الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

وعشتُ في حياتهم
أبو عبد الرحمن ابن عقيل
شيخ الكتاب في عصره

من حسن حظي.. في باكر حياتي..
متلهفاً على القراءة والكتابة، أن عِشتُ في حياة شيخي (أبو عبد الرحمن محمد بن عمر بن عقيل) (الظاهري)، ويبدو أن لحظات قدرية سانحة جمعتني به، فتعلمت من ملازمته على مدى سنوات متصلة قليلة، ما لم أكن لأتعلمه سنوات كثيرة في مقاعد الدراسة والعلم.
وعلى طريقة علماء السلف، كانت علائم الرضاء تبدو على عزائمه، فيدنيني منه، ويفتح لي كنوز معرفته، وأساليب تناوله لكثير من المسائل في البحث والمناقشة، في قديم المعارف وفي حديثها.
وكان يقول لي باستمرار: (عبد اللّه إن العلم يؤخذ جثواً على الركب)، وكنت - حينذاك - أجتهد في تفسير هذه المقولة، فأجد مدلولها المباشر، أن العلم لا يُكتفى بأخذه في مقاعد الدراسة عبر ساعة من الدراسة التي تمثلها (الحصة المدرسية) أو (المحاضرة الجامعية)، وإنما يأتي العلم بأن تستوي جالساً متحفزاً على ركبتيك أمام شيخك، وتقلب الكتب المتناثرة عن يمينك وعن شمالك، وتضع علامة في بطن هذا الكتاب، وتقلب الآخر ريثما تعود إليه، فلا تكتمل الإحاطة بموضوع ما، إلا بالبحث في جميع الكتب التي تعرف أنها تناولته، فتقرأها وتناقشها، وتقارن بينها، وتحلل ما ورد فيها، وتقول رأيك بعد أناةٍ وصبرٍ على قراءة (المتون)، وألا يفتنك رأي يوافق هواك، فتتعصب لهذا الرأي، فربما كان يجافي الصواب.
وهذا ما تعلمته خلال نصف عمر مع القراءة والبحث والكتابة، ومن خلاله أدركت المعنى الذي كان يرمي إليه.
وهو ما لا يعترف به - الآن - رواد (الإنترنت) الباحثون عن المعرفة السريعة. قبل أن ألازم شيخي أبا عبد الرحمن، كان اسمي قد بدأ طريقه إلى الظهور في (اليمامة) أولاً و(الجزيرة) و(مجلة العرب) لصاحبها ورئيس تحريرها العلامة (حمد الجاسر)، وكان النشر في مجلة العرب يمثل بالنسبة إلي نوعاً من الإجازة والاعتراف الأدبي، ثم بعد ذلك (البلاد) وكان رئيسها - حينذاك - الأستاذ (عبد المجيد شبكشي)، وبعد ذلك أصبحت محرراً أدبياً في (الرياض)، وتتابع الانتشار إلى صحف أخرى مثل (عكاظ) و(المدينة).
لكن المحطة المهمة والأولى في حياتي كانت (دار الكتب الوطنية) التي عملت فيها موظفاً إدارياً، تعرفت فيها على كنوز المعرفة، كتب التراث والكتب المعاصرة، ثم جاءت الرحلة الأولى إلى القاهرة، فأصبح المشهد الثقافي بقديمه وحديثه مفتوحاً أمامي، أما المحطة الثانية المؤثرة في حياتي الثقافية، حين بدأت ألازم شيخي أبا عبد الرحمن، ولا بد أنه لمس هذه الجاهزية في مريده، فقربه منه ومنحه من علمه، ومن ذائقته اللغوية والتراثية، وانفتاحه على المعاصرة.
وعلى ما تبدو عليه صبغته التراثية، أسلوباً حينما يكتب، وهو (الظاهري) الثاني بعد صديقه (أبا تراب الظاهري) وفاء لشيخه (ابن حزم الأندلسي الظاهري) فإنه كان أكثر حداثة ومعاصرة، ممن لبسوا رداء المعاصرة والحداثة لوجاهة أدبية، فكان لباسهم واهناً، في حين كان لباسه متيناً سميكاً، لأنه كان يجمع بين أسرار الأصول ومسالك المعاصرة، ولم يكن في أبحاثه التراثية مجتزاً، وإنما كان مضيفاً، وفي معاصرته مؤصلاً، بل إنه صاحب نظرية، كنظريته في شعر الخيَّام التي لم يسبقه إليها باحث أو دارس لرباعيات الخيَّام.. أو في بحثه الذي قدمه لمؤتمر الأدباء السعوديين الأول في مكة المكرمة الذي نظمته جامعة الملك عبد العزيز عن (تفعيلات الشعر الحر) واستدراكاته على (نازك الملائكة) في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، وما تلا ذلك من أبحاث وكتب ألفها تتسم بالجدة والإضافة، وتصادف أنني قدمت بحثاً للمؤتمر عن نفس الموضوع - دون أن يعلم أي منا عن ذلك - وكان بحثي عن الإطار الموضوعي والتجديد في حركة الشعر الحديث (الحر)، وقبل أن ألقي ملخصاً لبحثي في المؤتمر، طلبت أن أقرأه عليه في الليلة السابقة لصباح ذلك اليوم، وتعهد بمساعدتي في تشكيل مادته وإصلاح ما بها من خلل لغوي ونحوي.
لم أعرف في حياتي إنساناً يحب المعرفة، ويعشق جمع مصادرها، وينفق في سبيل جمعها غيره، وقصصه في هذا كثيرة، لم أشاهد منزلاً امتلأت جدرانه حتى سقفها بالكتب غير بيته.
في أوائل التسعينيات الهجرية العامرة بالزاد والتكوين الثقافي بالنسبة إلي، لازمته وكان منزله في ضاحية الشميسي، كنت آتيه بمجلة (الآداب) التي كنت أحرص على الحصول عليها بطريقة غاية في الطرافة، فقد كنت ألجأ إلى سائقي السيارات في حي الغرابي، المسافرين إلى الكويت، والدول المجاورة، وأدفع ثمنها مع أجرة جلبها إليّ، فتصل إليّ بهذه الطريقة، وكنت أستعين بمادتها في (ملحق الرياض الأدبي) ويتلقفها ويقرؤها، وحين يفرغ منها يأتي دور (الرباعيات) رباعيات عمر الخيام، وترجماتها التي جمعنا منها أكثر من ثلاث عشرة ترجمة إلى العربية - على ما أتذكر - فيقارن بينها ويحللها، فضلاً عن الكتب التي تناولت الرباعيات بالبحث والدراسة، وكان يركز اهتمامه على كتاب فاضل عبد الحق (ثورة الخيام)، وقائمة طويلة بكتب المتصوفة، وحتى آثار الكتاب الرومانسيين - عرباً وغير عرب - المترجمة.
وأقطاب الرومانسية من أمثال (وود ورث) و(شيللي) و(بايرون) والأحدث (جون كيتس) كنا ندرسها ونراجعها ونقارن ذلك بأقطاب الرومانسية في أدبنا العربي، بدءاً من (محمود حسن إسماعيل) و(علي محمود طه) (المهندس) ويناقش كتاب (نازك الملائكة) عن (علي محمود طه) مروراً بالشابي الذي افتتنت به وبشعره، وكتبت عنه سلسلة من المقالات.
أما عن (عمر الخيام) ورباعياته، فقد كان يُخصص لها أياماً، للقراءة والبحث والكتابة، كان يبحث ويقارن ويناقش (جثواً على الركب) وأنا بجانبه، ودائرة تحيط بنا، هي الترجمات العربية للرباعيات، والكتب التي تناولتها، وخلص من ذلك إلى منحى جديد لم يناقشه كل من كتب عن الخيام ورباعياته، وهو المنحى الفلسفي الصوفي في الرباعيات، كقوله: (انضو عن خدك الغبار برفق، فهو خد لكاعب حسناء) تلك الفكرة التي كان يُلحّ عليها الخيَّام، وهي تحول البشر إلى ذرات ترابية بعد الممات، وربما تم استعمالها بعد ذلك في تشكيل الأواني التي يستعملها الأحياء في حياتهم، هذه الفكرة سبق إليها أبو العلاء المعري، لكن الخيَّام طورها إلى معنى فلسفي صوفي.
أما شيخي (أبو عبد الرحمن) فقد أسماها (الفناء الباقي في رباعيات الخيام) وأخذ يُملي عليّ كل يوم مبحثاً، تعلمت منه أسلوباً في تناول النصوص الصعبة والتفكر فيها وتحليلها تحليلاً شاملاً، وكان يبعث بحلقات ذلك البحث إلى جريدة (المدينة) التي كانت تنشرها في صفحتها الأدبية أيام (سباعي عثمان) وكان يُصرّ على أن يضع اسمي إلى جانب اسمه ككاتب لهذا البحث الجديد في منحاه، وحتى الآن.
وحينما جمع مادة ذلك البحث وأصدره في كتاب؛ جعل اسمي أيضاً مقروناً باسمه في تأليف الكتاب، مع أنه لم يكن لي في كل ذلك إلا المشاركة في تجهيز بعض النصوص، وكتابة المادة التي كان يمليها عليّ.
وليس من تفسير لذلك غير أنها خصلة العلماء التي تتجرد من حب الذات، بل يمنح ذاته للآخرين.
هذه الصفات تشف عن إنسان عذب في المعشر، كريم في وفادة القادمين إليه.
وهو على هذا القدر من العلم والمعرفة، يتسم بإنكار الذات، بسيط في مظهره، عفوي التصرف في حياته ومعاشرته للناس، يُذكرني بأحد علماء الأندلس (عبد المجيد بن عبدون) حينما جاء إلى بيت أحد الولاة في قرطبة (مؤدِّباً) - أي معلماً - لابن هذا الوالي، فاستقبله الابن، وكانت صفات البساطة والمظهر تبدو على هذا العالِم، فلم يُعرِه الاهتمام والاستقبال الذي يليق، وقد ذهب الابن يخبر أباه أن شخصاً ينتظر، ووصفه له، فقال الأب لابنه: ويحك هذا شيخك (ابن عبدون) من أيسر محفوظاته كتاب (الأغاني) وكتاب الأغاني كان حِمْل جمل، وفي عصر الطباعة يقع في أكثر من ثلاثين مجلداً لأبي الفرج الأصفهاني، موسوعة في الشعر والأدب والتاريخ والاجتماع في عصره. وفزع الوالي إلى استقبال العالِم دون أن يكمل هيئته. إذا كان في عالمنا العربي عشرة مثقفين بالمعنى العلمي والأنثربولوچي للثقافة، فإن أبا عبد الرحمن بن عقيل واحد من أولئك.
ولو كان يجيد لغة أو لغتين من اللغات العالمية المؤثرة، لأصبح واحداً من أبرز المفكرين في عالم العولمة، لكن عيبه على رأي شيخه (ابن حزم) حين قال عن نفسه إنه شمس في العلوم، لكن عيبها أن مطلعها الغروب، إذ كان ابن حزم في المغرب العربي، وألق الخلافة والذيوع كان في المشرق العربي، يوم أن كان للشرق تألق مبهج.
أما اليوم، فقد انعكست النظرية تماماً، فأصبح التألق غرباً والظل شرقاً، فعيبه أن مطلعه الشرق.


عبد الله الماجد

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved