الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

مفكرة
في رثاء الرثاء

لا يفجع الروح ويفطر الفؤاد مثل الفقد؛ إنه أكثر الأحزان والآلام إيغالا في الروح والبدن ذلك أن طعم مرارته يغص به المفؤود ليل نهار، ولا يستطيع التعايش معه أو استيعابه، وأكثر مرارات الفقد تجليا وفداحة هو الموت نهاية النهايات وغاية الغايات، ذلك أن الغربة والهجران والبعد وقسوة الحبيب - أي حبيب - هي فقد مرير لكنه ليس صريحا وناجزا مثل الموت، الذي يحضر بوصفه انبتاتا من كل شيء، ومع كل شيء، فأوجاع الافتقاد الأخرى تداوى بالوله والولع والوجد والشوق، غير أنه لا حل مع الاصطدام بحقيقة الموت، هذا الفقد النهائي الذي يستعصي فهمه وفلسفته.. ولهذا ربما كانت الفلسفة ذاتها في تعريف من تعريفاتها، كما رآها أفلاطون هي (تأمل الموت) ومحاولة تفكيكه ومقاربته.. ما معناه؟ من أين يجيء؟ وكيف؟ وماذا يريد؟
تكون مرارة الفقد أقسى ما تكون إذا اقترنت بالشعور بالعجز وانعدام الحيلة وإذا ما جاءت منطوية على تعسف وظلم واغتصاب كأن يسرق أحد ما روحا عزيزة يفترض محبوها أن ليس هذا أوانها، وأن يسلبها الحياة لتأويل ما بصورة ما، إنه القتل الخطيئة الآدمية الأزلية المزمنة.. لا بأس أن فشلت الإنسانية رغم كل ثوراتها وأطوارها العلمية والفكرية والسياسية والحقوقية والحضارية في أن توجد علاجا ناجعا يشفي الإنسان من الموت لأنه الفعل الذي ينهي كل الأفعال حسب عبد الرحمن بدوي، لكن فشلها الحقيقي الصريح هو في عجزها عن توصيف دواء يشفي الإنسان من داء القتل، النزعة (القابيلية) البشرية؛ لا الوحشية، فالوحوش إنما تقتل بسبب الغريزة والحاجة؛ أما الإنسان فيقتل لكل سبب ممكن وغير ممكن، صعودا حتى الذود عن النفس وهبوطا حتى الرأي والغيرة والسلب والتسلية..
من هنا يستعصي على الفهم وعلى القاموس تصور ماهية واسم هذا الشيء الذي يحدث في لبنان، وهو ما دعاه أحد كتاب النهار اللبنانية (تنينا) بدأ في التهام الصحافيين اللبنانيين، تنقضي كل كلمات المعجم العربي في البحث عن وصف لمرض وبلاهة وغرابة وحقارة ودناءة ووضاعة وصفاقة وإرهاب من يقدم على هذه الارتكابات، في مثل هذا العصر الشفيف، وبعد كل هذا المدى من أشكال التحضر.. لابد أن هذا القاتل لم يأتِ من الأرض السابعة إذ يمكن مع الكثير من الصبر الأيوبي تخيله، فهو آدمي ولا مفر، يقرأ (النهار) ولاشك، يشاهد (نهاركم سعيد) ولا ريب، يفخخ السيارات ثم يأخذ نفس أرجيلة ويعود لمشاهدة نشرة الأخبار، يخاف مثل الناس ثم يطمئن ثم يلتهم منقوشة بنفس مفتوحة ويشرب عصير الرمان.. إنه بالتأكيد ليس جنيا ولا مخلوقا مريخيا ولا آلة تمردت على مخترعها كما في السينما.. بعد ذلك يغدو كل الكلام في السياسة وكل التحليلات والمؤمرات في جانب وحرمان حي من حياته وأب من بناته إلى الأبد وزرع الحسرة في قلب محبيه وإصدار صك غير مبرر بانتهاء العمر دون أن يمتلك المغتصب حق هذه النفس لا بإيجادها أول مرة ولا باختراع سبب يمكن فهمه؛ في جانب آخر بعيد. ترى كم يحتاج المفؤود من الصفات غير البشرية لكي يتسامح ويغفر؟ وكيف يمكن التعالي على غصة وقهر كهذا؟
وأصعب من فهم هذا الابتكار الجهنمي والتفنن في القتل أسلوبا ومبررات وهذا الانفراد في الانحطاط لمستوى لم تتعرف إليه بعد الضواري والسباع؛ إيجاد كلمات لوصفه أو تكرار العبارات الحاضرة في الذهن سلفا حول الفقيد والفقد، لقد كتب في جبران تويني وسمير قصير وغيرهما من المراثي الشيء الكثير الجميل؛ لكن الحقيقة التي حفرتها التجارب على الجبين تثبت أنه لن يبقى بعد مدة وجيزة من المقالات الرثائية سوى ما يتحول منها إلى مشروع، إبداعيا كان أو فكريا أو ماديا.
كان الموت في الفكر الغربي محرك الفلسفات قديمها وحديثها، فمن تأمله قامت الثورات وتحركت الحركات، بينما اخترع الشعراء العرب فن الرثاء وصاروا أقدر الناس على تصوير فجيعتهم بالفقد ومدها حتى أقصاها، وتبارى فحولهم في رثاء الأبناء والآباء والأصدقاء ووصلوا إلى الأطلال والمنازل والمدن، حتى وصل أبو حكيمة الكوفي بالرثاء إلى آلته.
والرثاء التقليدي وجع عربي ذو امتياز خاص، يمتلك به الشعراء قدرة خاصة على إشراك سامعهم وقارئهم في مآسيهم، فقصيدة مالك بن الريب التي يتلهف فيها على صباح الغد فقط ويتعجب ممن يدفنونه ويطلبون منه ألا يبتعد، وقصيدة ابن زريق الذي يتشوق إلى قمره ببغداد طالعا من فلك الأزرار؛ تبكيان الحجر،ولا مثيل لهما في تصوير أوجاع الروح وندمها وخوفها، ومثلهما اشتهرت قصائد متمم بن نويرة في أخيه مالك الذي لاتتخيل الدنيا بعده، وقصيدة أفيون التغلبي الحكيمة الحزينة وأبي ذؤيب الهذلي في بنيه، وابن الرومي في ابنه والخنساء في أخيها.. لكن أولئك جميعا لم يمتلكوا غير هذه الأداة (الشعر) ولهذا كانت لائقة بهم.
والفارق بين الرثاء الجيد والنواح يسير، ذلك أن المناحات هي نوع من الشكوى الأنانية وإن تضمنت مدحا في الفقيد وثناء على مناقبه، فقد حدث أن رحل إعلامي وصحافي وديع فتكاثر محبوه على ندبه وتوديعه وكتبت مئات المقالات والخواطر ونشرت عشرات التعازي والتأبينات لكنها يا للأسف لم تتجاوز ذكريات شخصية أو انفعالات قد تكون صادقة لكنها غير ذات بال الآن بعد أن جف حبرها، هذا فضلا عن أن كثيرا من الرثاء يستحق الرثاء، الصفحات الكاملة ملونة أو سوداء، والقصائد نبطية أو فصيحة لا تقول شيئا خارج ما تعنيه لحظتها، أما ما يخرج عن اللحظة إلى حالة الخلود فهو عمل رثائي آخر يتطلب وعيا آخر.
هناك رثاء مفتقد وفقيد، وهو أفضل التكريم للراحلين بلا ديباجات ولا مدائح وإعجازات، وإنما أن يتكثف الحزن إلى أفكار وإلى وفاء وإلى خلود، وليس في الأدب العربي الحديث نموذج مفرد واستثنائي وصريح لرثاء بهذا المستوى من الرقي مثل العمل العظيم الذي أنجزه عبدالرحمن منيف في صديقه (الباهي) الصحافي الموريتاني السنغالي المغربي وسماه (عروة الزمان الباهي)، إذ تأخذ مرارة الفقد عند منيف شكل الفجيعة والألم بصورة أكثر نبلا وإبداعا، حيث جعل من سيرة صديقه نصا عربيا فريدا.. رثاء نثري لا كمثله رثاء.. يقول منيف مصرحا بفلسفته في التعبير عن الحزن مازجا بين أوجاع الباهي الشخصية وأوجاع جيله صبيحة الخامس من حزيران 67:(من البلاهة في حالات الحزن الكبرى اللجوء إلى استعمال كلمات فخمة، مستقرة، معروفة، للتعبير عن لوعة القلب، عن طعم الرماد، عن ذاك الذي يعصف بالنفس قويا، جامحا، وإن يكن بصمت، ليجعل كل شيء دون معنى، أو بأقل أهمية تتراءى للإنسان. إنها الحالة التي لا يجب أن توصف مادامت تعاش، مادامت قوية إلى درجة لا تترك مكانا لشيء غيرها).
لا نصوص موجوعة وراقية في وجعها، ومهذبة ونبيلة في حزنها؛ مثل التي بثّها منيف في كتابه، فالحزن عنده لم يخل من تفجع ولوعة لكنه جعلها لوعة خاصة، ولهذا مضى منيف يرثي أصدقاءه في كتابه (لوعة الغياب) مفلسفا في مقدمته ماهية المرثيات كما يفهمها.
حينما تتأمل الصفحات والجهود التي تنفق في الرثاء تدرك أن بعضها مخلص، ولكنه في غيرما جدوى، فالرثاء لا يلخصه التعريف المدرسي البائس (مدح الميت!)، وإنما هو تحدي الغياب عبر إعادة الفقيد إلى الحياة بشكل أكثر ألقا وإعجازا.


ماجد الحجيلان
hujailan@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved