابة عن سنواتنا الأولى هي غالباً كتابة عن حالات النقاء والطيبة حيث كانت الأيام تمر وادعة والناس يعيشون على سجيتهم وبساطتهم بدون تعقيدات ولا حتى أمراض قاتلة لم يكن البشر يعرفها.

وقارئ حكايات صديقنا الناصر هذه يلمس إلى أي حد استطاع أن يتحلى بروح الدعابة. وليست هناك حكاية خلت منها، كأنها المحور الذي دارت حوله، أو كأنها المنطلق الذي حفزه للكتابة.

إذا ما وصف البعض تلك المرحلة بالزمن الجميل فإنه محق، إنه فعلاً كذلك، حتى أن المرء لا يستطيع أن يؤثر أي قبح فيه. كل شيء كان يسير بهدوء، الولادة، الزواج، الموت، ما دامت الحياة نفسها هي الأقوى والأبقى.

وقبل أن تحدث عن نماذج من حكايات الكتاب أقول: إن الكاتب قد اختار أن يكون أميناً للواقع وللأحداث كما جرت، حتى بأسمائها الحقيقية، ولم يغير فيها ولو أنه فعل ذلك لحولها إلى قصص قصيرة. وكلها تقريباً تصلح كنواع لهذه القصص مع تغييرات طفيفة لا بل إننا سنجد البعض منها هي قصص قصيرة فعلاً.

لقد ضحى الكاتب بمشروع كتاب في القصة القصيرة - هكذا أرى - لصالح صدق الحكايات وأمانتها لأنها توثق ما كان ولا تتصرف فيه، أو يسلمها للخيال السردي بكل ما فيه من مديات تحليق.

هنا أضيف أيضاً أن الناصر قد أوقع قارئه في سحر الحكاية وليس في سرّها فهي منفتحة على الواقع، آخذة منه، ولا تفرط في قرائه بل توظفه.

نعم سحر الحكاية - أو الحكايات - هنا يخلق بينها وبين قارئها علاقة وثيقة بحيث يتحوّل من إحداها إلى الأخرى دون ملل ينشد الاستزادة لأنه وجد نفسه وقد تواصل معها بوجدانية عذبة.

وقد حصل لي شخصياً أن قرأت الكتاب بتواصل ودون انقطاع مستلذاً بما فيه.

في (المقدمة) التي كتبها الكاتب بنفسه مدخلاً نراه يعترف فيه بأن (هذه الحكايات مزيج من الواقع وشبه الواقع، مزيج من القص والتقاط الصور) ويعترف بأنها (رسمت على لوحات جغرافية مكانية ضمن ظروف اجتماعية وثقافية لا يمكن لها أن تعود أو تتكرر).

كما أنه يؤكد بأن الأرض لم تعد هي الأرض أعني بالأرض: المكان القرية، والمزرعة والشارع، كل هذه الأشياء تغيّرت وتبدلت شكلاً وبناءً وجوهراً وكل هذه أمور صحيحة، فما أشار إليه لم يقتصر على المكان السعودي حيث دارت أحداث الحكايات بل وكل الأمكنة العربية.

هنا أشير إلى أن أمثلة جاءتني شخصياً من كتاب شباب جاؤوا في العقود اللاحقة، ومنها سؤال يتكرر: عن أي ناصرية تتحدث؛ والناصرية هو اسم مدينتي، ويوجهون هذا السؤال بعد أن يقرأوا عملاً قصصياً لي وبشكل خاص روايتي (القمر والأسوار).

بماذا أجيبهم وأنا نفسي لم أعد أعرف المدينة بعد أن غبت عنها سنوات؛ ويبدو لي أن الكاتب في أعمال من طراز (من أحاديث القرى) يقوم بإعادة بناء الماضي ولو كان ذلك في حكايات.

كانت قرى الجنوب العراقي مثلاً مبنية من القصب والبردي والطين، لكن الحداثة فرضت قانونها وسنجد بعد سنوات بدلاً من تلك البيوت الكئيبة قصوراً، فيها وسائل حديثة وعلى رأسها النور الذي يتيح للقروي أن يقتني الثلاجة والتليفزيون والمكيف!

وقرى (من أحاديث القرى) تسّربت وراحت وعلى أنقاضها بنيت مدن ولا أقول قرى فقط!

يعترف الكاتب في المقدمة أيضاً أنه لم يعد هناك اختلاف بين القرية والمدينة الذي لم يكن في طبيعة الحياة والعلاقات بل حتى في اللهجات (وكل الذي استطعت أن أفعله هو رصد بعض تلك الحكايات رصداً نفسياً وثقافياً وربما تاريخياً من خلال ما احتفظت به الذاكرة من تلك الذكريات والرؤى والمشاهدات التي خطرت وعبرت وظلت عالقة تلقي بظلالها على مشاعري وخيالي بل ولغتي ما بين فترة وأخرى).

مقدمة الكتاب بوح صريح لا يبعد كثيراً عن روح الحكايات التي لم تغادر ذاكرته حتى وهو في مسافته اللندنية.

تتصدر الحكايات حكاية عنوانها (الديمخراطية) وعنوانها وحده يميل إلى السخرية التي تهيمن على مناخ الكتاب، أما (الديمخراطية) هنا فهي التي توصل إليها أهل القرية لانتخاب أمام يصلي بأهل الحي في رمضان. فإمام مسجدهم لم يكن (حافظاً للقرآن ولا مجوداً ولا قارئاً جيداً).

أما (الديمخراطية) فهي اقتراح أكبر أهل الحي سناً بعد أن رشحت كل مجموعة إماماً وصار عدد المرشحين ثلاثة ولكن الشيخ (طوح بفكرة التصويت فوافقوا عليها بعد تردد) بعد انسحاب أحد المرشحين.

ثم توصلوا إلى اختيار إمام، كانوا سعداء به فهو (حسن الصوت، جيد الحفظ، مؤثر الدعاء).

وحصل أن هطلت أمطار كثيرة، وخرج الناس فرحين بها، كما خرج الإمام فلدغته أفعى حملها السيل ونقل إلى المدينة للعلاج وبقي مكانه شاغراً وبحثوا عمّن يقوم بالمهمة (فلم يجدوا في ليلتهم تلك إلا أستاذاً من بلد عربي يعمل في مدرستهم كان حاضراً الوليمة الرمضانية حيث دعاه صاحب المنزل معهم إكراماً لهذا الأستاذ الذي يدرّس ابنه).

وقع عليه الاختيار رغم أنهم اختلفوا (حول جواز الصلاة خلفه فهو حليق اللحية ويلبس البنطال، لبس الغربيين الكفار!).

وكان هذا الأستاذ بديناً ضخم الجثة لذا تمزق بنطاله بصوت سموع. آنذاك لم يستطع المصلون كتم ضحكاتهم (وأمضوا ليلتهم تلك في الضحك وبلا صلاة تراويح).

وقبل نهاية رمضان كان أهل القرية قد استبدلوا الإمام حيث جاء من كان المرشح الثاني وأمهم، ثم حصل أن شفي الإمام الملدوغ وعاد للقرية وسط حيرة السكان الذين (أصبح لمسجدهم إمامان). وهذا بعد مجادلة وأخذ ورد بين مواطني القرية وتوزعت المهام بينهما (أحدهما يصلي التراويح في أول الليل.. والثاني يؤمهم لصلاة القيام في آخره).

وعندما سمع أحد الفتية الذين كانوا يدرسون في الجامعة وقد يكون الكاتب نفسه - بالحكاية وأعجب بالفكرة وسمَّى ما حصل بالديموقراطية. وتحولت الكلمة إلى (الديمخراطية) على ألسنة السائلين من رواد المسجد وعبثاً حاول تصحيح اللفظ لهم ولم يفلح ولكنه شرحها بأن أصلها (غربي) وتعني المساواة.

(فضجّ الجماعة كلهم وقالوا: هل نقبل أن تكون ديموخراطية الكفار في مسجدنا؟) وتسبب هذا الشرح في إبعاد الأمامين معاً وجاؤوا بالمرشح الثالث الذي سبق أن انسحب!.

هذه الحكاية كما نرى تحمل دلالاتها الطريفة، فكل ما أتى من خارج المنظومة الاجتماعية والعادات والتقاليد مرفوض ما دام يأتي من الكفار (الاعتراض على المدرس لأنه يحلق اللحية ويلبس البنطلون وعلى مصطلح الديموقراطية رغم أن كل شيء بينهم قد مضى على ما يرام).

لكن هذا يحدث وهناك حكايات مشابهة في القرى العربية (لقد سمعت شخصياً شيخاً في قريتنا يحتج على ابنه لأنه لبس البنطلون لأن هذا أمر معيب فكيف للمرء أن لا يستر نفسه بثوب ويرتدي البنطلون الذي يعزل كل ساق عن الأخرى).

وإذا ما تجولنا بين حكايات الكتاب سنجد هذا المناخ، لنأخذ مثل حكاية (أبو نيوتن). هذا الرجل الذي يصفه الكاتب بأنه (رجل بين عقلين: عقل يقرأ ويلتهم كل ما يقرؤه، ويسمع ويحفظ كل ما يسمعه. وعقل فيه ضعف وسذاجة إلى درجة تجعل منه عقلاً أبله).

وهذا النموذج من البشر لا يمكنه أن يجد نفسه بين أناس بسطاء لذا يتحول إلى هزأة لهم والتصق به لقب (أبونيوتن) عندما سلّم على مجموعة من الشيوخ وحدثهم عن ابنه الوحيد الذي كان يصحبه وتوّرط في القول (إنني أتنبأ لابني هذا بأن يكون عبقرياً وربما تفوّق على (نيوتن) في اختراعاته ومبتكراته). وكان الطفل حافي القدمين لم يملأ عين أحد من الشيوخ الذين خاطبهم. وليته اكتفى بهذا بل نجده يؤكد: (هذا هو نيوتن السعودية).

واتهموه بالجنون وهرب من أمامهم وهو مؤمن أن ابنه سيكون مثل نيوتن.

عندما يروي الكاتب الحكاية يظل يردد بأسف: (ما أجمل تلك الأيام: ما أجمل تلك الأحلام).

لأن الايام كرت والسنون تدافعت وغاب أبونيوتن وولده، وبقيت حكايته.

ومن بين الحكايات الدالة والجميلة حكاية (ذو الحمارين) وهي عن رجل له حماران وزّع شؤونه بينهما - أحدهما لركوبه والآخر للحمل ونقل الأثقال. وترتب على هذا أن يكون حمار الركوب (مدللاً منعماً مترفاً يطعمه أفضل أنواع البرسيم والتمر والماء البارد) وعلى العكس منه الحمار الآخر الذي (كان ذا جسم فاره وجثة ضخمة). وفوق هذا كانت للحمار المدلل (حجيرة) فيها ظل وشمس ويأتيها الهواء. أما الآخر (فكان مربوطاً بحبل وفي حظيرة ضيقة لا سقف لها يحميه من حرارة الشمس أو زمهرير البرد).

ولكن هذه الحالة لم تدم. وتمرد الحمار المنبوذ وقطع الحبل الذي ربط به وهجم على (حجيرة) الحمار المدلل و(انقضّ عليه وأشبعه عضاً ورمحاً ورفساً حتى مزق جسده وحوله إلى كومة تحت حوافره) ثم ملأ بطنه بما يقدم للحمار المدلل وبعد ذلك نام (وكأنه يقول لنفسه أنى لي أن أنام شريفاً ذا كرامة).

لكن (ذو الحمارين) لم يغفر له ما فعله بحماره المدلل فضربه على رأسه بالفأس فأرداه قتيلاً وعبثاً حاول مداواة الحمار المدلل الذي فقد حياته من أثر ما حصل له بعد أيام قليلة.

وهكذا تحولت الحكاية إلى ألسنة الناس لتعيش في ذاكرتهم بعد ذلك حكاية (أبو حمارين) الذي أضاعهما معاً.

وللقارئ أن يمضي أبعد من الحكاية ويمكنه أن يورد عدة دلالات من وحيها. وهي تحتمل هذا بالتأكيد.

هناك في الكتاب حكايات مهمة أخرى مثل (دجاجات أم سالم) و(أبولو 77) و(المثقف) و(غدر) وغيرها.

هذه حكايات لولا المهارة السردية لمؤلفها القاص عبدالله بن محمد الناصر لما جاءت بهذه الفصاحة والبلاغة حيث اللغة التي تصل وتوصل ولا يحس القارئ أن فيها تعالماً عليه بل هي تتوجه له وتجعله مشدوداً إليها بل ومندمجاً فيها كأنها حصلت له شخصياً وكأنه راويها.

* صدر الكتاب من منشورات العبيكان - الرياض 1428هـ - 2007م عدد الصفحات 114 من القطع المتوسط.لندن


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة